بعض الملاحظات حول الاعتراف – المتقدّم في الكهنة ألكسندر شميمن

بعض الملاحظات حول الاعتراف

المتقدّم في الكهنة ألكسندر شميمن

نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي

 

1. لا شكّ في أنّ الاعتراف هو أحد أوجه الرعاية الأكثر صعوبة وإحباطاً بالنسبة لكل كاهن حي الضمير. فمن جهة، هنا يلتقي القصد الوحيد الحقيقي لرعايته: النفس البشرية، الإنسان، واقفاً في حضرة الله، خاطئاً وبائساً. وهنا أيضاً، من جهة أخرى، يدرك درجة تغلغل المسيحية الإسمية في حياة الكنيسة. المفاهيم المسيحية الأساسية حول الخطيئة والتوبة والمصالحة مع الله وتجديد الحياة لم تعد صلبَ الموضوع. فهذه التعابير، ولو كانت ما زالت قيد الاستعمال، إلا إنّ معناها مختلف كثيراً عن المعنى الذي بُني عليه إيماننا المسيحي برمّته.
2. مصدرٌ آخرٌ للصعوبات هو التشويش النظري، أو حتى اللاهوتي، في طبيعة سرّ الكفارة. في الممارسة، الفهم الشكليّ والشرعي لهذا السر، وهو فهم من أصل غربي “لاتيني” (نسبة إلى لاتين روما)، يتواجد بتناقض ظاهري مع اختزال غير مفهوم للاعتراف إلى علمٍ للنفس. في الحالة الأولى، يأتي الإنسان إلى الكاهن، يعترف بانتهاكاته للناموس المسيحي، ويأخذ الحلّ الذي يؤهّله للسرّ التالي، أي المناولة. الاعتراف الصحيح مخفّض هنا إلى الحدّ الأدنى، وفي بعض الكنائس قد استُبدِل بصيغة عامّة يقرؤها المعترِف. كلّ التركيز هو على سلطة الحلّ عند الكاهن التي تُعتَبَر “شرعية” بغضّ النظر عن حالة نفس المعترِف. في الحالة الأولى، تتكشّف ميول لاتينية ويمكن وصف الحالة الثانية بالبروتستانتية. يتمّ التعاطي مع الاعتراف وكأنّه “مشورة” أو معونة وحلّ للصعوبات والمشاكل وحوار، ليس بين الإنسان والله، بل بين الإنسان ومرشد يُفتَرَض أنّه حكيم وخبير وصاحب إجابات جاهزة لكل المشاكل البشرية. كلا النزعتان، في أي حال، تحجبان وتشوّهان الفهمَ والممارسة الأرثوذكسيين للاعتراف.
3. تعود الحالة القائمة إلى عوامل عديدة. وبالرغم من جلاء استحالة تعداد كل هذه العوامل أو حتى إيجاز التطور التاريخي المعقّد لسرّ التوبة، لا بدّ من بعض الملاحظات الضرورية قبل أن نناقش بعض الحلول الممكنة.
أ) بالأصل، فُهِم سرّ التوبة ومورِس كمصالحة للمقطوعين، أي المطرودين من الكنيسة، جماعة شعب الله، التي ملؤها في الاشتراك في جسد المسيح ودمه. المقطوع هو مَن لا يستطيع أن يقدِّم وبالتالي أن يتلقّى. كانت هذه المصالحة عملية طويلة والحلّ ختمَها الأخير، رمز وصورة “التوبة”، أي رفض التائب وإدانته لخطيئته ولتغرّبه عن الله، واعترافه (أي إعلانه وإدراكه) الفعلي بها كخطيئة. فكرة سلطة الحلَ لم تكن قائمة وكأنها “قوة بذاتها”، مستقلّة عملياً عن التوبة. كانت بالحقيقة الرمز الأسراري لتوبة مقبولة أتت إلى ثمارها. لذا، كانت الكنيسة، بشخص الكاهن، تشهد على وجود توبة حقيقية وأن الله قَبِلَها، و”صالح التائب وأتحده” مع الكنيسة. أياً تكن التغيرات في ممارسة السرَ، فهذا المعنى الأوّل والأساسي ما يزال نقطة الانطلاق لفهمه أرثوذكسياً.
