الشهادة للملكوت في عصرنا الرقمي

أندرو بويد

نقلتها إلى العربية جولي عطية

أمضي الكثير من الوقت في استعمال الفايسبوك، فمن جهة يشكّل ذلك جزءًا من عملي ومن جهة أخرى يلبّي حاجتي المستمرّة لتأكيد الذات كما وحاجتي المستمرّة للتجسّس على الناس الذين أحب. لكنني أمضي أيضًا الكثير من الوقت في القراءة والتفكير في ما ينشره الناس، في الإنجيل الذي نبشّر به نحن المسيحيّون ضمن مساحات مواقع التواصل الاجتماعي، في كيف يجب أن يكون صوتنا في المجال العام والفايسبوك والسوق الحديثة والأخبار والأحاديث وأماكن العمل والمدارسومع الأسف أجد في نفسي الرغبة بأكثر ممّا هو موجود.

نحن مباركون لكوننا جزء من التقليد الحي لإلهنا الحي، هذا التقليد الذي وصلنا من الرسل. لقد أعطينا إيماننا بملئه لا لنحافظ عليه فحسب بل لنتشاركه مع الآخرين. للأسف، وبخاصّة في مواقع التواصل الاجتماعي، لم نعد قادرين على مشاركة هذا التقليد من دون أن نبدو حمقى متطرّفين. اسمعوا، أحب أن أبدو شخصًا يعرف كل شيء بالقدر الذي يبدو عليه الشخص الآخر، لكن عندما نسمح لكبريائنا ولأنانيّتنا بأن يوديا بنا إلى معارك قاسية عبر صندوق الرسائل، فذلك مجرّد شهادة لتقليد الناس الذين يقدّمون الأنا على الإنجيل. لا يمكننا، أنت أو أنا، أن نُجادل أحداً حول الملكوت أبدًا.

الاستشهادالمعاصر

سمعت مؤخّرًا عضوًا في مجلس الأمن الدولي يقول لمجموعة واسعة من كبار رجال الأعمال إنّ المسيحيّة هي الديانة الأكثر اضطهادًا في العالم. هذا لا يفاجئ البعض منّا، مَن يصلّون لاخوتنا وأخواتنا في سوريا ومصر ويشهدون على الاستشهاد المعاصر هناك. هذه كنيسة الشهادة والاستشهاد والاستعداد لخسارة حياتنا من أجل المسيح. إنّ الاستشهاد يربط إيماننا اليوم بشهادة الرسل وبعمل المسيح الخلاصي على الصليب. نتصرّف بهذه الطريقة لأنّ المسيح خلّص العالم ببقائه صامتًا وراضيًا في وجه الموت الجائر، وكما تقول ترتيلتنا: “العادل أُدين بعدم عدل“.

نشكر الله لأنّ شهادة كنيستنا تكبر من خلال شهدائها. لكن للأسف، مقابل كل مقالة أراها حول هذه الشهادات القوية، أرى آخرين يتذمّرون وينتحبون من أجل صعوبة أن يكون الشخص مسيحيًّا هنا في أميركا (أو غيرها من المجتمعات الحديثة المحرر). ليس الأمر صحيحًا. وحتى لو كان كذلك وحتى لو كنّا مهمّشين ومذمومين ومضطهدين، فشكرًا لله على فرصة الشهادة له والشهادة لطريقته في الردّ على تهميشه وذمّه واضطهاده.

تكفيك نعمتيإلاّ إذا نسي الموظّف في متاجر وول مارت(واحدة من أضخم شبكات المتاجر في أميركا – المحرر) أن يتمنّى لك ميلادًا مجيدًا عند شرائك أطنانًا من منتوجات العيد العديمة الفائدة.

بهذا يعرف الكل..”

