نضوج المقاصد الإلهيّة

نضوج المقاصد الإلهيّة

الأرشمندريت توما بيطار

 

“خرج يسوع من تخوم صور وصيدا، وجاء فيما بين تخوم العشر المدن إلى بحر الجليل”. أوّلاً، علينا أن ندرك أنّ صور وصيدا هما ناحية وثنيّة، وكذلك العشر المدن. يسوع، إذًا، كان يتنقّل بين المناطق الوثنيّة والمناطق اليهوديّة. لكنّ الكلام على هذه النّواحي الوثنيّة يبقى وكأنّ يسوع يلامسها لمسًا، يبقى في حدود تخومها؛ فهو لم يشأ أن يُعثر اليهود. وعلى الرّغم من ذلك، صنع أشفية عديدة عند الوثنيّين. السّاعة لم تكن قد حانت، بعد، ليخرج يسوع إلى الوثنيّين بالكامل، لكنّه كان يشير إلى ما هو آتٍ. تعامله مع الوثنيّين دلّ على أنّ الوثنيّين، أيضًا، سوف يكونون شركاء في الخلاص، وفي عمل الله. شهادته، مثلاً، لإيمان المرأة الكنعانيّة وقائد المئة دلّت على أنّه كان يجد الكثير من الخير والبركة فيما بين الوثنيّين. علينا أن نفهم من هذا الكلام أنّ النّاموس الطّبيعيّ، عند العديدين من الوثنيّين، لم يكن منثلـِمًا، لم يكن مجروحًا. كثيرون منهم كانوا أنقياء، إلى حدّ بعيد. هذا معناه أنّ الوثنيّة لم “تضرب” النّفوس، في المناطق الوثنيّة، بصورة كاملة. الرّبّ الإله كان عنده شهود، بمعنًى من المعاني، في هذه النّواحي الوثنيّة. وهذا يؤكّد ما ورد في سفر أعمال الرّسل أنّ الرّبّ الإله لم يترك أمّة من أمم الأرض من دون شاهد (أع20: 21).

إذًا، على الرّغم من الوثنيّة وممّا فعلته الوثنيّة، وعلى الرّغم من كون الشـّيطان قد عشـّش بين الوثنيّين بشكل كبير؛ فإنّ الرّبّ الإله كان يفتقد الأمم بطرق هو يعرفها. كان لهذه الأمم شهود عديدون يشهدون لله. طبعًا، هذا نجد له صدًى، حتّى منذ العهد القديم. ملكصادق، مثلاً، لم يكن يهوديًّا، بل أمميًّا. ومع ذلك، استبان باعتباره إناءً لله، باعتباره إنسانًا مستعدًّا لأن يتقبّل ما هو لله. إذًا، يسوع، من خلال الأشفية الّتي كان يقوم بها، ومن خلال تماسّه وتخومَ المناطق الوثنيّة؛ كان يشير، دائمًا، إلى حنانٍ تجاه الوثنيّين وما يعانونه، سيّما وأنّه أتى “ليخلّص ما قد هلك” (متّى18: 11). كلام الرّبّ يسوع كان، دائمًا، أكثر بكثير من حدود الذّهنيّة اليهوديّة العنصريّة. وهذا هو ما كان سببًا لسعي اليهود للتّخلّص منه.

“فجاؤوه بأصمّ أخرس”. كان مرقس الإنجيليّ يتحدّث عن كون يسوع في تخوم مناطق وثنيّة، ثمّ يأتي الكلام على أصمّ أخرس. هل كان أمميًّا؟! ليس واضحًا. لكن، وقوع الكلام على الأصمّ الأخرس بعد الكلام على النّواحي الوثنيّة، ربّما، يشير إلى ارتباط الأمرين معًا. ربّما كنّا، هنا، بإزاء عمليّة شفاء لها معنًى، بالنّسبة إلى الوثنيّين، بعامّة. إذًا، “جاؤوه بأصمّ أخرس، وطلبوا إليه أن يضع يده عليه”. مرقس الإنجيليّ يحبّ، دائمًا، أن يصوّر يسوع وهو يستعمل حواسّه: يضع يده، يضع أصابعه… مرقس يؤكّد أنّ تعاطي الرّبّ الإله مع النّاس هو تعاطٍ في الحسّيّات، أيضًا. “طلبوا إليه أن يضع يده عليه”: عبارة “أن يضع يده عليه” لها معنيان: المعنى الأوّل، أن يشفيه، أن ينقل إليه نعمة تشفيه. والمعنى الثّاني، أن يصير سيّدًا عليه، وكأنّ الأمم توجَد، هنا، ممَثَّلةً بالأصمّ الأخرس، بالأصمّ الـ”مضروب”، الّذي لا يستطيع أن يسمع كلام الله. وهو، أيضًا، أخرس؛ لأنّ الأصمّ لا يستطيع أن يتكلّم. الّذي لا يسمع كلام الله، لا يستطيع أن يتفوّه به. وهنا، إذا ما ربطنا ما بين الأمرين، ما بين الوثنيّين وهذا الإنسان الأصمّ الأخرس؛ فإنّنا نكتشف أنّ الصَّمَمَ والخَرَسَ ناتجان من الشـّيطان. هناك نزعة لدى بعض الإنجيليّين، بصورة عامّة، إلى تصوير الأمراض وكأنّها، دائمًا، من آثار عمل الشـّيطان في نفوس النّاس. إذًا، يسوع مدعوّ إلى أن ينتزع “ملكيّةَ” هذا الإنسان المريض. يسوع مدعوّ إلى أن ينتزع “ملكيّةَ” الأمم من الشـّيطان.

