انبثاق اليقين الإلهيّ

الأرشمندريت توما بيطار

يا إخوة، الرّبّ يسوع جاء غريبًا، وارتحل غريبًا. جاء، وشكّك فيه أهل وطنه؛ وارتحل، بعدما شكّك فيه تلاميذه. حتّى بعدما أُرسـِل إلينا الرّوح القدس، وبعدما بتنا نعتمد باسم الآب والابن والرّوح القدس؛ بعد كلّ ذلك، لا يغادرنا الشـّكّ. يبقى الإنسان، في قرارة نفسه، شكّاكًا، إلى أن يضع الرّبّ يسوع حدًّا لشكّه. الإنسان لا يمكنه، في ذاته، إلاّ أن يشكّك في الرّبّ يسوع، لأنّ الرّبّ يسوع أكبر من عقل الإنسان، وأكبر من إدراكه؛ لأنّ الرّبّ يسوع يأتينا، في الحقيقة، كمـِن خارج ذواتنا. لا يخضع للحسّ، ولا للعقل، والإنسان حسّ وعقل. لذلك، ليس في طاقة الإنسان، بشريًّا، أن يقبل الرّبّ يسوع. الرّبّ يسوع هو الإله المتجسّد. لهذا السّبب، ما لم يُعطنا أن نؤمن به؛ فلا يمكننا، من ذواتنا، أن نؤمن. لهذا، إن حَسِبَ أحد منّا أنّه لا يزال مشكِّكًا وهو ابن الإيمان، فليعْلمْ أنّ هذا أمر بشريّ، بكلّ معنى الكلمة. هذا هو الإنسان.

والأمر يزداد سوءًا، في هذا الزّمان، بصورة خاصّة؛ لأنّ هذا الزّمان شهد تأليهَ الإنسان للعقل. الإنسان يؤلّه نفسه، من خلال اعتماده على عقله. طبعًا، العقل، في الأساس، عطيّة من الله. لكن، لأنّ الإنسان مائل إلى عبادة نفسه – هذا ما حصل له، بعد سقوط آدم وحوّاء – فإنّه يتعاطى العقلَ باعتباره الأداةَ الأولى لتأليه الإنسانِ نفسَه. لهذا، اليوم، بصورة خاصّة، نجد الإنسان يثق بعقله، ولا يثق بالله. في الحقيقة، كلّما ازدادت ثقة الإنسان بنفسه وبعقله، ضعفَتْ ثقته بالله؛ ومن ثمّ، إيمانه به. الإنسان، في الحال الّتي هو عليها، يُسيء استعمال القوى المُعطاة له. يمكنه أن يكون مستقيمًا، من جهة الأخلاق، بمعنى أنّه قد يكون عقلانيًّا، من دون أن يستعمل عقله لأذيّة النّاس. على العكس، قد يستعمل عقله لخدمة النّاس. لكن، ما ليس واضحًا، لدى معظم النّاس، أنّ الإنسان، ولو كان سالكًا باستقامةٍ أخلاقيـّة، فإنّه يتعاطى عقله بالكثير من الغرور؛ ويطلب، دائمًا، المعرفة من خلال عقله. عقله يجعله يميل، أكثر فأكثر، إلى تأليه نفسه؛ لأنّه يعي أنّ العقل قوّة. لهذا السّبب، تزداد الشـّكوك في الله، لديه، اليوم، ربّما أكثر من أيّ وقت مضى، في التّاريخ. العقل، من جهة الله، لا يُبلّغنا إلاّ إلى الشـّكّ. لا يمكنه أن يبلّغنا إلى اليقين. العقل يبلّغنا إلى اليقين في الأمور الّتي تخضع له. والله لا يخضع للعقل! الله ليس فكرة، الله ليس عقلاً كما ظنّ الفلاسفة قديمًا؛ إنّما هو روح. ومن ثمّ، معرفته لا تكون إلاّ بالرّوح. لهذا السّبب، العقل دائمًا، من جهة الله، يزعجنا. ولا خروج لنا من دائرة إزعاجه، إلاّ بتواضع القلب. متى أدرك الإنسان أنّه تراب ورماد، ومتى صار ينظر الخيرَ في الآخرين والشـّرَّ في نفسه، متى صار الإنسان يعتبر الآخرين خيرًا منه، متى سلك في الحقّ، وقال عن الحقّ إنّه حقّ، وقال عن الباطل إنّه باطل؛ متى سلك الإنسان، إذًا، في تواضع القلب، وثبت في طلب الحقّ؛ إذ ذاك، يفتح الرّبُّ الإله قلبَه؛ فيبصر، ويؤمن. لا يعرف الإنسان كيف يتمّ ذلك، ومتى يتمّ. الرّسول بولس، حين صعد إلى السّماء الثّالثة، قال بوضوح إنّه لم يكن يعرف ما إذا كان قد صعد بالجسد أو خارج الجسد (2كور12: 2). الإلهيّات لا تُفسَّر جسديًّا، ولا تُفسَّر عقليًّا. الإلهيّات تُفسَّر إلهيًّا، والرّوحيّات تُفسَّر روحيًّا. لهذا السّبب، نحن لا نفهم الكتاب المقدّس ما لم يُعطَ لنا الرّوح الّذي أوحى بكلمة الله في الكتاب المقدّس. الرّوح الّذي أوحى بالكتاب المقدّس هو نفسه يفسّر لنا الكتاب المقدّس. بغير هذا الرّوح يبقى الكتاب المقدّس مُغلَقًا. ومَن الّذي يفتحه؟! روح الرّبّ! وروح الرّبّ لا يفتحه لنا، إلاّ إذا كنّا مُحبّين للحقّ، وسالكين في تواضع القلب. لا نعرف متى يأتي روح الرّبّ ويفتح قلوبنا. قد يحدث ذلك في شباب الإنسان؛ وقد يحدث في شيخوخته؛ وقد يحدث عند مماته؛ وقد لا يحدث، أبدًا، إذا كان الإنسان غريبًا عن الاتّضاع ومحبّة الحقّ.

