بالنـّعمة يصير الإنسان مسكنًا للسّماء

بالنـّعمة يصير الإنسان مسكنًا للسّماء

الأرشمندريت توما بيطار

“يشبه ملكوت السّموات حبّة خردل”. ملكوت السّموات لا يمكننا أن نعرفه مباشرة، بل نعرفه تشبيهًا. الرّبّ الإله يعطينا أن نعرف شـِبه الأسرار الإلهيّة بلغة بشريّة، ويعطينا أن نعرف شـِبه الحقائق الإلهيّة بصور بشريّة. أوّلاً، علينا أن نفهم أنّ لفظة “ملكوت” معناها مملكة. ملكوت السّموات لا يشبه ممالك الأرض. المملكة الأرضيّة هي عبارة عن رقعة من الأرض فيها سكّان، وفيها ملك، وللملك جنود، وخدّام، وعمّال، وهناك نظام يفرضه الملك على شعبه في إطار هذه المملكة، بحيث يفرض سلطانه، ويتيح للشـّعب أن يكون منتظمًا في عيشه، وأن يكون مواليًا له. ملكوت السّموات ليس كذلك. أوّلاً، الرّبّ الإله لا يقيم في مكان ما. لا يقيم في موضِع، لأنّه هو المالئ الكلّ. إذًا، لا يمكن أن يكون هناك موضع يسع الرّبّ الإله. لذلك، حين نقول “ملكوت”؛ فمن جهة الله، نقصد الله نفسه. من جهة الله، لا فرق بين الملك والملكوت. أمّا من جهة الخليقة، فالرّبّ الإله ارتضى أن يقيم في الخليقة، ارتضى أن يقيم في الإنسان، مثلاً. ارتضى أن يقيم في مكان ما على الأرض، في أورشليم. وهو، وإن كان قد فعل ذلك، في وقت من الأوقات؛ فإنّ الأمر ليس، بعد، كذلك. المكان الّذي اختاره الرّبّ الإله ليقيم فيه، على الأرض، هو قلب الإنسان. إذًا، هذا هو الملكوت، من جهتنا نحن كبشر. وإذا أردنا أن نحدّد معنى ملكوت السّموات، بالنّسبة إلينا نحن البشر؛ فإنّنا نقول: ملكوت السّموات هو الله فينا. ومن هنا استعمال التّعبير “في المسيح”، أو التّعبير “في الحقّ”، مثلاً، أو غيرهما. هذه تعابير أخرى لكون الله ارتضى أن يسكن فينا.