“فأخذه من بين الجمع على حـِدة”. طبعًا، الرّبّ يسوع لا يميل، أحيانًا كثيرة، لا سيّما عند مرقس، إلى إظهار الأخبار، بشأن قوّته الإلهيّة، وإشاعتها. لا يحبّ أن يجعل ممّا يفعله مشهدًا للنّاس، لكي لا يُحدث بينهم اضطرابًا ليس ضروريًّا، ولا لزوم له. إذًا، “أخذه من بين الجمع على حدة، وجعل أصابعه في أذنيه، وتفل، ولمس لسانه”. لاحظوا الكلمات الحسّيّة الّتي يستعملها الإنجيليّ مرقس: “جعل أصابعه في أذنيه”! لم يجعل إصبعًا واحدًا في أذنيه، بل أصابعه، “وتفل، ولمس لسانه”. كلّ هذا تأكيد لإنسانيّة الرّبّ يسوع، ولكونه يجعل الحسّيّات مجالاً لتجلّي الإلهيّات، ولا يكتفي بالكلمة. بهذا المعنى، يصوّر القدّيس مرقس الرّبَّ يسوع باعتباره إنسانًا مشرقيًّا، بكلّ معنى الكلمة؛ إنسانًا يستعمل حواسّه، بشكل كليّ وكامل. “ثمّ نظر [يسوع] إلى السّماء متنهّدًا، وقال: إفّثا، أي انفتح”. إذًا، هناك شيء كان مُغلَقًا على الأمم، بفعل الشـّيطان، لئلاّ يسمعوا، ولئلاّ يتكلّموا بالكلام الإلهيّ. هنا، كأنّي بيسوع يفتتح عهدًا جديدًا، بالنّسبة إلى الأمم: “إفّثا”! الرّبّ يسوع يشاء لهذا الانغلاق، بين الأمم، أن يأتي إلى نهاية. يريد أن يُزيل كلّ حاجز يفصله عن الأمميّين، ويفصل الأمميّن عنه. “نظر إلى السّماء متنهّدًا”! تَنَهُّدُ الرّبِّ يسوع له، دائمًا، دلالة؛ لأنّ فيه شيئًا من توجّع، وشيئًا من صلاة، أيضًا. الرّبّ يسوع كان، دائمًا، في وضع الصّلاة، في علاقته مع أبيه. نظر إلى السّماء، لأنّ الانفتاح يأتي من فوق. الله هو الّذي يأخذ المبادرة. نحن لا يمكننا، أبدًا، أن نخرج من الحفرة الّتي أسقَطَنا فيها الشـّيطان، منذ السّقوط إلى اليوم. إنّما الرّبّ يسوع هو القادر، بنعمة منه، على أن يُخرجنا من هذا الضّياع، من هذا الضّلال، من هذا السّقوط.