طبعًا، الإنسان يعاني، بإزاء هذا الواقع، لأنّه يجد نفسه أنّه يريد أن يؤمن، ولا يستطيع أن يؤمن؛ يجد نفسه أنّه مؤمن وغير مؤمن، في الوقت نفسه. وهذا أمر عاديّ جدًّا. ألم يأتِ ذاك الإنسان إلى الرّبّ يسوع، طالبًا إليه شفاء ولده، فقال له الرّبّ يسوع: “إن كنتَ تستطيع أن تؤمن، فكلّ شيء مُستطاع للمؤمن”، فقال له ذاك الإنسان بدموع: “أؤمن، يا سيّد؛ فأعِن عدمَ إيماني” (مر9: 17- 24)؟! هذه خبرة كلّ إنسان، إلى أن يأتي به الرّبّ الإله إلى اليقين. واليقين يأتي، متى عاين الإنسان وجه الله. بولس الرّسول كان مستقيمًا، لكنّه لم يكن مستنيرًا. وقد حارب الرّبَّ الإله حربًا شعواء. وأخيرًا، تجلّى له الرّبّ الإله؛ فصار عارفًا، بعدما كان جاهلاً. أيّوب الصِّدّيق كان سالكًا في التّقوى، وفي مخافة الله، ووفق ما تَعلّمه في شعبه. تعلّم أن يعبد الله، فعبد الله. تعلّم أن يسلك في التّقوى، لأنّ الدّعوة، في شعبه، كانت إلى التّقوى. لكنّه مرّ بتجربة قاسية جدًّا زعزعته من الأعماق؛ فبات مؤمنًا وغير مؤمن، في آنٍ معًا. وكان هذا يؤلمه ألمًا شديدًا. وقد عانى طويلاً، حتّى بلغت معاناته حدّها الأقصى، فصار يلعن اليوم الّذي وُلد فيه. أخيرًا، لمّا حان زمان افتقاده، ظهر له الرّبّ الإله، وكلّمه؛ فتغيّر أيّوب تغييرًا كاملاً! غيّرته كلمة الله، حتّى إنّه قال للرّبّ الإله: “يا ربّ، لقد سبق لي أن سمعت عنك. لكنّني، الآن، أعرفك” (أي42: 5). كلّنا سمع عن الرّبّ يسوع، وأخذ عاداته العباديّة والتّقويّة من كنيسته، من شعبه، من والديه، من جيرانه، من أجداده… إنّما، إلى أن يبلغ الإنسان حدّ المعرفة، لا بدّ له من أن يمرّ بمخاض كيانيّ ليس بقليل. لكن، لا يشقّ أحد طريقه إلى الموت، إذا كان يتمخـّض في الحقّ، وفي الاتّضاع، قبل أن يعاين مسيح الرّبّ. سمعان الشـّيخ انتظر طويلاً في الهيكل! وأخيرًا، عاين مسيح الرّبّ. وبعدما عاينه، قال قولته المعروفة: “الآن، أَطلِق عبدك، أيّها السّيّد، حسب قولك، بسلام؛ فإنّ عينيّ قد أبصرتا خلاصك” (لو2: 29- 30)! طبعًا، هو يتكلّم على البصر الدّاخليّ، لا على البصر الخارجيّ. ليديا، بائعةُ الأرجوان في ثياتيرا، في سـِفـْرِ أعمال الرّسل، كانت تجتمع مع النّساء، ليصلّينَ. فقَدِم بولس الرّسول إلى ثياتيرا، واشترك في الصّلاة مع النّسوة. طبعًا، ليديا كانت امرأة تقيّة، وفق مقاييس التّقوى، في ذلك الزّمان، ووفق ما سبق لها أن سمعته في شعبها. والنّصّ يقول: “لمّا أخذ بولس في الكلام، فتح الرّبّ الإله قلبها، لتفهم؛ ففهمت وآمنت” (أع16: 14).

