التفسير الليتورجي ومعنى الكتب المقدسة

غاب مارتيني

نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي

ينحو بعض الباحثين المعاصرين ومعهم بعض المسيحيين إلى مقاربة دراسة الكتاب المقدس وكأنه علم آثار. بدلاً من تلقي الكتب المقدسة على أنها التقليد المبثوث من الله في حياة الكنيسة، يُفصَل النص عن إطاره المتجسّد، مخضَعاً للتحليل العلمي. فيما بالطبع يمكن تعلّم الكثير من معرفة اليونانية والآرامية والعبرية، هذا ليس هدفاً بحد ذاته. فالطرق التفسيرية الشائعة كالنحوية – التاريخية هي حديثة ومعابَة من عدة أوجه. وفي الحقيقة، لا ينبغي اعتبار أي من المقاربات أو الطرق أفضل من الباقين. في النهاية، هذه المقاربة برمّتها تقوم على أساس مشلول. فالكتب المقدسة ليست صندوق كنز ينتظر مَن يفكّ أختامه بالمفتاح المناسب، ولا هي حصراً لاستعمال نخبة أكاديمية وحسب.

يكمن في قلب هذا المشروع المضَلَّل الحديث رغبة بالعودة إلى نص أو معنى أصلي للكتاب المقدس. لكن هذا يلتمس السؤال حول ما إذا كان النص أو التفسير الأصلي قد كان موجوداً في الأصل. لطالما كان التفسير العلمي محكوماً باهتمام مهيمن لتثبيت النص والمعنى الأصليين. لكن هناك الكثير من الظروف التي يكون فيها هذا الأمر ملائماً أو كاملاً. فالكتب المقدسة لا تنتمي ببساطة إلى نصّها الأصلي، فقد قُرأت وأعيدت قراءتها لقرون. عندما نوقّر كتاب الأناجيل نعترف به كشيء من الحاضر يجسّد المسيح من الآن وصاعداً. الكتب المقدسة ليست نصاً من العصور القديمة وحسب؛ إنها نور وحياة؛ إنها شهادة إلهية لكلمة الله الحقيقي، يسوع المسيح. في حياة الكنيسة الليتورجية، ينفخ الروح القدس المعنى والفهم معاً في هذه الكلمات عندما يتمّ إعلانها عن المنبر. هذا ما يسمّى الاستعمال الليتورجي للكتاب المقدس“.

إن طريقة فهم الكنيسة للكتابات المقدسة في كنيسة العصور الأولى وعبر العصور، قبل ابتداء محو الأمية بشكل واسع ومجيء المطبعة، كانت كيف نستعمل هذه الكتابات في احتفالاتنا اليومية والأسبوعية والسنوية. فيما الكنيسة تتحرّك عبر السنة من ميلاد والدة الإله (8 أيلول) إلى رقادها (15 آب)، القراءات مختارة بتأنٍ ومعلَنَة لشعب الله، ساكبة معنى غالباً ما يكون لا مفرّ منه وجلياً. إن بشارة المسيح وحياته تُقَدَّم لنا في صلواتنا وترانيمنا، وفي هذه الخبرة الشركوية يضيء نور الكتاب المقدس زاهياً.

إن دعاة الطرق المنعزلة كمثل المقاربة النحوية – التاريخية (التي لها استعمالاتها على الأكيد) يناقشون بأنه من الممكن إيجاد هذه المقاربة الأثرية لدى آباء الكنيسة في العصور الأولى، أو عند كتّاب كنسيين آخرين كمثل أوريجنس. يؤكّد الأب أندرو لوث (من الكنيسة الروسية، وأستاذ اللاهوت الأرثوذكسي في جامعة درهام في بريطانياالمترجم) أن نية أوريجنس الأصلية لم تكن الرجوع إلى نص أصلي بل بالأحرى جمع كل طبعات النص في مكان واحد، حتى يكون ممكناً تقديرها ودراستها وإعلان قيمتها كلّها: جمع أوريجنس في القرن الثالث الترجمات المختلفة وجدولها في ستة أعمدة في عمل بحثي ضخم سُمّي Hexapla. لم يكن هدفها، كما يؤكَّد دائماً، تمكين أوريجنس من تثبيت نصٍ أكثرَ صحةً من نص السبعينية، بل بالأحرى كشف غنى المعنى المتضمّن في كتابات العهد القديمهناك عملية طويلة من اكتشاف كلّ ما في شهادة الكتابات العبرية حول مجيء المسيح.

عندما يتعلّق الأمر بدراسة النصوص الكتابية وفهمها، يوجد في التقليد الشرقي الأرثوذكسي مقاربة ذات مستويات. ابتداءً بالأناجيل على أنها المركز لأنها تحمل شهادة عن كلمات يسوع المسيح وأعماله، تتلقّى الكنيسة وتعلن طيف الكتاب المقدس بملئه، وكل من الأناجيل لوحده، لا كمثل مجموعة مسطحة من النصوص الدينية المنزهة عن السقوط، بل بالأحرى كجسم من شهادة ذات أهمية متفاوتة، بعضها حاسم بشكل واضح، كونها شاهدة مباشرة للمسيح، فيما غيرها أقل قيمة.