ويتابع مرقس الإنجيليّ كلامه بعبارة مفصليّة، كثيرًا ما تتردّد عنده: “في الحال، انفتح مسمعاه، وانحلّت عقدة لسانه، وتكلّم بطلاقة”. في أوّل الأمر، انفتح مسمعاه، فأخذ يسمع. بعد ذلك، بصورة تلقائيّة، وكنتيجة لِما حدث من جهة مسمعيه، انحلّت عقدة لسانه، وصار بإمكانه أن يتكلّم. ولاحظوا ما يقول: “وتكلّم بطلاقة”. لم يتكلّم بلعثمة، بل بطلاقة! الله يشاءُ للأمم أن يتكلّموا بالكلام الإلهيّ بطلاقة؛ لأنّه هو، من ناحيته، فتح مسامعهم، وحلّ عُقَدَ ألسنتهم. بعد ذلك، يقول مرقس إنّ يسوع أوصى الجموع، ولا يقول إنّه أوصى هذا الإنسان الأصمّ الأخرس. هذا، بمعنًى من المعاني، يشير إلى أنّ المقصود كان الأمميّين، وليس شخصًا واحدًا. يسوع، دائمًا، من خلال ما يفعله بصورة ظاهرة، يشير إلى ما هو غير ظاهر، إلى ما هو أبعد ممّا يفعل. إذًا، “أوصاهم ألاّ يقولوا لأحد”. إذا كانوا أمميّين، فطبعًا، نحن بإمكاننا أن نفهم أنّ يسوع لا يشاء أن يُعثر اليهود. وإذا كانوا يهودًا، فنحن نعرف، أيضًا، أنّ يسوع لا يشاء أن يُغيظ رؤساء الكهنة، والفرّيسيّين، والكتبة، والصدّوقيـّين، والهيرودسيّين، الّذين يتربّصون به شرًّا. ساعته لم تكن قد حانت، بعد. لهذا، كان، دائمًا، يوصي، بخاصّة في إنجيل مرقس، بعدم إشاعة أخباره كثيرًا، حتّى لا يستعجلَ السّاعةَ الأخيرة. يسوع كان ضابطًا للوقت، وكان كمَن يشدّ الحبال بطريقة تتيح له أن يتحكّم بالحاضر وبالآتي.

“غير أنّهم، كلّما أوصاهم، يزدادون نداءً”. على الرّغم من أنّه أوصاهم، إلاّ أنّهم، بعض الأحيان، كانوا لا يسمعون، وكأنّ نفوسهم ملّت الصّمت. كانوا يحتاجون إلى أن يتكلّموا؛ وكيف لا، وقد فتح مسامعهم، وحلّ عُقَدَ ألسنتهم؟! كانوا يزدادون نداءً، ينادون بيسوع، ينادون بما فعله يسوع! كأنّي بالحالة العامّة، إذًا، في ذلك الحين، وقد أخذت بالانتفاخ، إلى أن بلغت حدًّا نضجت معه المقاصد الإلهيّة؛ فصار كلّ شيء يسير باتّجاه الصّليب والقيامة. “وكان يشتدّ دهشهم قائلين: لقد أحسن في كلّ ما صنع! جعل الصّمّ يسمعون والبكم ينطقون”. عند أشعياء النّبيّ، حين يأتي المسيح، في الزّمن المسيحانيّ، هناك علامات تظهر، كأن يتكلّم البكم، والصّمّ يسمعون؛ وكأن تنفتح أعين العميان، وتُطرَد الشـّياطين، ويتنبّأ الصّغار والكبار… كلّ هذه علامات أخذت تظهر، هنا وهناك؛ ممّا شكّل تأكيدًا أنّ الزّمن المسيحانيّ قد حلّ، ونبوءة أشعياء وسواه من أنبياء العهد القديم تتحقّق، الآن، في شخص يسوع المسيح.

نحن، دائمًا، عرضة لأن نعود إلى وثنيّاتنا، بعودتنا إلى خطايانا، وأهوائنا، وسلوكنا على نحو وثنيّ. هذا كلّه، الّذي قرأناه وشرحناه، يدعونا، بصورة متواترة، إلى أن نلتمس مجاورةَ يسوع، ملامسةَ يسوع، مجالسةَ يسوع؛ حتّى يتسنّى لنا أن تنفتح مسامعنا، مرّة بعد مرّة، وأن تنحلّ عقد ألسنتنا؛ لأنّنا نحتاج، ما دمنا على قيد الحياة، هنا، إلى يقظة وانتباه؛ ونحتاج إلى عمل الله المتواتر؛ إذ إنّنا معرَّضون، بصورة دائمة، لانتكاسة، وللعودة إلى خنزيريّة المسرى، إذ بذلك ننتبه ونحرص على أن نبقى، دائمًا، في حال من التّوبة؛ حتّى يتسنّى لنا أن نثبت إلى المنتهى. ومَن يثبت إلى المنتهى، فهذا يخلص.

آمين.

عظة حول مر7: 31- 37، السّبت 28 آذار 2009

Leave a comment