الفرح الأعظم – الخورية سميرة عوض ملكي

الفرح الأعظم

الخورية سميرة عوض ملكي

 

لا تكاد نشرةٌ من نشرات الأبرشيات تخلو من النقاط الأساسية في الحديث عن عيد الفصح. لكن كما أنّه يستحيل إحصاء نقاط الماء في البحر، هكذا الحروف لا يمكن لها أن تحصر الكلمة (يسوع). وبما أنّ قرّاء هذا الموضوع هم في غالبيّتهم من المؤمنين الذين من المُفتَرَض أن يكونوا قد قرأوا نشرة أبرشيتهم، سيتناول موضوعنا هذا فكرة “الفرح” وهي من أهمّ النقاط التي قد يكون البعض ممّن كتبوا قد تطرّقوا إليها هنا وثمّة، إلا إنّ أحداً لم يَفِها حقّها.
إذا عُدنا إلى الوراء، إلى أناجيل الآلام في خدمة سحر الجمعة العظيمة عشيّة الخميس العظيم المقدّس، نجد في بداية الإنجيل الأول الآية: “الآن تمجّد ابن الإنسان وتمجّد الله فيه” (يوحنا 31:13). هنا يكشف الإنجيلي يوحنا بوضوح أنّ أسمى ظهور للمجد الإلهي قد سطع في الصلب. لهذا، تبدأ الكنيسة احتفالها الفصحي بهذه الكلمات، أي أنّ الفصح يبدأ يوم الجمعة وليس الأحد. ففي التقليد القديم، لم تكن لفظة الفصح تشير إلى الأحد كما هي الحال اليوم، بل إلى السرّ الثلاثي الأيام غير المنقسم: الجمعة والسبت والأحد. فهذه الوحدة وهذه العلاقة المتبادَلة بين يوم الصلب ويوم القبر ويوم القيامة، هي التي ستكشف لنا كيف يكون العبور بالصليب عبوراً إلى “الفرح الأقصى” أو “الفرح الأعظم”. وهذا ما تؤكّده الكنيسة في تكرارها سحر كلّ أحد: “بالصليب أتى الفرح لكلّ العالم”.
لكي يختبر المرء أو المؤمن هذه النعمة أو عطية الفرح هذه، عليه أن يكون في الكنيسة في الفترة الفصحيّة ليتذوّق شخصياً فرح الاشتراك في الزمن الجديد، زمن الملكوت. لأنّ الفرح لا يمكن تحديده ولا تحليله وإنّما ندخل إليه “ادخلوا كلّكم إلى فرح ربّكم”. ولا سبيل للدخول إلى الفرح وعيشه إلاّ من خلال الكنيسة، لأنّ لها قد أُعطي أن تكون شاهدة له لتغيّر هيأة العالم به. إلا أنّها وللأسف بدأت تخسر هذا الفرح العظيم عندما كفّت عن الشهادة بثقة له، وهذا ما علينا أن نستعيد معناه وأن نشترك فيه.
لكن أيُعقَل أنّ الفرح يأتي بالصليب؟ كيف نفرح بمسيح مصلوب؟ وما هو هذا الفرح؟
إنّه الفرح بعودة الحياة. لأنّ المؤمن الحقّ لا يكون مؤمناً ما لم يدرك، وبطريقة تتخطّى العقل، أنّ المسيح هو حياة كلّ حياة، وأنّ ما يعطي الإعلان عن موته والاعتراف بقيامته معنى هو اقتناء المسيح كحياة، وكفرح وسلام بالشركة معه والثقة بحضوره. ولأنّ هذا العالم الذي تخلّى عن الله استحال إلى ظلمة خالية، كان لا بدّ من وجود مَن يقف في وسط هذا العالم، يلحظه ويعاينه من جديد ممتلئاً من الكنوز الإلهية، وكأنّه كأسٌ ممتلئة حياة وفرحاً وجمالاً وحكمة، ويشكر الله عليه، لأنّ هذا هو العالم الذي أراد الله.
إنّ هذا الشخص هو المسيح، آدم الجديد، الذي يستعيد بذاته تلك الحياة الشكريّة التي رذلتُها أنا آدم العتيق وأضعتُها. إنّ هذا الشخص يعيد إليّ حياتي ويعيد العالم إليّ (شميمن). وبهذا يكون يوم الجمعة العظيمة، أي يوم الصلب، فعلاً يومَ هذا العالم الشرير النهائي. لأنّ فيه المسيح الذي يقف في الوسط أمام محاكميه ويُدان ويُهزأ به ويُسَمَّر على الصليب ويتألّم ويموت، هو وحده الذي ينتصر، لأنّ طاعته ومحبته وغفرانه تعلن كلها أنّها قد انتصرت على هذا العالم. وهذا ما يجب أن يشعر به كلّ مؤمن حقيقي ساعٍ لأن يكون على غرار معلّمه فيقيمه الله كما أقام ابنه لأنّه لا قيامة بدون موت، وبعد الصلب يأتي يوم السبت العظيم المقدَّس، يوم انتصار الموت ظاهرياً، فيما هو يوم هزيمته النهائية أمام المسيح. فالذي أسلم نفسه إلى الموت بملء إرادته، يصير بريئاً من الموت فيحطّم الموت بالحياة والمحبة اللتين هما موت الموت. وعندما يقيمه الله من بين الأموات في اليوم الثالث، فإنّ حياته، التي لم يعد للموت أيّ سلطان عليها، تظهِر حضور الله في وسطنا. وهذا هو بالتحديد مدار الفرح الفصحي.
ومع أنّه بالمسيح قد غُفِرَت كلّ الخطايا، إلاّ إنّ واقع الحال هو أننا نتخلّى عن المسيح باستمرار ونقطع أنفسنا عن حياته فنموت روحياً. المعركة بين آدم العتيق وآدم الجديد هي معركة طويلة وموجعة وهي جوهر صليبنا. فيأتينا سرّ التوبة كقوّة للمعمودية الفاعلة فينا، هذه القوّة هي التي تزرع الفرح حتّى في وقت الضيقات. فهي التي جعلَت الشهداء يستشهدون بفرح، والرسل يُضطَهَدون بفرح، وهي التي تحفظنا على الطريق التي خطّها السيد. هكذا تأخذنا التوبة، أيضاً وأيضاً، إلى فرح المائدة الفصحية. فمِن هذا العالم بالذات يُعلَن الملكوت الذي ليس من هذا العالم ويتجلّى، بوصفه حياة جديدة، في عالمنا حيث تدوّي الصرخة الإلهية: “افرحوا”، منذ الآن وحتى اكتماله النهائي في الله.

Leave a comment