ب) أيضاً منذ البداية، تضمّنت الرعاية في الكنيسة الاهتمام بالنفوس، أي الإرشاد في الحياة الروحية، مساعدة الإنسان في عراكه مع آدم القديم في داخله. ولكن في البداية لم يكن الإرشاد ضمن سرّ الاعتراف، لكن تحت تأثير الرهبنة ونظريتها وممارستها الشديدتا التطور في هذا المجال، صار الإرشاد جزءً أساسياً من الاعتراف. مع ذلك، ولوقت طويل، بقي هذا الإرشاد، في الرهبنة ذاتها، متميزاً عن الاعتراف الأسراري وغالباً ما أوكِل إلى رهبان غير إكليريكيين. ما جعله وجهاً أساسياً من الخدمة الرعائية، وتقريباً المحتوى الأساسي للاعتراف، كان الدهرنة (secularization) المتدرّجة للمجتمع المسيحي. بعد قسطنطين، لم تعد الكنيسة أقليّة من المؤمنين أصحاب الفكر البطولي، بل نسبت بين ذاتها والعالم وصار عليها أن تتعاطى مع جماهير من المسيحيين الإسميين الذين يحتاجون للمساعدة والإرشاد المستمرّ والاهتمام الشخصي. التغيّر الهامّ في الممارسة الإفخارستية (من شركة وحدة كفعل جوهري للعضوية في جسد المسيح، إلى مناولة فردية مختلفة التواتر) تمّ في الفترة ذاتها وتحت تأثير نفس العوامل، ما عنى تحوّلاً حاسماً في فهم التوبة: من سرّ للمقطوعين من الكنيسة، صار سراً للذين في الكنيسة. تحوّل التركيز اللاهوتي من التوبة إلى الحلّ، وكأنّه عملياً العنصر الأساسي الجوهري الوحيد في السرّ.
ج) إن دهرنة المجتمع المسيحي جعلته مفتوحاً ومتلقياً للفلسفات الإنسانوية والواقعية في الحياة التي أظلمَت فكرة المسيحية حول الخطيئة والتوبة بشكل جوهري. مفهوم الخطيئة كانفصال عن الله، عن الحياة الحقيقية الوحيدة فيه ومعه، حلّ محلّها تدريجياً نوع من القانونية الأخلاقية أو الطقسية حيث الخطيئة تعني بالدرجة الأولى انتهاك أحد القوانين القائمة. في مجتمع متمحور حول الإنسان ومكتفٍ بذاته مع أخلاقياته في النجاح واللياقة الظاهرية الصرفة، خضعت هذه القوانين لتحوّل جوهري. لم يعد يُنظَر إلى هذه القوانين كمعايير مطلقة، وتحوّلت إلى مجموعة قواعد أخلاقية مقبولة اجتماعياً. فيما مسيحي القرون الأولى كان يعرف دائماً أنه خاطئ وأن خطاياه تُغفَر، من دون أي أهلية له، وأنّه يَُدخَل إلى خدر العريس ويُعطى حياة جديدة ويُصَيَّر مشاركاً في الملكوت، فإن المسيحي المعاصر، لكونه في عيني المجتمع إنساناً محتَرَماً و”شخصاً لطيفاً”، فإن نظرته لنفسه “إيجابية” وينعم دائماً باحترام الذات بكل معنى الكلمة. إن نظرة الإنسان المعاصر للحياة، وهي التي بدورها تحدّد فهمه للدين، تستثني بالكليّة أي بُعد ذي عمق، سواء بُعد تغرّبه عن الحياة الحقيقية (الخطيئة) أو بُعد الحياة الجديدة في المسيح. بين الحين والآخر هو يقترف بعض الانتهاكات، وهي بالتأكيد عادية جداً وثانوية! ولكن بالنهاية: مَن لا يرتكب مثل هذه؟ لقد عرّفتُ مؤخّراً حوالي الخمسين شخصاً في إحدى الرعايا النموذجية في بنسلفانيا، لم يعترف أيّ منهم بأي خطيئة. ألا تخبرنا وسائل الإعلام يومياً بأننا نعيش في أفضل المجتمعات الممكنة وبين أفضل الموجودين من الناس؟ يبدو أن “المسيحيين” يأخذون هذا التأكيد بجدية.
