الحبّ والحرّيّة

الحبّ والحرّيّة

الأرشمندريت توما بيطار

الرّبّ يسوع يوصي تلاميذه، ولا يأمرهم. بين الوصيّة والأمر فرق شاسع. في الوصيّة هناك عشراء، هناك صداقة، هناك مودّة، هناك محبّة، هناك قربى. الأب، عادة، يوصي أولاده. الرّجل الشـّيخ يوصي الفتية، الرّجل الحكيم يوصي مَن هم أقلّ حكمةً منه… أمّا الأمر، فيصدر عن صاحب سلطان. والرّبّ يسوع، على الرّغم من أنّه صاحب سلطان، لا يأمر، ولا يشاء أن يأمر؛ لأنّه جاء لا ليُخدَم، بل ليَخدِم (مر10: 45). لم يأتِ كرئيس، بل جاء كخادم للجميع. وهو لا يشاء أن يعطي الانطباع أنّه كالرّؤساء، في هذا الدّهر، الّذين يأمرون، وكلمتهم تكون قاطعة من جهة النّاس. الرّبّ يسوع ينعطف على تلاميذه؛ ومن ثمّ، ينعطف علينا، ليوصينا بالوصيّة الوحيدة، وصيّة المحبّة: “أوصيكم أن يحبّ بعضكم بعضًا”. الحقيقة أنّ محبّة الله لنا ومحبّتنا لله تظهران من خلال محبّتنا بعضنا لبعضنا الآخر. مَن لا يحبّ أخاه، فلا يكون محبًّا لله، ولا يعكس محبّة الله له. وهذه المحبّة علينا أن نتعاطاها في العالم الّذي لا يحبّ، ولا يعرف أن يحبّ. على العكس، في العالم، هناك مصالح، وليست هناك محبّة. لذلك، الّذين لا يسلكون وفق منطق العالم، أي منطق المصلحة، والمداهنة، والرّياء، والكذب… فإنّ العالم يُبغضهم. العالم لا يمكنه أن يستوعب محبّة الله، ولا أن يقبلها. محبّة الله تنكر العالم، لأنّ العالم الّذي تكلّم عليه الرّبّ يسوع، هنا، ليس العالم الّذي خلقه الله. العالم الّذي خلقه الله عالم مُبارَك. الخليقة تساوي العالم. لكن، هنا، العالم يساوي الخطيئة، الّتي أضحت متمثِّلة في المجتمع بشكل مؤسّسة، وأصبحت خطيئة منظَّمَة. لذلك، أركان العالم هي، بالضّبط، أركان الخطيئة، أوّلاً وأخيرًا. العالم يحبّ خاصّته الّذين، عمليًّا، يحبّون ذواتهم، ويحبّون الخطيئة. في عالم كهذا، لا مكان، في الحقيقة، للوصيّة الإلهيّة؛ ومن ثمّ، لا مكان للمحبّة الأصيلة.

