كتاب المحبة

كتاب المحبة

عن اليرونديكون الصغير

تعريب الأرشمندريت أفرام كرياكوس


أوصى أحد الأباطرة الروميين خطاطاً أن يهيئ له نسخة من كتاب العهد القديم والجديد، وقد استغرق وقتاً طويلاً لإنهائه. إلاّ أن النتيجة كانت رائعة. هذا الكتاب الرائع والذي تجاوز ثمنه 15 قطعة ذهبية، أهداه الإمبراطور لأحد شيوخ البرّية الذي كان قد ساعده في وقت ما سابقاً. وقبل أن يرقد هذا الشيخ أعطى هذه الهديّة القيّمة لتلميذه جيلاسيوس.

عبرت السنوات وأصبح جيلاسيوس أباً روحياً في أحد الأساقيط حيث وُجد رهبان كثيرون. واعتاد أن يترك الكتاب الذي أهداه إياه أبوه الروحي في كنيسة الإسقيط ليستعمله كلّ الآباء. كان هذا الكتاب تحفة تثير إعجابالجميع.

في صباح أحد الأيام، بعد إنتهاء خدمة الصلاة، وصل إلى الإسقيط أحد الرهبان العابرين. كان ذاهباً لملاقاة أحد الشيوخ في أحد الأساقيط البعيدة. وعندما وصل إلى إسقيط الأنبا جيلاسيوس فكّر أن يتوقّف فيه للاستراحة.

بعد أن استقبله الآباء وقدّموا له الضيافة المعتادة أخذوه ليزور كنيسة الإسقيط ويسجد فيها. تركوه ليصلّي هناك. أتاه فكرُ ليرى ذلك الكتاب الثمين. ولم يقاوم فكر سرقة الكتاب فخبّأه تحت جبّته وهرب مسرعاً من الإسقيط. أمّا الأب جيلاسيوس فقد أدرك للحال حدوث السرقة، إلاّ أنه لم يقل شيئاً للآباء الآخرين لأنه لم يرغب في جعلهم يلاحقون السارق.

أما ذاك الراهب فعندما وصل إلى المدينة لم يؤجل الأمرَ ولا لحظة. أخذ للحال يبحث عمن يُعجب بهذا الكتاب الثمين ليشتريه. خلال وقت قصير وجد أحدهم ليشتريه وبدأوا مباشرة بالمفاصلة حول سعره. طلب الراهب في البداية 16 قطعة نقدية ذهبية إلاّ أن المشتري لم يكن ليقبل أن يدفع هكذا مقدار من المال. لم يكن يعتقد أنه يساوي ويستحق هذه الكمية من المال. تحدّثوا كثيراً وتفاصلوا حول الثمن. أخيراً إقترح المشتري: “ألا تتركه عندي بضعة أيام أيها الأب لأريه لأحد معارفي فهو خبير بهذه الأمور؟” وافق الراهب على إبقائه لدى المشتري بضعة أيام لكي يستشير صديقه. كان يظن أنه سيظفر أخيراً بربح مبلغ جيّد من المال. أمّا المشتري فحالما أحذ الكتاب ركض نحو الأنبا جيلاسيوس وكان يحترمه كثيراً لكي يسأله عن رأيه.

– “يا أبتي أعطاني أحدهم هذا الكتاب لأشتريه بـ16 قطعة ذهبية. ماذا تقولون، هل يستحق ذلك أم تنصحني أن لا أشتريه؟” قال له هذا وأراه الكتاب. تعرّف الشيخ مباشرة على الكتاب الذي أهداه إياه أبوه الروحي ومن دون أن يضطرب قال:

– “نعم خذه يا صديقي. بالفعل إنه يستحق. على الأقل هذا بحسب معرفتي”. شكرَ المشتري الشيخَ وأخذ الكتاب فرحاً بالصفقة التي سيجريها. عندما وصل إلى المدينة وجد الراهب إلاّ أنه عندئذ أتاه فكر يكذب ويحاول إنزال السعر.

– “هيّا أيها المبارك… إني بانتظارك… ماذا حصل معك؟” قال الراهب.

– “بصلواتك يا أبتي، يبدو لي أني سأزعجك، فالكتاب الذي أعطيتني أريته للشيخ جيلاسيوس فقال لي أنه لا يستحق ذلك المبلغ الذي ذكرتَه. فقيمته أقل بكثير”. أجاب المشتري.

عندما سمع الراهب اسم الشيخ جيلاسيوس اضطرب للحال، ثم سأله: “ألم يقل لك الشيخ أمراً آخراً؟” فأجابه المشتري: “لا يا أبتي… إن أردت أن تبيعه فسأعطيك 12 قطعة ذهبية”.

هنا لم يعد يصغي الراهب لما كان يقوله المشتري. فقد أصبح فكره عند الشيخ جيلاسيوس وما فعلت يداه. سأله المشتري أخيراً: “حسناً هل نحن متفقون؟”

“لا يا أخي… لا وألف لا. سامحني من أجل التعب الذي سبّبته لك. فقد غيّرت رأيي لا أريد أن أبيع هذا الكتاب.”

قال الراهب هذا وتناول الكتاب واختفى في شوارع المدينة الضيّقة. مشى وقتاً طويلاً وكانت تضطرم في داخله حرب حقيقية. فضيلة الشيخ وما أظهره من محبّة لأنه لم يشهد عليه بالسرقة، اخترقت قلبه، القلب الذي ارتكب السرقة فخضّه الأمر جدّاً. فذرفت عيناه دموعاً كثيرة وسار بتوبة حقيقية عائداً إلى إسقيط الشيخ.

عندما وصل إلى الاسقيط قابل الشيخ جيلاسيوس جالساً على حافة الدرَج عند المدخل. فسقط جاثياً عند قدمي الشيخ وتضرّع إليه بدموع متواصلة أن يسامحه على فعله الشنيع. لقد سامحه الشيخ بالفعل من أجل توبته وقال له: “ليباركك الله أيها الأخ. لي عندك طلب صغير، أرجوك خذْ هذا الكتاب كهدية من أجل تعارفنا”.

إلاّ أنه من أين للراهب القدرة على قبول الكتاب الذي سرقه؟ بألم ودموع أكثر ومن أعماق نفسه قال للشيخ:

” أتضرّع إليك. استرجع الكتاب الذي كنتُ قد سرقتُه، لأنه خلافاً لذلك لن تجد نفسي الراحة”. فقال له الشيخ:

“إن كانت الحال هكذا يا أخي فاذهب واتركه هناك حيث أخذتَه”. ركض الراهب للحال ووضع الكتاب الثمين في مكانه في كنيسة الإسقيط بالضبط في المكان الذي أخذه منه خلسةً.

لقد غيّر صلاح الأنبا جيلاسيوس الراهبَ من الأعماق. ثم طلب الراهب أن يقيم بقرب الشيخ تلميذاً له. بالفعل قَبِلَه ومن حينها لم يسقط الراهب في خطيئة سرقة أخرى.

 

Leave a comment