إذًا، كلّ واحد منّا، يا إخوة، ينتظر أن يتجلّى الرّبّ الإله في حياته. طبعًا، نحن بشر عُمِّدنا؛ ومن ثمّ، روحُ الرّبّ مقيم فينا. لكنّه مقيم فينا بصورة غير واعية. فلكي يتفعّل وجوده فينا، ولكي نعي هذا الوجود؛ نحتاج إلى جهاد الحقّ، وإلى مسعى الاتّضاع، في إطار الصّلاة الّتي تعلّمناها في شعبنا، وفي إطار التّقوى الّتي نسلك فيها بناءً على ما اختبره غيرنا وسلّمنا إيّاه. هذا أمر بشريّ جدًّا. إذا كان الواحد منّا مريضًا، مثلاً، فماذا يفعل؟! يذهب إلى بعض أصدقائه ويستشيرهم؛ وهم، بدورهم، يقولون له ما يعرفونه، ثمّ يرشدونه إلى طبيب متخصِّص. أيذهب إليه أم لا؟! بشريًّا، يذهب إليه، بطبيعة الحال. هناك حدّ أدنى من الثّقة المتبادَلة بين النّاس، وإلاّ فإنّ الحياة تصبح غير ممكنة. الشـّيء نفسه يُقال عن الإلهيّات. نحن نسلك في ما تعلّمناه، لأنّ آخرين قَبْلَنا اختبروه. لكن، طبعًا، هذا لا يكفي. نحن نسلك فيه على رجاء أن نشترك في الخبرة الّتي اشتركوا هم فيها، في وقت من الأوقات. وهذا مُيسَّر لكلّ واحد منّا. الإنسان الّذي يسلك في هذه الأمانة للتّراث، وفي محبّة الحقّ، وفي تواضع القلب، لا يمكن إلاّ أن يختبر ما سبق للّذين سبقوه أن اختبروه. هذه بديهيّة إيمانيّة. الرّبّ الإله لا يشاء أن نكون عميانًا؛ لكنّه لا يشاء، أيضًا، أن نتمرّغ في شكوك عقولنا؛ لأنّها لا تأتي علينا إلاّ بالآلام والضّيقات، ولا يمكنها أن تبلّغنا إلى اليقين الكيانيّ الّذي نشتهيه. هذا، إذًا، هو مسير كلّ واحد منّا. ليكن كلّ واحد منّا على ثقة بأنّه إن خطر في باله أفكار شكّ، فالرّبّ الإله لا يدينه عليها، على الإطلاق. هذا هو واقع الإنسان. المهمّ ألاّ يستسلم للشـّكّ، لأنّ الاستسلام للشـّكّ لا يأتي به إلى اليقين، على الإطلاق؛ لا بل يحول دون انبثاق اليقين الإلهيّ، في حياته.