يشرح الأب لوث أيضاً كيف يتم استعمال شكل أو أفضلية هذه النصوص في حياة الكنيسة العبادية: “معايير الأهمية مرتبطة بطريقة ما بالشكل الذي اتخذت الكنيسة به الأناجيل في خبرتها. يوجد تراتبية أو شكل: كتاب الإنجيل في الوسط، الرسول يحيط به، ومن ثمّ تنوّع من نصوص العهد القديم، يتمّ التوصّل إليها بشكل عام ليس عبر بعض الفصول التي تسمّى الإنجيل، بل من مختارات موجودة في الكتب الليتورجية، إلى جانب نصوص أخرى: ترانيم، مقاطع آبائية، وغيرها. على هذا، للكتاب المقدس شكل مرتبط باختبارنا له“.

إن المتآلفين مع الليتورجيات الأرثوذكسية والكاثوليكية هم في إلفة مع الدور الرئيسي الذي يلعبه كتاب الإنجيل في الطقوس والزياحات. فمركزية الإنجيل أساسية سواء في النظر إليه أو في سماع كلماته. هذا الكتاب المذهّب نكَرَّمه، نقبّله، نحمله وندور به، ونضعه بتوقير في وسط الهيكل، أي المكان الأكثر شرفاً في هندسة كنيستنا، وهو مكان رمزي لقدس الأقداس وجوهرياً محراب السماء الأبدي.

بدل السعي إلى طريقة واحدة لفهم الكتب المقدسة، نحن نفضّل المقاربة الآبائية ذات الأبعاد الأربعة: الحرفي، الأخلاقي، الاستعاري، والروحي (anagogical):

القراءة الحرفية للنصوص المقدسة هي الفهم الجليللحدث. عندما سار يسوع في البرية، كان يسير في البرية. عندما يذهب بطرس إلى سطح منزله ليصلّي في ساعة معينة، هذا ببساطة ما جرى.

القراءة الأخلاقية هي الأكثر شيوعاً في الوعظ الأرثوذكسي؛ أي الآثار الأخلاقية للانجيل أو الرسالة كما تنطبق على الجماعة لتحريك السلوك الأخلاقي والتوبة الحقيقية على حد سواء. بالنسبة لأولئك الأكثر دراية بتقليد الوعظ الإنجيلي في العقود القليلة الماضية، يكون هذا تطبيق العظة أو كيفية أخذ ما نسمعه من الكتاب المقدس وتطبيقه على حياتنا اليومية.

يوجد النهج الاستعاري في كثير من قراءات الكتاب المقدس في الأعياد الكبرى، وخاصة خلال أسبوع الآلام. عندما تقرأ الكنيسة ما يقارب كامل سفر يونان يوم السبت المقدس، مكوثه ثلاثة أيام في بطن الحوت هو مماثلة لنزول المسيح إلى الجحيم لثلاثة أيام، والذي يتم الاحتفال به في ذلك اليوم. ويمكن قول الشيء نفسه عن كلام النبي حزقيال عن المعبد ووالدة الإله، سلم يعقوب، وسفينة نوح. بدلاً من التركيز على الحقيقة الحرفية لهذه الأحداث، تظهر الكنيسة المعنى الأعمق بالنسبة لنا كمسيحيين: كل الكتاب المقدس يشير إلى المسيح، والعهد القديم هو قصتنا.

النهج الروحي هو الارتفاع من الأحداث المرئية إلى الروحية والأبدية. هذا التأويل، الذي يشبه الاستعاري والحرفي كثيراً، يمكن تطبيقه أيضا في القداس الإلهي في تفسيره الآبائي. هذا النهج الروحي، مثل الأيقونات المقدسة، يظهِر العالم كما هو عليه حقاً، كما هو في الخلود، وفي اليوم الأخير عندما يجدد المسيح الكون. فيما قلوبنا غالباً ما يقلقها هذا الحاضر، عصر الشر، يدفعنا هذا النهج إلى أن نرفع قلوبنا إلى فوقونطرح عنّا كل الاهتمامات الدنيوية”.

إن نظرة المسيحيين الارثوذكس إلى الكتب المقدسة هي أرفع من أن يحدّوه بالتفسير الحرفي أو التحليلي. ليس التأويل علماً، ولا هو فرع من المعرفة مخصص للأكاديميين، مع أنهم يزعمون ذلك أيضاً. نحن نؤمن بأن القداسة، وليس التربية التي تنتجها اللجان ولا معرفة تاريخ الشرق الأدنى القديم كما ذكرتُ في أماكن أخرى، هي المفتاح الحقيقي للتقبّل الحقيقي للكتاب وفهمه.

إذا كنا نؤمن فعلاً أن الكتاب المقدس موحى به من الروح القدس، فيمكن للمرء أن يكون متناغماً مع صوت الله الداخلي من خلال التأله أي اقتناء هذه الروح الأبدية بحد ذاتها. إنها لسخرية مفارقة تاريخية أن الجماعات المسيحية التي تأسست على احترام الكتب المقدسة على أنها كلمة الله انقلبت على أساسها عن طريق الشك كمبضع مقلِق. لهذا السبب، أفضل مكان لقراءة الكتاب المقدس وسماعه والحفاظ عليه وإعلانه وفهمه هو ضمن حياة الكنيسة وليتورجيتها المقدسة حيث يحيا المؤمنون ويتنفسون ويكتسبون كيانهم.

 

Leave a comment