“أنتم لستم من العالم، أنا اخترتكم من العالم. لأجل هذا يبغضكم العالم”. نحن ننتمي إلى عالم آخر، وعلينا أن ندرك أنّنا لا ننتمي إلى هذا العالم. وإذا رأى النّاس، في هذا العالم، أنّنا مختلفون عنهم، فهذا لا يجوز أن يكون سببًا لكي نكون مثلهم، لكي نعمل أعمالهم، لكي نفكّر كما يفكّرون! نحن مختلفون عن العالم، لا بالضّرورة لأنّنا بشر قدّيسون، بل لأنّ علينا أن نكون قدّيسين. نحن ننتمي إلى الله، ننتمي إلى قداسة الله. لذلك، ننتمي إلى فكر آخر، ننتمي إلى طريقة أخرى، في الحياة. لهذا، نحن ننتمي إلى الملكوت على الأرض. طبعًا، هذا يستلزم أن يُحاذر كلٌّ منّا اقتبال فكر العالم، وطريقته، وخبراته. هذه علينا أن نجتنبها في كلّ الأحوال. لا يمكن الإنسان أن يكون محبًّا للعالم ومحبًّا لله، في آن. تعلمون القول الإلهيّ: “محبّة العالم عداوة لله” (يع4: 4)، و”لا تحبّوا العالم ولا الأشياء الّتي في العالم، لأنّ محبّة العالم عداوة لله” (1يو2: 15). إذا أردنا أن نتبيّن هذا الاختلاف بيننا، نحن الّذين ينتمون إلى ملكوت الله، وبين العالم؛ فبإمكاننا أن نأخذ أمثلة عديدة. مثلاً، العالم يعتبر أنّ الكذب أمر مقبول، إذا كان ينفع مصلحة الإنسان والمجتمع. كذلك الأمر، الأمانة، في العالم، ليست مطلوبة. المطلوب هو أن يسعى كلّ إنسان لمصلحته ومصلحة جماعته، وحتّى لمصلحة وطنه. هذه ليست أمانة، أبدًا! الأمانة أن يكون الإنسان أمينًا للقيم، للمبادئ، للوصيّة الإلهيّة الّتي أسلمنا إيّاها الرّبّ يسوع. في العالم، مثلاً، الزّنى أمر عاديّ جدًّا! لا بل هو شيء مرغوب فيه، ويُعتبَر مرتبطًا بالطّبيعة! هذا ليس، أبدًا، ما نفكّر فيه، أو ما نقبله… بإمكان الإنسان أن يسترسل في الحديث عن أركان العالم الّتي تختلف، تمامًا، عن أركان ملكوت السّموات، وعن أركان الكنيسة. لهذا السّبب، لا يمكننا، أبدًا، أن نجعل حياتنا من طينة هذا العالم. نحن من طينة مختلفة! نحن نقرأ في غير كتاب! نحن نقرأ في كتاب الله، وننتمي إلى جسد المسيح! هذا علينا أن نحافظ عليه، دائمًا، في هذا العالم! ليس المطلوب أن نخرج من هذا العالم، إنّما أن نحافظ على أنفسنا، بنعمة الله، في هذا العالم. نحن في هذا العالم، لكنّنا لسنا من هذا العالم. طبعًا، هذا ليس بالأمر السّهل، أبدًا؛ لأنّ الإنسان لا بدّ له من أن يشعر، إذا ما سلك في هذا المسار، بأنّه غريب! ولا بدّ للآخرين، أيضًا، من أن ينزعجوا منه، لأنّه مختلف عنهم. لكن، هذا، بالضّبط، هو الواقع المستمَدّ من الوصيّة الّتي أسلمنا إيّاها الرّبّ يسوع؛ ونحن، بكلّ بساطة، أبناء الملكوت على الأرض! نحن ننتمي إلى مملكة أخرى، وإلى ذهنيّة أخرى، وإلى مفاهيم أخرى. كلّ هذا يجب أن يجعلنا، لا أمناء فقط لله؛ إنّما، أيضًا، نسلك بفرح وسرور في ما أوصانا به الرّبّ الإله؛ إذ ذاك، نحقّق هويّتنا. نحن لنا هويّة مختلفة! الرّبّ يسوع، هنا، يقول إنّه قد أعطانا نفسه مثلاً. هو في العالم قد اضطُهد. فإذا كنّا نحن له، فعلينا أن نتوقّع أن نُضطَهَد نحن أيضًا: “إن كانوا قد اضطهدوني، فسيضطهدونكم أنتم أيضًا، وإن كانوا قد حفظوا كلامي، فسيحفظون كلامكم أيضًا”.

