القيامة – الأرشمندريت كاسيانوس عيناتي

القيامة

الأرشمندريت كاسيانوس عيناتي

 

النصوص الليتورجية والآبائية تُظهر قبل كلّ شيء أنّ القيامة هي غلبة الحياة المحيية على الموت والجحيم. أمّا الموت فلا يعني فقط نهاية الحياة، ولا الجحيم هو حالة روحية في ما وراء الموت. ولكن الأول والثاني يجسّدان حالة وجودنا المظلمة وذروة يأسنا الهالك حيث يرتجف كلٌّ منا مع الشعور بأنّه خسر كل شيء وحتّى حياته نفسها. وبالرغم من الحنان والجمال اللذين يغمراننا، هناك الانسلاخ الذي لا مفرّ منه، الانسلاخ عن الحياة الذي يدعوه القديس غريغوريوس النيصي “الحياة المائتة”. ولكن فجأة من أعماق الجحيم يستمع الرب إلى صوتي، فجأة الصليب يظهر كشعاع لا ينهزم ويقلب حائط السياج الفاصل. نعم، الصليب هو شعاع نور يضيء في ظلمات الجحيم فينساب نهر الجحيم في بحيرات فصح الرب. نعم، بتنازله اللامتناهي وبآلامه وموته وقبوله اللعنة، قبِل المسيح أن تدخل فيه حالة الجحيم الساقطة حتى إلى ثقل التجديف “إلهي إلهي أنظر لماذا تركتني؟” فالكآبة والغصّ والكره وألم الانفعال كلها قد دُمِّرَت بالذي لا يُغلَب لأنه ثقة وحب واتّحاد لا ينفد. فالهوّة التي أنشأتها حرية الإنسان تبخّرت كنقطة زهيدة في عمق نار الألوهة. فالجحيم نفسها ابتُلِعَت في ملء الذي –وهو مالئ الكلّ- استطاع أن يقول لشريكه في الحكم: “اليوم تكون معي في الفردوس”.
فبنزوله إلى الجحيم، أنزل المسيح الحبَّ إلى الكائن الروحي المثقَل هناك بالحقد والكراهية. فهكذا الجحيم طُعِنَت وفنيَت بالنار الإلهية التي قبِلَت في قلبها المطعون في جنبه بحربة لخلاصنا نحن المرتلين “مبارك أنت أيها الإله الفادي”. فالمسيح مات ليقوم الإنسان، وبالقيامة، أعاد الإله-الإنسان وحدة البشرية بكاملها به. وهذه القيامة تخصّ الكون بكامله أيضاً، لأن جسم الإنسان لا ينفصل عن جسم الكون. بعض نقاط من الدم أعادت بناء الكون بكامله، يقول القديس غريغوريوس النزينزي. فهذا البناء الجديد يصبح حقيقة بواسطة الأسرار الإلهية في الكنيسة التي هي سرّ المسيح القائم: حيث ينقلب الموت إلى حياة بالروح القدس المحيي؛ وكل مناسبة للموت تصبح موتاً قيامياً، ذبيحة حية بقوة الروح القدس “معطي الحياة”، فبالمعمودية التي نحن بحاجة ماسة إليها في كل يوم حتى لحظة النزاع الأخير، ننزل بكامل وعينا إلى الجحيم لملاقاة المسيح القائم، “حتى إذا غُرِِسنا معه على شبه موته فنكون على شبه قيامته أيضاً” (رو 5:6). إذاً المعمودية هي أصلٌ وجَذرٌ في المسيح ولكنها لا تبلغ أوجها إلا في سرّ الإفخارستيا الإلهي حيث الروح القدس الذي حلَ فينا بالمعمودية يجعلنا غرسة واحدة وكائناً واحداً مع القائم: إخوة له بالدم وأعضاء جسده الممجد. وهكذا يكون جسد المصلوب جسداً إفخارستياً بالروح القدس للبشرية قاطبة وللكون بأجمعه. فالمسيح بموته لا ينفصل عن شيء ولا عن إنسان. وفي ظفره على الموت، ظفَر على كل انفعال. لذلك لا يستطيع تيار الإلحاد اليوم أن يستقيم ولا تستطيع حضارات العالم وقوّته ووسعُ إطار معرفته أن تستوي إلا إذا أدركت معنى القيامة.
اليوم، البشرية تهرب من الموت ولكنها تسلك طرقاً تؤدي إلى الانتحار. لذلك يجب على المسيحيين قبل كل شيء أن يعلنوا ويذيعوا عن فرح القيامة ويجعلوه مشعاً من خلال ممارستهم الليتورجية وشهادات القديسين: بكل حركة من حركات حياتهم اليومية، إن كان ذلك في الصلاة أو في المهَن، أو الفن، أو العلم أو بكل وجه حضاري. أن يعبّروا بحنان كبير ومحبة صادقة نحو العالم وهم يجاهدون بثبات وعزم ضد كل أشكال الموت الحالّة فينا أو حولنا أو في المجتمع أو في العالم. لأن قيامة المسيح ليست فقط على أزلية النفوس بل تتخطّى ذلك لتشمل كل الأرض، الكائنات، الأشياء، الزمن، الوجوه، الأجساد، القش اليابس، والغيوم الرقيقة. كل شيء يجب أن يجد محلاً في جسم المسيح القائم الممجَّد. على هذا المنحى القيامي، نحن مدعوون عبر التاريخ أن نهيئ المجيء الثاني للمسيح والكلّ قادر على ذلك ولو كان مسمّراً على فراش الموت. قليل من الثقة، قليل من الحب، من الفرح، من الصلاة المتواضعة والانسحاق يسمح لقوى القيامة أن تجري في العالم.

Leave a comment