د) في النهاية، نجحت الدهرية في ضمّ الرؤساء والكهنة أنفسهم إلى صفوفها. تقوم حياة كنيستنا ببساطة على نظام من المديح والتزلّف المتبادَلَين. الرعية دائمة السرور بنفسها وتتطلب من الكاهن أن يشكر باستمرار شعبه “الرائع” على مساهماتهم، جهودهم، مساعدتهم وكرمهم، وأن يكون المرآة التي بها يمكنهم أن يكبِروا ذواتهم. هذه الروح ذاتها، روح النجاح، “الجوار الحَسَن”، والنشاطات الخارجية تعمّ حياتنا من فوق إلى أسفل. نجاح الكنيسة يُقاس من خلال الحضور، الثروة المالية وعدد “مشاريع” الرعية من مختلف الأنواع. أين مكان التوبة في كلّ هذا؟ إنّها بالفعل غائبة عن كلّ نسيج تعليم الكنيسة وسلوكها. يمكن للكاهن أن يدعو أبناء رعيته إلى إنجازات مادية “أكبر وأفضل”، ويمكنه بين الحين والآخر أن يعبّر عن عدم رضاه عن “حضورهم” و “تعهدهم”، يمكنه أن يحارب الماسونية ولجنة الكنيسة، لكنه هو نفسه لا يفكّر بعالم “شَهْوَةَ الْجَسَدِ، وَشَهْوَةَ الْعُيُونِ، وَتَعَظُّمَ الْمَعِيشَةِ” (1يوحنا 16:2). هو نفسه لا يؤمن بالكنيسة كخلاص من يأس الخطيئة وظلمتها، ولا كمؤسسة لإرضاء “الحاجات الدينية” للأعضاء الملتزمين. في هذه الشروط الروحية، في هذا الوضع المسيحي المنحول، لا يمكن للاعتراف أن يكون إلاّ ما هو عليه بالفعل: إما “فرض ديني” إضافي يُنجَز مرة في السنة تطبيقاً لمعيار قانوني مجرّد، بحدّ ذاته نهاية واقعية لا نتائج روحية لها مطلَقاً، أو من ثمّ، مناقشة لمشاكل المرء (لا خطاياه، لأن الخطيئة لا تعود “مشكلة” ما أن تُدرَك طبيعتها)، هذه المشاكل التي في أغلب الأحيان لا حلّ لها لأنّ الحلّ الوحيد هو التحوّل إلى المسيحية الحقيقية.
4. أيمكن ترميم النظرة والممارسة المسيحيتين بالفعل؟ نعم، إن كنّا نملك الجرأة لمعالجة المسألة من جذورها لا ظاهرها وحسب.
نقطة البداية لهذا الترميم هي في الوعظ والتعليم. إلى حدٍ ما، كل الوعظ المسيحي والتعليم يدعوان إلى التوبة، إلى تغيير الفكر وإعادة تثمين القيَم على ضوء المسيح. ما من حاجة للوعظ بشكل ثابت عن الخطيئة، للمحاكمة والإدانة. عندما يُواجَه الإنسان بالمحتويات الفعلية للإنجيل، بعمقه الإلهي وحكمته وجماله ومعناه الغامر، يصير قادراً على التوبة، لأن التوبة الحقيقية هي بالتحديد اكتشاف الإنسان للهاوية التي تفصله عن الله وعن عرضه الحقيقي للإنسان. عندما يرى الإنسان خدر العريس مزيّناً يدرك أنّه بلا لباس للدخول إليه. الكثير من وعظنا شكله فروضٌ مجردة: تقول الكنيسة أن نعمل كذا وكذا؛ لكن سرد الواجبات ليس وعظاً. يتضمّن الوعظ الرغبة بأن يصل إلى الناس المعنى الإلهي الإيجابي، لأن هذا المعنى هو الوحيد الذي يعطي هذه الفروض معنى و يجعلها محيية ومخلِّصة. ينبغي أن يتضمّن الوعظ المسيحي نقداً عميقاً وبنّاءً لفلسفة الحياة الدهرية وتقييماً للحضارة التي نعيش في خضمّها. على المسيحيين أن يحاربوا الأصنام دوماً، وهناك الكثير منها اليوم: “النجاح”، “المادية”، “الأمان”، “محورية المال”، وغيرها… إذ هنا مجدداً، وفقط ضمن هذا الحكم على هذا العالم، الحكم المسيحي الواسع فعلياً، يستعيد مفهوم الخطيئة معناه الحقيقي كانحراف للمحبة والاهتمام، كعبادة لقيَم ومعايير لا قيمة لها. هذا يعني بالتأكيد أن الكاهن المتحرّر من هذا التحديد للعالم قادر أن يضع الحقيقة الأبدية، لا الاعتبارات العملية، محوراً لخدمته. ينبغي أن الوعظ والتعليم يتضمّنان عنصراً نبوياً، أي عنصراً من الحكم الإلهي، دعوةً للتأمّل ملياً بكلّ ما في هذا العالم بعينَي المسيح.