قال لي مرّة أحد جيراني في الكليّة: “ذهلت عندما عرفت أنّك مسيحي لأنّك لطيف جدًّا!”. يملك الناس، أقلّه حيث أنتمي، نظرة سلبيّة تجاه المسيحيين (ديّانين ومذهبيين ومعتدّين بفضائلهم). إنّ تغيير قلوب الناس وعقولهم يعود لنا (ربما يجدر بي التوقّف عن الصياح في وجه العالم داخل النفق…)

ليس اللطف والصبر والمحبّة مجرّد تعبيرات طنّانة تحرّك الأحاسيس بل تصرّفات متوقّعة من المسيحيين كلّهم. عندما ننظر إلى مجموعاتنا على الفايسبوك ومدوّناتنا، نرى عدائيّتنا وولعنا بالقتال وحبّنا لأن ندعو الناس هراطقة* (التعريف الحقيقي للهرطوقي يرد في آخر المقال). لا نعطي أفضل ما لدينا في عالم التواصل الاجتماعي بل نشهد بشكل مخجل لانشقاقنا ولغياب مبادئ الخير المسيحية الأكثر أساسية. لقد قرأت من أجل العمل أطنانًا من المنتديات المهنية، حيث يختلف الناس في الآراء بأدب وبعمق. حاليًّا، أطلب من الناس تجنّب بعض المواقع الأرثوذكسيةومجموعات الفايسبوك حيث نجتمع لنتذمّر ونسخر وندين على العلن.

إذًا، ماذا علينا أن نفعل؟

بما أنّنا لا يجب أن نكون مثل مذيعي أخبار القنوات الفضائية أو مثل أقزام الانترنت الجبناء، فبمن يجب أن نقتدي في تصرّفاتنا ضمن المجال العام؟ كيف يدعونا الله أن نتصرّف في أماكن العمل والمدارس وبين الجيران وعلى الفايسبوك؟

بالنسبة لي، مثال القديس هرمان مفيد دائمًا. كان القديس هرمان راهبًا في البداية، وبالطبع عاش حياة صمت وصلاة مستمرّة. كانت صلاته قوية لدرجة أنّك إذا زرت منزله في جزيرة سبروس (ألاسكا) اليوم، تلاحظ كيف أنّ الجوّ كلّه تحوّل وانطبع بوجود الملكوت.

لكنّ القديس هرمان لم يكن يبقى في قلايته ويصلّي فحسب، بل استعمل حياته، كممارس للصمت والصلاة، لمساعدة من هم بأمسّ الحاجة (أدار ملجأ)، أجرى معجزات منقذة (حَمَى قرى من التسونامي والحرائق) ووقف في وجه مَن هم في السلطة دفاعًا عن المضطهَدين (دعا الروس خارجًا جرّاء معاملتهم السيّئة للمواطنين). الفرق بين نشاطه في الحقل العام ونشاطنا هو أنّ نشاطه كان يغتذي من محبة حقيقية للناس المعوزين، والذين عرفهم بشكل وثيق. أمّا نشاطنا فتغذّيه أنانيتنا أو يقوم على جدول أعمال أو أيديولوجية أو سياسة أو عدم استقرار.

أخيرًا، مثال الأب هرمان مقنع جدًّا بالنسبة لي لأنّه صورة جميلة عن مثال المسيح. إنّ الصمت والضعف العالميين يفسحان المجال أمام القوّة الحقيقية للمحبة الشاملة الكلّ، قوّة تكسر قيود الموت والخطيئة لتجعل الفردوس مفتوحًا أمامنا كلّنا. هذه وصيّتنا ودعوتنا في المجال العام: أن نستخدم نعمة تقليدنا لنبشّر بإنجيل إلهٍ هو محبة، لا لأرضي أنانيتي أو أهدّئ عدم استقراري أو أغذّي نار الايديولوجيا. هذا ما يريده لنا المسيح، أن نفعل من أجل الآخرين ما فعل هو من أجلنا. كلّ تفاعل ومقال وتغريدة وكلمة تملك القدرة على نقل ملء الأخبار السارّة عن إله محبّ.

* تعريف الهرطوقي: هو ليس مَن يتمسّك بمعتقد خاطئ بل هو مسؤول في الكنيسة (عادة أسقف) ينشر بنشاطٍ معتقداتٍ تناقض تعاليم الكنيسة الرسولية الجامعة. كما كان يقول أستاذي في اللاهوت: “معظمكم ليسوا أذكياء كفاية ليكونوا هراطقة“.

Leave a comment