هنا، يشبّه الرّبّ ملكوت السّموات – طبعًا يشبّهه للآدميّين، للبشر؛ بكلام آخر، يحاول أن يصف ملكوت السّموات في واقعه بين البشر – بـ”حبّة خردل أخذها إنسان، وألقاها في بستانه، فنمت وصارت شجرة عظيمة، واستظلّت طيور السّماء في أغصانها”. هذا هو السّرّ الإلهيّ، الّذي يفوق كلّ مدارك الإنسان: أنّ الرّبّ الإله ارتضى أن يقيم في المخلوقات! المخلوقات، بالنّسبة إلى الله، هي كلا شيء، لأنّها آتية من العدم. هي صغيرة جدًّا جدًّا، بمعنى أنّها تافهة في حدّ ذاتها، لا قيمة لها في حدّ ذاتها، على الإطلاق. ومحبّة الله فعلت هذا الأمر. الرّبّ الإله جعل نفسه، بالنّسبة إلينا نحن البشر، في متناولنا؛ وجعل نفسه، في الحقيقة، من الصِّغَر بحيث لا يلاحظه الإنسان. حبّة الخردل، إذا كانت، في مفهوم القدامى، أصغر الحبوب؛ فهذا معناه أنّ الإنسان قَلَّما ينتبه لها، قَلَّما يلاحظها. ومع ذلك، الرّبّ الإله أعطى نفسه للبشر بهذا الصِّغَر. لكن، علينا أن نفهم أنّ الرّبّ الإله هو الّذي أخذ المبادرة. يقول الإنجيل: “أخذها إنسان، وألقاها في بستانه”. الإنسان، هنا، هو الله. وبستان الله هو قلب الإنسان. إذًا، الرّبّ الإله جعل نعمته، كمثل حبّة الخردل، في قلب الإنسان. هذا، في الحقيقة، ما نأخذه بالمعموديّة، بالأسرار الإلهيّة، بكلمة الله، بالصّلوات… كلّ هذا يجعل أنّ “حبّة الخردل – النّعمة الإلهيّة” تأتينا، بشكل غير ظاهر بالكلّيّة، لتقيم فينا. ثمّ نمت حبّة الخردل. النّعمة فينا تنمو، والرّبّ الإله جعل نعمته كما لو كانت خاضعة لناموس الطّبيعة البشريّة. وفق الطّبيعة البشريّة، الإنسان ينمو. يكون طفلاً، ثمّ ينمو ويكبر. القوى الّتي فيه تتفتّح، إلى أن تبلغ مـِلأها بالنّضج. هكذا، النّعمة الإلهيّة تكون موجودة فينا، إنّما بشكل غير ملحوظ. لكن، كلّ قوى الملكوت، كلّ قوى الله تكون في هذه النّعمة، في هذه الحبّة، حبّة الخردل، الّتي تنمو مع الإنسان. الرّبّ الإله لا يشاء أن يأتينا كمـِن الخارج، بل يشاء أن يأتينا كمـِن الدّاخل. إذًا، يعطينا أن تنمو نعمته فينا باتّباع المسار نفسه الّذي للطّبيعة البشريّة. كلّما نما الإنسان، كان بإمكان النّعمة الإلهيّة أن تنمو بالمقدار عينه. لكن، إذا جعل الرّبّ الإله النّعمة الإلهيّة خاضعة لناموس النّموّ، لتكون موافقة للإنسان، ووفق طبيعة الإنسان؛ فإنّها، طبعًا، لا تنمو وفق المعطيات الّتي تنمو على أساسها الطّبيعة البشريّة. الطّبيعة البشريّة تنمو، بلا شكّ، وفقًا لمسار آليٍّ ميكانيكيّ، بمعنًى من المعاني. الإنسان يكون جنينًا، ثمّ يخرج مولودًا جديدًا، وفيه كلّ مسارات النّموّ: أعضاؤه تكبر، بصورة تلقائيّة… النّعمة فينا لا تكبر، بصورة تلقائيّة. لكن، إذا تمّ تعهُّدُها من قبل الأهل، وبصورة خاصّة، من قبل الكنيسة؛ فبإمكانها أن تنمو وتتفتّح، بحيث ترافق ما يمكن اعتباره نموًّا آليًّا، أو تلقائيًّا، للطّبيعة البشريّة. لهذا، إذا كان علينا، نحن كأهل، أن نُطعم أطفالنا الأطعمة المناسبة، وأن نؤمّن لهم الدّفء، والنّظافة، والصّحّة؛ فعلينا، في آن معًا، أن نؤمّن لهم ما يجعل النّعمة الإلهيّة فيهم تنمو. من هنا أهمّيّة العائلة المسيحيّة، وأهمّيّة التّربية المسيحيّة. نحن علينا أن نتعهّد النّعمة الإلهيّة في أولادنا، بالصّلاة من أجلهم، بالصّوم من أجلهم، باستعمال كلّ ما تتيحه لنا الكنيسة: نمسح أولادنا بالزّيت؛ ونصلّي عليهم؛ وبعد أن نعمّدهم بالماء والرّوح، نضعهم في جوّ الصّلوات الكنسيّة؛ ونعطيهم أن يساهموا القدسات؛ وننتبه لكلّ تفصيل يمكن أن يساعد النّعمة الإلهيّة على أن تنمو فيهم، كمثل محبّتـِنا لهم، تعهّدِنا لهم، لطفـِنا معهم، صبرِنا عليهم، الرّفقِ الّذي نعاملهم به، اسمِ الرّبّ يسوع الّذي نذكره على كلّ شيء نفعله لهم، كأن نصلّي من أجلهم قبل أن نطعمهم مثلاً، ونصلّب على الطّعام، وعلى اللّباس، وعلى كلّ شيء يخصّهم… نحيطهم، بمعنًى من المعاني، بجوّ من العناية الرّوحيّة؛ بالإضافة، طبعًا، إلى الجوّ الّذي نحيطهم به، إذ نعتني بهم جسديًّا ونفسيًّا، أيضًا. إذًا، بهذه الطّريقة، تنمو النّعمة فيهم، كما تنمو أعضاؤهم، وكما تنمو عقولهم. ويكون نموّ النّعمة الإلهيّة على قدر نموّ الأطفال الجسديّ والنّفسيّ. بكلام آخر، النّموّ الرّوحيّ، بالنّسبة إلى الأطفال، لا يكون أكبر من نموّهم كأطفال. هذا واضح، في الحقيقة، في ما جرى للرّبّ يسوع. الرّبّ يسوع، حين كان طفلاً، كانت النّعمة فيه في مستوى طفولته البشريّة، ولم تكن أكبر من مستواه الطّفوليّ البشريّ. طبعًا، بعض الكتابات الأبوكريفيّة يحاول أن يصف الرّبّ يسوع بأنّه كان يصنع المعجزات، حين كان طفلاً. نحن لا نقول بذلك، أبدًا. لهذا السّبب، النّصّ الكتابيّ يقول عن الرّبّ يسوع إنّه كان ينمو في النّعمة والقامة. شيء ممّا حصل للرّبّ يسوع يُفترَض أن يحصل لكلّ واحد من أبناء الإيمان بالرّبّ يسوع.