5. إذاً، ينبغي استبدال الاعتراف على ضوء سر التوبة. فكل سرّ يتضمّن على الأقلّ ثلاثة عوامل على نفس الدرجة من الأهمية: التهيئة، الطقس الليتورجي، والإنجاز. إذا كانت حياة الكنيسة بالكامل، والوعظ والتعليم بشكل خاص، على نحو ما رأينا، هي تهيئة للتوبة بالمعنى الواسع فهناك مكان وحاجة للتهيئة الخاصة. لقد خصّصت الكنيسة فترات للتوبة: الصوم الكبير، صوم الميلاد، وغيرها من الأصوام. هنا الليتورجيا نفسها تصير مدرسة للتوبة (على سبيل المثال، الثروات التي لا تنفد في التريودي)، وهنا الوقت المناسب لتركيز الوعظ على سرّ التوبة نفسه. تسلسل القراءات الإنجيلية، المزامير، التسابيح والصلوات تمدّنا بمادة غزيرة، يكون هدف الوعظ تطبيقها على الناس وحياتهم ووضعهم الفعلي. الهدف هو إثارة حالة التوبة فيهم وجعلهم يتفحّصون حياتهم، لا من خلال خطايا وانتهاكات معزولة، بل من خلال دوافعها الأكثر عمقاً. أين هو الكنز الفعلي لقلوبهم؟ ما الذي يقودهم في حياتهم؟ كيف “يشعرون” بالزمن الغالي الذي منحهم إياه الله؟ ما معنى هذا التقدّم السريع نحو النهاية المحتومة؟ الإنسان الذي يفتّش في المحفّزات العميقة لحياته، الذي فهم ولو لمرّة أنّ الحياة بجملتها يمكن ويجب أن تُعزى للمسيح، هو على طريق التوبة التي هي دائماً تحوّلٌ وتغيّرٌ للفكر ورؤية متجددة وقرار بالعودة إلى الله. ينبغي بالضرورة أن تتضمّن التهيئة شرحاً عن الاعتراف: ترتيبه، صلواته ومعناه.
6. يتألّف طقس الاعتراف من أ) صلوات قبل الاعتراف، ب) نصائح للتائبين، ج) الاعتراف ود) الحلّ.
يجب عدم إلغاء صلوات ما قبل الاعتراف. فالاعتراف يتجاوز مستوى الحوار الإنساني ومستوى التسليم الفكري المجرّد بالإثم. فقد يقول الإنسان أنه مذنب دون أن يحسّ بأي توبة. كلّ الأسرار هي أفعال تحوّل. التحوّل الأول في سر التوبة هو بالتحديد تحوّل الاعتراف البشري بالانتهاكات إلى توبة مسيحية، أي إلى أزمة مطهِّرَة للنفس البشرية التي تتحوّل نحو الله ومنه تتلقّى رؤية كلٍ من الخطيئة ومحبة الله الغامرة التي “تغطّي” تلك الخطيئة. لكن هذا التحوّل يتطلّب المعونة الإلهية وصلوات قبل الاعتراف تستحضر وتدعو هذه المعونة. إذاً، هذه الصلوات هي جزء أساسي من السرّ.
بعد الصلوات تأتي التوجيهات. إنها ذروة الدعوة إلى التوبة الحقيقية “لستَ تعترف لي بل لله الذي أنت ماثل أمامه”. لكنّه من الأساسي ألا يكون الكاهن واقفاً تجاه التائبين عند تلك اللحظة المهيبة عندما يشير إلى حضور المسيح. أفضل أشكال النصح هي في مماهاة الكاهن لنفسه مع كل الخطأة. “نحن كلنا نخطأ…” فهو ليس مدّعياً ولا شاهداً صامتاً. إنّه صورة المسيح الذي يحمل خطايا العالم، ومحبته الفاعلة هي التي تحرّك الناس إلى التوبة. الميتروبوليت أنطوني، معلّم الرعاية الروسي، حدّد جوهر الكهنوت بأنه “محبة شفوقة”. التوبة هي سر المصالحة، أي سر المحبة، لا الحُكم.
للاعتراف نفسه عدة نماذج. لكن، بما أن التائب لا يعرف عادةً أين يبدأ، فإن من مهمة الكاهن أن يساعده. الحوار هو بالتالي الشكل الأكثر عملانية. ومع أن كل الخطايا هي بالجوهر خطايا ضد الله، ضد حقيقته ومحبته، يُنصَح بتقسيم الاعتراف إلى ثلاث أجزاء:
أ) العلاقة مع الله: أسئلة حول الإيمان نفسه، حول الشكوك الممكنة أو الانحرافات، الصلاة، الحياة الليتورجية، الصيام وغيره. الكثير من الكهنة يحصرون الاعتراف بالأعمال غير الأخلاقية، ناسين أنّ الجذر العميق لكل الخطايا هو في الإيمان الضعيف أو المشوّه، في نقص محبة الله.