إذًا، علينا أن نسلك، في حياتنا، على الرّجاء. والرّجاء بالله لا يُخزي. نسلك كالأطفال؛ ونعلم، في آن، أنّ الرّبّ يحفظ الأطفال. نسلك ونحن لا نعرف إلى أين نحن ذاهبون، لكنّ الّذي دعانا يعرف تمامًا. الرّبّ الإله دعا إبراهيم من بلاد ما بين النّهرين، وقال له: “اخرج من أرضك ومن عشيرتك إلى الأرض الّتي أريك” (تك12: 1)! الّتي أريك فيما بعد! وخرج إبراهيم إلى حيث قال له الرّبّ الإله أن يذهب! خرج وهو غير عارف إلى أين، لا بل إلى مَن كان ذاهبًا، ولو كان عارفًا وجهة سيره. لكنّ الله كان يقوده خطوةً خطوة. علينا أن نتعلّم أن نترك الله يقودنا خطوةً خطوة. إذا كنّا نحن غير عارفين، فالله عارف بكلّ شيء. فقط، علينا أن نتعلّم كيف نُسلم أمرنا إلى الرّبّ الإله، حتّى لو لم تكن لنا به معرفة! أوّل ما تعرّف بطرس إلى الرّبّ يسوع، لم يكن، بعد، قد عرفه كصديق، ولا كنبيّ، ولا كمعلِّم. قال له الرّبّ يسوع أن يُلقي بشبكته في جانب السّفينة الأيمن؛ فأجابه بطرس: “لقد تعبنا اللّيل كلّه، ولم نُصـِب شيئًا؛ لكن، على كلمتك أُلقي شبكتي”؛ فألقى الشـّبكة، فأصاب سمكًا  كثيرًا جدًّا (لو5: 4- 6)! إذًا، علينا، على كلمة الكنيسة، أن نلقي بشبكتنا، حتى لو تعبنا في ليل العقل طويلاً ولم نُصـِب شيئًا. لكن، على كلمة الكنيسة نُلقي بهذه الشـّبكة، ولا بدّ لنا من أن نصيب صيدًا عظيمًا. هذا هو مسيرنا، يا إخوة، اليوم، وغدًا، وإلى المنتهى؛ فلا يستسلمنّ أحد منّا لمخاوفه. إذا كان أحد منكم يظنّ أنّه يشكّ؛ فكلّنا، في الحقيقة، يشكّ. نحن بشر! إذا كان أحد منكم يخاف الموت؛ فكلّنا، في الحقيقة، يخاف الموت. لكن، نحن نعلم أنّ الرّبّ الإله لا بدّ له من أن يعبر بنا، كما عبر بزكّا العشـّار، ومتّى العشـّار، والتّلاميذ الّذين كانوا يصطادون سمكًا. لا بدّ للرّبّ يسوع من أن يعبر في حياة كلّ واحد منّا. فإذا كنّا مهيَّئين داخليًّا لمعاينته، فإنّه يفتح قلوبنا، فنعاينه. إذ ذاك، نبلغ المرام؛ وبعد ذلك، نصير، عن يقين، مستعدّين لأن نردّد قولة سمعان الشـّيخ: “الآن أَطلـِق عبدك، أيّها السّيّد، على حسب قولك بسلام؛ فإنّ عينيّ قد أبصرتا خلاصك” (لو2: 29- 30).

آمين.

* عظة حول متّى13: 54- 58 في السّبت 23 تشرين الأوّل 2010