إذًا، نمت حبّة الخردل، نمت النّعمة الّتي دخلت في حياة الإنسان، في قلب الإنسان، وكانت طفيفة جدًّا، كانت ضعيفة جدًّا، بمعنى من المعاني، على الأقلّ في مستوى الظّاهر البشريّ؛ نمت وصارت شجرة عظيمة، واستظلّت طيور السّماء في أغصانها. كلّ قوى الملكوت موجودة في هذه الحبّة الصّغيرة، في هذه النّعمة الصّغيرة، الّتي تُعطى للأطفال. وتنمو هذه النّعمة وتكبر، إلى أن تصير شجرة عظيمة. الشـّجرة علامة الخصب. وحين نقول “شجرة عظيمة”، نقصد، في الحقيقة، أنّ النّعمة قابلة لأن تبلغ حدّها الأقصى من الخصب، في حياة الإنسان. هنا، يقول النّصّ إنّ الشـّجرة عظيمة. لا يقول عنها إنّها كبيرة! وكأنّما الرّبّ الإله شاء أن يعبّر عن شيء جديد جدًّا يحدث للإنسان، من جرّاء تفتّح النّعمة الإلهيّة فيه. فالقول إنّ حبّة الخردل تصير شجرة عظيمة يشير، في الحقيقة، إلى أنّ الإنسان يصير مسكنًا للسّماء؛ أو، بكلام آخر، يصير سماءً، أو يصير ملكوتًا، والله يسكن فيه بالكامل! طبعًا، يسكن فيه بروحه القدّوس، يسكن فيه بنوره غير المخلوق. الله لا يسكن في الإنسان جزئيًّا، بل يسكن فيه كلّيًّا. في الأساس، لا يمكننا الكلام، أبدًا، على كون الله يمكن أن يُجزَّأ. الله لا يُجزَّأ. إمّا أن يكون الله بالكامل في الإنسان، أو لا يكون. هنا، الشـّجرة العظيمة هي أنّ الله يكون بالكامل في الإنسان. وكما قلت، يكون فيه بروحه، بنوره غير المخلوق، وهو ما أُعطي لنا. طبعًا، نحن، كما يقول القدّيس غريغوريوس بالاماس، لا يمكننا أن نعرف الله بجوهره. هذا ليس مُعطًى للخليقة، على الإطلاق. لكنّنا أُعطينا أن نعرف الله بنوره، بإشعاعه. وإشعاعه يشعّ منه، من شخصه، من جوهره، لأنّه غير مخلوق. مثلاً، أنا أتطلّع، الآن، إليكم. وأنا لا أعرف جوهر أحد منكم. لكنّني أعرف كلّ واحد منكم: أعرفه بالنّظر، أعرفه باللّمس، أعرفه بالتّعامل. إذًا، هناك ما هو مُعطًى للإنسان أن يعرفه. وما هو مُعطًى للإنسان أن يعرفه، من جهة الله، هو هذا، بالضّبط: أن يعرف اللهَ بنوره غير المخلوق. وهذا، بالنّسبة إلينا، يعادل، تمامًا، القول إنّنا نعرف الله كما هو؛ لأنّ نور الله لا ينفصل، أبدًا، عن الله؛ ولا ينفصل، أبدًا، عن جوهر الله.