ب) العلاقة مع الناس: المواقف المبدئية كالأنانية ومحبة الذات، عدم الاهتمام بالآخرين، نقص الانتباه والاهتمام والمحبة. يجب الإشارة إلى كل أعمال الإساءة الفعلية وإظهار خطئها للتائب: الحسد، النميمة، القسوة وغيرها
ج) العلاقة مع النفس: خطايا الجسد، التي تعاكس النظرة المسيحية للطهارة والاحترام “الشامل” للجسد كأيقونة للمسيح، إلخ. نقص الاهتمام الجدي، نقص كل جهد حقيقي لتعميق الحياة؛ الكحول، فكرة “المتعة” الرخيصة، عدم المسؤولية، العلاقات العائلية… يجب ألاّ ننسى أننا بالعادة نتعامل مع إنسان غير معتادٍ أن يفحص نفسه، مواقفه من الحياة شكّلتها المعايير الشائعة، وهو من حيث المبدأ مكتفٍ بذاته. إن وظيفة المعرِّف تقضي بأن يهزّ هذا الموقف “البرجوازي التافه”، ويظهر للتائب الأبعاد المسيحية الحقيقية للكمال، ويتحداه بفكرة الصراع الدائم. ما من أمل بمَسحَنة حياتنا الكنسية الناعمة التي مركزها المجتمع ما لم يدرك الناس أنّ الرؤية المسيحية للحياة مأساوية.
نصيحة أخيرة لختم هذا الحوار: على الكاهن أن يدعو التائب إلى التغيير الضروري. الله لا يسامح الإنسان ما لم يرغب الأخير بحياة أفضل ويتخذ القرار بمحاربة خطاياه ويبدأ الصعود نحو الله. ما يبدو مستحيلاً عند الناس، ممكن عند الله. يجب أن يكون هذا الشرح الأخير عمل إيمان: حاول والله يساعدك لأنه وعد بذلك…
ومن ثمّ، وفقط بعد هذا، يأتي الحلّ، كتتمة لكل هذا: الاستعداد والمجهود، التعليم والتأمّل، النصح والاعتراف. مرة أخرى، من وجهة نظر أرثوذكسية، لا يمكن أن يكون هناك حلّ ما لم يكن هناك توبة. الله لا يقبل إنساناً لم يأتِ إليه. و”المجيء” هو بالتحديد التوبة، عمل “التحوّل”، التغير الحقيقي الحاسم في مجمل موقف الإنسان. أن نفكّر بالحلّ وكأنّه محض “سلطة”، شرعية وفعّالة ما أن يتلفّظ به الكاهن، هو انحراف عن الأرثوذكسية نحو أسرارية سحرية و”قانونية” مرفوضة من روح الكنيسة الأرثوذكسية وتقليدها بالكامل.
7. إذاً، يجب ألاّ يُعطى الحل للإنسان إذا كان
– غير أرثوذكسي، أي إذا كان يرفض علناً وبكامل إرادته تعاليم الكنيسة الأساسية
– يرفض أن يتخلّى عن حالة الخطيئة، على سبيل المثال، الزنا أو السرقة أو ممارسة مهنة غير شريفة، وغيرها
– يكتم خطاياه أو لا يعترف بأنها خطايا.
في أي حال، علينا أن نتذكّر أن رفض إعطاء الحل ليس عقاباً. حتّى القطع في الكنيسة القرون الأولى كان يُعلَن على رجاء شفاء الإنسان. فهدف الكنيسة هو الخلاص وليس الحكم أو الإدانة. على الكاهن أن يتأمّل دوماً في مصير الإنسان بشكل عام، يجاهد لتحويله ولا أن يتبع قاعدة شكلية من العدالة. نحن نعرف أن الراعي الصالح يترك التسعة والتسعين خروفاً لكي يخلّص واحداً فقط. هذا يترك حرية كبيرة للكاهن الذي يُفتَرَض به أن يتبع ضميره الكهنوتي، لذا عليه أن يصلّي قبل أن يقرّر أيّ شيء وعليه ألا يكتفي بالتطابق الخارجي مع القوانين والتوجيهات.

St. Vladimir’s Seminary Quarterly, Vol. 5, No. 3, Fall, 1961, pp. 38-44

Leave a comment