سِيَر القديسين

الأب أنطوان ملكي

يقول أحد الآباء الأنطاكيين المعاصرين أننا أرثوذكسيون إسماً وبروتستانت فعلاً. السبب هو أن شعبنا لا يهتمّ بشيَر القديسين وأعيادهم بالشكل الذي يعكس وعياً لاهوتياً وإيمانياً ورعائياً.

عرف علم السيَر في الأزمنة الأخيرة تقدماً ترافق معه قدْرٌ غير يسيرٍ من سوء الفهم والاختلاف. بعض الدارسين طبّقوا النقد التاريخي على سير القديسين وانقسم الناس على أساس ما نتج فالبعض تخلّى عن فكرة وجود قديسين حتى قارب الموقف البروتستانتي في إنكاره لهم وتسخيف ما في سيرهم، وحتّى في تبنّي موقف “كلنا قديسون” والبعض الآخر أحسّ بالصدمة أو الخيانة لأن نتيجة إعادة القراءة هددت ما اختزنته الذاكرة التقوية للشعب المؤمن.

فعادة المؤمنين، في التقليد الشرقي وبعض الغربي، أن يكرّموا القديسين وكلّ ما يرتبط بهم، كَرُفاتهم ومعجزاتهم والأماكن التي سلكوا فيها وقبورهم وغيرها. هؤلاء رأوا في إعادة قراءة السيَر روحاً ثورياً متسللاً إلى الكنيسة ومسيئاً لشرف القديسين أبطال الإيمان. كثيرون لا يأبهون لما قد يكون أُضيف إلى سيرة القديس على يد كتّابها أو ما تمّ التركيز عليه على حساب الشهادة التي في السيرة. فالأهمّ في سيرة النبي إيليا أنّه يذبح أنبياء البعل وليس أنه ينطق بلسان الله، والأهمّ في سيرة القديس جاورجيوس أنه فارس مقاتل وليس أنه يشهد بدمه.

في المقابل، بعض الساعين إلى “إسقاط الخرافة” من سيَر القديسين أسقطوا معها الكثير من التفاصيل “العجائبية” التي تشهد للسيرة. أغلب العقلانيين يرفضون “المعجزات” ولا ينتبهون أنهم بهذا الرفض يقيّدون الله في عمله من خلال قديسيه.

فئة ثالثة همّها الوقائع وربطها بالوثائق. الذاكرة الشعبية ثانوية عندها، كما هي في بلادنا. في العالم الأرثوذكسي خارج أنطاكية، هناك ذاكرة أكثر حياةً مرتبطة بأعياد القديسين وسيرهم وما أنجزوه. عندنا في أنطاكية، قد يكون هذا موجوداً إنما لم يكن هناك أي مسعى لتظهيره، لذا غالباً ما تنحصر أعياد قديسينا في معرض وطبول وأسواق مبيعات ومفرقعات.

التمييز في التوفيق بين كل هذه المواقف هو الأصح. لا يمكن الاستخفاف بشهادة حياة القديسين ولا بالتقوى الشعبية ولا بالحقائق التي تمنع تحوّل إكرام القدسين إلى وثنية. هذه مسؤولية جماعية تبدأ من المجمع وتنتهي بكل واحد من المؤمنين، مروراً بالأسقف المحلي وبكاهن الرعية ومجلسها وبيوتها.

إلى اليوم لم تعرف أنطاكية إلا محاولات قليلة أهمّها اتّخذها على عاتقه الأرشمندريت توما بيطار، فجَمَع سنكساراً كاملاً وأرفقه بكتاب حول القديسين المنسيين في أنطاكية. لكن بقي عدد ليس قليلاً من المؤمنين الراقدين، كهنة ورهباناً وعلمانيين، هنا وهناك لا بدّ من أن تقاربه الرئاسة الكنسية لتدلّ المؤمنين عليه. ليس عدلاً أن يكون أغلب الأرثوذكس الأنطاكيين مقتنعين بأن ليس في كنيستنا قديسون، وبالتالي حجّهم هو إلى أديار غير الأرثوذكس وليس هذا المقال لعرض مع كل ما ينتج عن هذه الممارسة ولا دلالاتها.

كتابة سيَر القديسين ونشرها مسؤولية كَنَسية. السنكسار ليس موسوعة بالمعنى العام للكلمة، لأنه إنجيل ثانٍ. دقة المعلومات قد تحمي من الشطط الروحي والخطأ لكنها قد لا تحمل القداسة لأحد. الهمّ عند مَن يتعاطى سِيَر القديسين يجب أن يكون خلاص المؤمنين، والضعفاء منهم قبل الأقوياء. قد يكون هناك في التراث الكثير من الأخطاء، لكن تقييمها يكون بالتمييز لا بالمنهجيات.

في كنيستنا لا نتبنّى أي مسار قانوني لإعلان القداسة بل اعتراف الشعب بالقداسة غالباً ما يكون الباب إلى إعلانها. آخر إعلان قداسة في أنطاكية كان في 1993 للشهيد في الكهنة يوسف الدمشقي. أغلب الشعب لم يكن يعرفه وقد يكون هذا أحد أسباب تعاطي الشعب ببرودة مع هذا القديس. في المقابل نرى أعداداً كبيرة من شعبنا تتعاطى بحماسة مع القديسين الجدد في اليونان وروسيا وغيرها. لكن على مَن تقع المسؤولية؟ الجواب هو على الجميع. منذ 1993، لم نسمع ببناء كنيسة أو مزار للقديس يوسف الدمشقي إلا في أبرشية أميركا. هنا تكمن مسؤولية الرئاسة الكنسية وهنا السؤال: هل هي مهتمة بأن يعرف الشعب هذا القديس ويتبنّاه وجدانياً؟

أغلبية شعبنا تشعر بأن “الكنيسة” غير مهتمة بالقديسين. اليوم نسمع عن لجنة لدراسة سير القديسين فما هو تكليفها وما هو برنامجها: مراجعة الموجود؟ نبش ما قد أُهمِل؟ دراسة الحالات المطروحة (مثلاً الخوري أنطونيوس في بتغرين)؟ ما هي منهجيتها؟ وما الذي سوف تنتجه: مقالات؟ كتب؟ خدَم وأيقونات؟ برامج بشارة؟ ما هو توجهها: رعائي؟ أكاديمي؟ قومي؟ مزيج؟ الوقت يظهِر.

القديسون المنسيون عند الناس قائمون عند الله. فالقدّيسون هم تجليات المسيح في شعبه أي الكنيسة بشكل منظور. حياتهم هي استمرار لحياته. إنها شهادة أعمال الرسل عبر العصور. إنها دوام الحياة الإنجيلية. هذا هو المقياس الأول والأكثر أهمية.