طبعًا، هناك أناس، في هذا العالم، يحافظون على الأمانة لله. ليس كلّ النّاس، في نهاية المطاف، يتعاطَون بعداوة مع الله. هناك، أيضًا، أناس “لم يحنوا ركبة لبعل” (رو11: 4)، الله عارف بهم، وهؤلاء سيسمعون الكلمة ويحفظونها. يسوع جاء وكلّم العالم بالحقّ. وكلّ الّذين كانت فيهم نفحة الحقّ، هؤلاء سمعوا وحفظوا. أمّا الّذين لم يشاؤوا أن يسمعوا، فالكلام الّذي كلّمهم به الرّبّ يسوع يكون دينونة لهم، يكون خطيئة لهم: “لو لم آتِ وأكلّمهم لم تكن لهم خطيئة”! كلمة الرّبّ يسوع إمّا تبرّرنا، أو تجعلنا خطأة. لهذا، علينا أن نتعاطى مع الكلمة الإلهيّة بالكثير من الجدّيّة والرّصانة، لأنّها هي الّتي تبرّرنا، وهي الّتي تديننا. ثمّ إنّ مَن يُبغض التّلاميذ يُبغض الرّبّ يسوع؛ ويبغض، أيضًا، الآب السّماويّ. الرّبّ يسوع عمل كلّ ما يمكن أن يُعمل لكي يُخرج النّاس من الخطيئة الّتي يتمرّغون فيها، في العالم. هو شفى المرضى، وطهّر البرص، وأقام الموتى، وطرد الشـّياطين، وعلّم الوصيّة: “لو لم أكن قد عملتُ بينهم أعمالاً لم يعملها آخر، لم تكن لهم خطيئة”! الرّبّ يسوع عمل ويعمل، في الحقيقة، كلّ ما نحن في حاجة إليه للخلاص. لكن، إذا كان الإنسان لا يشاء أن يسمع، ولا يشاء أن يقبل، ويعاند، ويتمسّك برأيه وأهوائه؛ فإنّه، إذ ذاك، يجعل خطيئةً على رأسه. الحقيقة أنّ الإنسان الّذي يحبّ نفسه يُبغض الرّبّ يسوع المسيح بلا سبب، ولا يحتاج إلى سبب، أبدًا، لكي يدخل في عداوة مع الله. السّبب هو أنّ قلبه ليس نقيًّا، هو أنّه لا يشاء أن يسمع الكلمة، لا يشاء أن يقبلها لأنّها تزعجه، لأنّها تناقض أهواءه، تناقض رغباته… مشكلة الإنسان الأساسيّة أنّه يريد أن يعيش على هواه! كثيرون، في الحقيقة، يفضّلون التّفلّت، لأنّه يجعلهم يشعرون بأنّهم أحرار. طبعًا، وصيّة المسيح تقيّد الإنسان، لكنّها تقيّده إلى الحرّيّة، لا إلى العبوديّة، أبدًا. إنسان الخطيئة يتصوّر أنّ الحرّيّة معناها أن يفعل الإنسان ما يشاء. طبعًا، هذا يجعل الإنسان يسقط في الخطيئة. ومَن يسقط في الخطيئة، يفقد حرّيّته، ويصير عبدًا لها. أمّا الرّبّ يسوع، فإذ يعطينا وصيّته، يعطينا، في الحقيقة، فرصة للحرّيّة الحقّ، الّتي هي أن يعرف الإنسان أن يقيّد نفسه بوصيّة الله، لأنّها تفتح له أبواب الحرّيّة الحقّ المرتبطة بالحبّ، وإن كانت، في الظّاهر، تقيّد الإنسان. الإنسان الّذي لا يقتبل وصيّة الحبّ لا يمكنه أن يكون حرًّا، بل يكون عبدًا لنفسه وللخطيئة. لذلك، بوصيّة الحبّ وحدها يصير الإنسان حرًّا بمعنى الكلمة.

