أكاليل الصبر

أكاليل الصبر

عن اليرونديكون الصغير

تعريب الأرشمندريت أفرام كرياكوس

يوجد في أعماق الأراضي المصرية برّية مقفرة . في النهار يلتهب رملها وجبالها الصخرية. أما في الليل فيصيبها الصقيع والبرد القارص . في هذه الصحراء البرّية المدعوّة ثيبا ، عاش ونسك وتقدّس عشرات من قدّيسي الكنيسة . تنتشر هناك أساقيط عديدة وأديرة على طول هذه الأراضي البرّية . هناك أعطت صلوات وجهادات النسّاك حياة” روحية للبرّية .

في هذا المكان الفردوسي الأرضي المبارك ، عاش ناسك شيخ مع تلميذ له مطيع . كانت توحّدهما محبّة المسيح ، وكانا يحاولا من خلال جهادهما أن يعملا ما يفيد نفسيهما . في كل مساء كان الشيخ والتلميذ يتمّان صلاة النوم في الكنيسة الصغيرة لمنسكهما . بعد الصلاة اعتادا أن يصعدا الى قلاّية الشيخ حيث كان يسمع هذا الأنبا اعتراف تلميذه بانتباه ثم يعطيه النصائح اللازمة لمتابعة حياته الروحية ونموّها . عندما ينهيان كلامهما كان الشيخ يعطي بركته للتلميذ وهكذا كان هذا الراهب الشاب ينسحب الى قلاّيته ليرقد بسلام .

كان الشيخ معروفا” جدا” لفضيلته وكان كثيرون من مؤمني الاسكندرية والمدن الأخرى يذهبون الى ذلك الاسقيط بتواتر ليعترفوا ويسمعوا كلاما” معزّيا” نافعا” . في أحد الأيام أتى كثيرون من الناس الى الاسقيط لدرجة أن الشيخ بقي معهم باستمرار حتى المساء . عندما غادر جميع الزوّار تمكّن من الصعود الى قلاّيته . كان تعبه باديا” إلاّ أنه لم يهمل عادته المباركة مع تلميذه . فدعاه الى جانبه حيث بدأ هذا بالاعتراف الى شيخه الروحي .

بينما كان التلميذ يتكلّم غلب النعاس الشيخ فغفا . أمّا الراهب الشاب فقدّر تعب الشيخ وجلس ينتظره ليصحو ويمنحه بركته ليتمكّن بالتالي من الذهاب الى قلاّيته . مرّ الوقت ولم يستيقظ الشيخ الغارق في نوم عميق . أمّا التلميذ وبدون أن يتحرّك فكّر أن ينتظر بعض الوقت . تناول مسبحة الصلاة وصلّب بيمينه على وجهه وأخذ يتلو الصلاة القلبية : ” أيها الرّب يسوع المسيح ارحمني أنا الخاطئ ” .

مضى الوقت وعبر الليل والشيخ لم يستيقظ . بدأ الراهب بذاته يشعر بالتعب والنعس . فكّر أن يغادر بدون بركة أبيه لينام هو أيضا” إلاّ انه في الحال بدّل فكره قائلا”: ” كيف لي أن أذهب ؟ ” وفكّر ثانية : ” و ان صحا الشيخ ولم يجدني هنا ؟ سيتضايق مني كثيرا”. لا سأبقى هنا . سوف يستيقظ عاجلا” أم آجلا” . مع هذه الأفكار تشجّع وتابع صلاته .

بعد فترة عاد اليه الفكر ذاته . تذكّر وتأمل بتعب الشيخ الذي بقي طول النهار مع زوّار الاسقيط من أجل الاعتراف من دون أن يتشكّى أو يرتاح . خجل من الفكر القائل له أن يذهب وينام وقرّر ألاّ يغادر مكانه . حتى منتصف الليل أتاه الفكر هذا مرتين أخريين لكن بقوّة صلاة يسوع تغلّب عليه . ثم ما لبثت تباشير النهار تظهر والشيخ لم يستيقظ بعد . إلاّ ان التلميذ لا يزال بجانبه ساهرا” . كان قد تغلّب على فكر مغادرته للنوم سبع مرّات حتى تلك اللحظة .

بعد قليل صحا الشيخ من نومه العميق وصادف الراهب الشاب أمامه لا يزال ساهرا” . فقال له باستغراب: ” ألم تذهب الى قلاّيتك لتنام وتستريح يا بنيّ ؟ ” فأجابه التلميذ : ” لا يا أبتي الشيخ . كيف لي أن أذهب ؟ لم أنل بركتك بعد ” فقال : ” ولماذا لم توقظني يا بنيّ أبكر من هذا الوقت لتنل البركة ؟ “

” لقد كنت تعبا” جدا” من التعريف كل النهار أيها الشيخ ، وشعرت بالأسى على ايقاظك ” .

أجابه التلميذ بهذا وصنع مطانية للشيخ . ثم صعدا كلاهما الى الكنيسة ورتّلا معا” صلاة السحر .

بعد ذلك قال الشيخ لتلميذه أن يذهب الى قلاّيته ليستريح بينما هو نفسه بقي في الكنيسة ليتابع صلاته . بينما كان الشيخ يصلّي وقع في انخطاف ورؤيا : رأى أمامه فجأة ملاك الرّب في نور مبهر يأخذه من يده ويقوده الى مكان رائع الجمال لا يوصف . كان يوجد هناك عرش كبير يشعّ بنور سماوي . فوق العرش كان يوجد سبعة أكاليل ذهبية . انذهل الشيخ أمام عظمة هذا العرش وسأل الملاك :

” يا ملاك الله القديّس لمن يكون هذا العرش الرائع الجمال ؟ “

” هذا العرش هو لتلميذك أيها الأنبا ، أجابه الملاك وتابع ، ان السيّد الرّب قد هيّأ هذا المكان والعرش له منذ وقت طويل ، وذلك من أجل طاعته الطيبة الكاملة . أمّا هذه الأكاليل الذهبية السبعة فقد ربحها في هذه الليلة التي مرّت” .

مع أقوال الملاك هذه انتهت الرؤيا وعاد الشيخ من انخطافه .

في الحال نادى تلميذه وطلب منه أن يكشف عن أفكاره في المساء الماضي حين بقي صاحيا” طوال الليل . فكشفها التلميذ للشيخ :

” سبع مرّات أيها الشيخ ، أتاني فكر لأذهب وأرتاح بدون بركتك وذلك عندما كنت نائما” . إلاّ أنيّ بقوّة الصلاة استطعت أن أصمد واستمرّ صاحيا”  ” .

عندما سمع الشيخ هذه الأقوال تعجّب من صبر تلميذه . إلاّ أنه لم يكشف له عن الرؤيا لئلا يقع في الكبرياء فيسيء الى نفسه . فيما بعد صارت تحكى هذه القصّة والرؤيا للمبتدئين وزوّار الاسقيط للفائدة . إلاّ أن ذاك التلميذ المبتدئ الصبور لم يعلم شيئا” عن الرؤيا الى اليوم الذي دعاه الرّب الى الحياة الأبدية .

Leave a comment