لكن، هناك تمييز بين جوهر الله ونور الله. الله يشعّ في حياتنا. بكلام آخر، يعطينا ذاته؛ إنّما يعطينا ذاته كنور، يعطينا ذاته كمحبّة، يعطينا ذاته بكلّ ما في الكلمة من معنى. في القديم، كان مَن يرى الله يموت. أمّا الآن، فقد صار الإنسان يرى الله ولا يموت. وحين نقول “رؤية” نقول “نور”. النّور له علاقة بالعين. الآن، بتنا نرى الله ونعيش؛ وبات النّور هو ما يحيينا، ما يعطينا حياة أبديّة. والكلام على حياة أبديّة هو كلام، أيضًا، على كون النّور الإلهيّ، النّور غير المخلوق، ساكنًا فينا. كلّ هذا له علاقة بالشـّجرة العظيمة، الّتي يضيف الرّبّ الإله، في كلامه عليها، هذا القول: “واستظلّت طيور السّماء في أغصانها”. على أيّة طيور يتكلّم؟! في الحقيقة، يتكلّم على الملائكة. الملائكة، حين يستظلّون في هذه الشـّجرة، يختبرون ما لم يعرفوه من قبل. طبعًا، قبل أن يُخلَق الإنسان كان الملائكة. والملائكة يغتذون من نور الله، من حضور الله فيهم. هذا لا شكّ فيه. لكنّ الحدث الأعظم، في التّاريخ، هو أنّ الرّبّ الإله صار إنسانًا. الله لم يصـِر ملاكًا. لكنّه أعطى الإنسان أن يصير إنسانًا مثله. واستمدّ الرّبّ الإله إنسانيّته من الإنسان نفسه! فإذا كان الرّبّ الإله قد لبس إنسانيّتنا، فهذا هو أعظم الأسرار، في الحقيقة. وبهذا الحدث، صار الإنسان أعظم من الملائكة. لذلك، الملائكة، بإزاء ابن الله المتجسّد، كانوا في حالة دهش؛ وبإزاء والدة الإله، هم في حالة دهش مستمرّ. نقول عن والدة الإله: “يا مَن هي أكرم من الشـّيروبيم، وأرفع مجدًا بغير قياس من السّيرافيم”. لماذا؟! لأنّ ابن الله تجسّد! وهذا، ما حصل لوالدة الإله، يحصل لنا بقوّة الامتداد. هذا يمتدّ إلينا، لأنّ الرّبّ الإله ارتضى أن يقيم فينا، أن يسكن فينا، كأنّ الكلام هو على البشريّة جمعاء. فبالنّسبة إلى البشريّة جمعاء، تستظلّ طيور السّماء في أغصانها، في أغصان البشريّة الجديدة، الّتي ارتضى الرّبّ الإله أن يتّخذ جسدها، وأن يقيم فيها بالكامل. طيور السّماء تأتي وتستظلّ في أغصانها بمعنى أنّها تأتي لترتاح وتتعزّى بهذا الحدث العظيم. الملائكة يتعزّون كثيرًا بحدثِ أنّ ابن الله قد صار إنسانًا، وأنّ البشريّة باتت ملكوت السّموات، بمعنًى من المعاني.

كلّ هذا، يا إخوة، يجعلنا، في الحقيقة، نقف قدّام السّرّ الرّهيب بدهش وشكران. الإنسان، في الحقيقة، يصدّق ولا يصدّق، لأنّ ما يصدّقه أكبر بكثير من أن يستوعبه عقل. لكنّ هذا، بالضّبط، هو ما حدث. يأتينا ملكوت السّموات صغيرًا كحبّة خردل؛ وبعد ذلك، يتحدّث الرّبّ عن تشبيه آخر: يأتينا كخميرة، أي كشيء مخفيّ، غير ظاهر، في الحقيقة، إلاّ للّذين يتفاعلون مع هذه الخميرة بالإيمان. إذ ذاك، يختمر كلّ العجين، ويُمسي الإنسان كلّه مساويًا لملكوت السّموات. من قـِبَل الرّبّ كان هذا، وهو عجيب في أعيننا.

آمين.

عظة حول لو13: 19- 29 في السّبت 11 كانون الأوّل 2010