إذًا، الحرّيّة، تحديدًا، هي أن يكون الإنسان حرًّا من هواه، حرًّا من عبادته لنفسه، حرًّا من مشيئته الخاصّة. إذ ذاك، يكون الإنسان حرًّا. أمّا الحرّيّة المطلقة، أي أن يصنع الإنسان ما شاء ومتى شاء، فهذه ليست حرّيّة، هذه خدعة من خـِدع الشـّيطان الّذي يوهمنا بأنّنا، إذا فعلنا ما نشاء، إذا فعلنا ما نرغب فيه، نصير أحرارًا. هذا كذب! بالنّسبة إلى الله، إذا أردتَ أن تصير حرًّا، فعليك أن تحبّ، عليك أن تتعلّم كيف تخرج من نفسك، كيف تخرج من أهوائك. إذ ذاك، متى فعلتَ ذلك، تصير حرًّا بمعنى الكلمة. إذًا، الإنسان الّذي يحبّ العالم، أي الّذي يحبّ نفسه وإرادته وأهواءه، هذا يُبغض الرّبّ يسوع المسيح بلا سبب! الرّبّ الإله يعطيه كلّ الأسباب حتّى يتحرّر، حتّى يتنقّى، حتّى يتقدّس، حتّى يحبّ، لكنّه (أي الإنسان) لا يشاء لأنّه يفضّل أهواءه على كلّ شيء آخر. والرّبّ يسوع يعطينا المعزّي لكي يشهد لِما قاله إلى الأبد. إذًا، نحن، كلّ يوم، نتلقّى شهادة الرّوح القدس عن الآب السّماويّ، وعن الرّبّ يسوع الّذي أعطانا وصيّة المحبّة. المطلوب أن نكون متعاونين مع الرّوح القدس، وأن نشهد معه، لأنّ المفترَض بنا أن نكون قد تمرّسنا بالحرّيّة الحقّ والمحبّة الحقّ: “أنتم أيضًا تشهدون لأنّكم معي منذ الابتداء. قد كلّمتكم بهذا لكي لا تشكّوا”، إذ تكون هناك، دائمًا، أسباب للشـّكّ بالرّبّ يسوع. لكنّ الرّبّ يسوع أعطانا، أوّلاً، الوصيّة، ثمّ أعطانا القيامة ختمًا للحقيقة، لكي لا نشكّ فيما بعد. إنّما علينا أن نكون واقعيّين، وأن نفهم أنّ العالم سوف يُخرجنا من المجامع، أي إنّه لن يقبلنا في وسطه، بل سيضايقنا، سيزعجنا، سيتسبّب لنا بآلام كثيرة، وسوف تأتي “ساعة يظنّ فيها كلّ مَن يقتلكم أنّه يقدّم عبادة لله”!

إذًا، نحن قطيع مُباع، عمليًّا، للموت من أجل الحقّ، للموت من أجل الوصيّة، للموت من أجل الله! العالم لا يمكنه إلاّ أن يضطهدنا، لأنّه حامل الخطيئة، والخطيئة حاملة لروح الشـّيطان، والشـّيطان يحاول، بكلّ الطّرق، من خلال عملائه، من خلال نَفَسه، من خلال تعليمه، أن يُفسد علينا الوصيّة الّتي أسلمنا إيّاها الرّبّ يسوع. لكن، علينا أن نتوقّع الأسوأ، إذا ما سلكنا بأمانة من جهة الله. “سوف تأتي ساعة يظنّ فيها كلّ مَن يقتلكم أنّه يقدّم عبادة لله”! هذا منتهى العمى! حين يصل الإنسان إلى حدّ يضطهد فيه مَن هم لله باسم الله، فإنّ الحسّ فيه، إذ ذاك، يكون قد مات، ويصير لا يرى أبدًا، ولا يميّز أبدًا بين ما هو للحقّ وما هو للباطل. كلّ هذا لا بدّ من أن يأتي علينا. لكن، “مَن يصبر إلى المنتهى، فهذا يخلص” (متّى10: 22). علينا أن نتمسّك بالأمانة، في كلّ حين؛ والرّبّ الإله يعطينا، في نهاية المطاف، أن ننتصر: “كلّ الأمم أحاطوا بي، وباسم الرّبّ قهرتهم” (مز117: 10).

آمين.

* عظة حول يو15: 17- 27، 16: 1- 2 في السّبت 24 نيسان 2010