مماثلة الآب السّماويّ

مماثلة الآب السّماويّ*

الأرشمندريت توما بيطار

يا إخوة، الإنسان، في هذا الدّهر، يولَد طبيعيًّا من إنسان. لذلك، أبي هو الّذي ولدني، وأمّي هي الّتي ولدتني، بحسب الطّبيعة البشريّة. لكن، هناك ولادة لا تكون من الحشا. هناك ولادة أخرى تكون من فوق، تكون بحسب روح الرّبّ، ولا تكون بحسب الطّبيعة البشريّة. لهذا، الرّبّ يسوع، في كلامه، يدعونا إلى السّلوك في وصيّة جديدة: “أحبّوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلّوا لأجل الّذين يعنّتونكم ويضطهدونكم”. الغاية من هذه الوصيّة الجديدة هي مماثَلَةُ الآبِ السّماويّ؛ أو، بكلام آخر، أن يولَد الإنسان من فوق “لتكونوا بني أبيكم الّذي في السّموات”. هذه الولادة الجديدة تأتي نتيجةَ مماثَلَةِ الإنسان، بحفظ الوصيّة بنعمة الله، للآبِ السّماويّ؛ “لتكونوا بني أبيكم”. ويختم الرّبّ يسوع كلامه بالقول: “كونوا كاملين كما أنّ أباكم الّذي في السّموات هو كامل”.

إذًا، أن نكون أبناء للآب السّماويّ معناه أن نماثله في ما هو عليه. الرّبّ يسوع المسيح، هنا، يكشف لنا سرّ الآب السّماويّ. الآب السّماويّ محبّة! والّذي يحبّ، يصير ابنًا له. كذلك، الّذي يحبّ، يصير كاملاً، كما أنّ الآب هو كامل. من هنا، الكمال يتمثّل بأمر واحد مميَّز، وهو محبّة الأعداء. الآب السّماويّ ميزته الأولى أنّه يحبّ أعداءه. ولأنّه يحبّ أعداءه، يستبين أنّه محبّة، أي يستبين أنّه في كلّ ما يعمل يحبّ! كلّ أعمال الله، من الألف إلى الياء، موسومة بالمحبّة. ليس هناك عمل إلهيّ واحد ليس موسومًا بالمحبّة الإلهيّة، والدّليل على ذلك أنّ الرّبّ الإله يحبّ أعداءه. مَن هو عدوّ الله؟! وهل لله أعداء؟! الشـّيطان هو عدوّ الله. الرّبّ الإله خلقه صالحًا، في البداية؛ وكان بإمكانه أن يبيده، لكنّه لم يفعل. لو أباد الرّبُّ الإلهُ الشـّيطانَ، لَما كان ليكون محبّة! لهذا السّبب، محبّة الله تجلّت، بصورة خاصّة، في محبّته للشـّيطان. وهو، بذلك، أحبّ كلّ أبناء الشـّيطان. وأبناء الشـّيطان هم الّذين يماثلونه في أعماله. لهذا، قال الرّبّ يسوع لليهود: “أنتم من أب هو إبليس، وأعمال أبيكم تعملون” (يو8: 44). الرّبّ الإله، إذًا، يبقى منسجِمًا مع نفسه، يبقى هو نفسه، ولا يتغيّر. موقفه من النّاس لا يتغيّر. موقفه من الشـّيطان لا يتغيّر. موقفه محكوم بالمحبّة، بمحبّته لكلّ الّذين يرفضونه! جحيم الشـّيطان أنّ الله يحبّه. لو كان الرّبُّ الإلهُ يكره الشـّيطان، لَكان هذا الأخير في حال أفضل، ولَكان له مُبرِّرٌ في رَفـْضـِهِ للرّبّ الإله وكُرْهِهِ له. لكن، لأنّ الرّبّ الإله يحبّه، على الرّغم من كلّ شيء؛ فإنّه، أي الشـّيطان، ليس مُبرَّرًا في موقفه من الله. وهذا ما يجعله في جحيم. ليس هناك جحيم أقسى من أن يبادل الإنسانُ رفضَ الآخرين له بقبوله لهم! ليس هناك جحيم أقسى من مقابلة الإنسان كرهَ الآخرين له بمحبّة! هو، طبعًا، لا يفعل هذا ليُغيظهم! إنّما ما يغيظهم، ويجعلهم في جحيم، هو كرههم، لا محبّة الله لهم. فلأنّهم يكرهون، لا يستطيعون أن ينتفعوا من محبّة الله، ولا يستطيعون أن يختبروا الفردوس، والحياة الأبديّة، والفرح المتمثّل بمحبّة الله. محبّة الله هي حياة أبديّة، وفرح لا يوصَف للّذين يستجيبون له. وهي نفسها، للّذين لا يستجيبون للمحبّة، جحيمًا تكون!

إذًا، الله لا يمكن أن يُنسَب إليه أيّ شرّ، أو أيّ أذًى يمكن أن يلحق بمخلوقاته. إنّما المخلوقات عينها، لأنّها تعاند في رفضها لله، تعاني، وتعاني بقسوة، تعاني بشدّة. لماذا؟! لأنّ الرّبّ الإله خلق كلّ الخليقة بمحبّة، بما في ذلك الشـّيطان، حين كان، بعدُ، ملاكًا صالحًا. إذًا، تكوين كلّ الخلائق هو تكوين على أساس محبّة الله. إذا كانت للواحد منّا سيّارة، والسّيّارة تحتاج إلى زيوت لكي تسير بسلاسة؛ فإن جعل الإنسان مكان الزيوت موادًّا حارقة، فهل يمكن السّيّارة أن تسير كما صنعها صانعها؟! لا، أبدًا! السّيّارة لا تتوقّف، فقط، عن الجريان؛ بل تحترق، أيضًا! هكذا خلائق الله، إنّها مخلوقة لزيت المحبّة! والزّيت علامة الرّحمة. الإنسان، حين يتعاطى الرّحمة، فإنّ أموره تسير على أفضل ما يُرام. أمّا إذا استعاض عن زيت الرّحمة بمادّة مشتعلة هي الكره، فماذا يحدث؟! هل يحدث شيء لصانع السّيّارة؟! طبعًا، لا! ما يحدث يحدث للسّيّارة عينها، يحدث للإنسان نفسه، يحدث لخليقة الله نفسها، يحدث للشـّيطان نفسه… فإنّ المادّة الحارقة تحرق صاحبها، لأنّ صاحبها ليس مصنوعًا لكي يستوعب الموادّ الحارقة الّتي للكراهيّة، أو للأنانيّة، أو لحبّ الذّات وعبادتها. الخليقة لا يمكنها أن “تهضم” هذه الموادّ. إذًا، هذه الموادّ لا فقط تعطّل الإنسان وتعطّل خليقة الله، بل تجعله في حال أسوأ! تجعله في النّار! تجعله يحترق! وهو، إذ يحترق، يحترق بخطيئته، ولا يحترق لأنّ الرّبّ الإله يكون قد تخلّى عنه! إذا كان الرّبّ الإله قد أرادنا أن نماثل الآب السّماويّ بمحبّة الأعداء، وإذا كان قد أرادنا أن نكون كاملين كما أنّ الآب السّماويّ هو كامل؛ فهذا كلّه مُعطًى لنا، لا لأنّنا قادرون على أن نحقّقه بقوّتننا الذّاتيّة! فالإنسان لا يمكنه أن يصير مثل الله، إلاّ بروح الله. الله يعطينا روحه، الّذي به يصير بإمكاننا أن نحبّ أعداءنا، ويصير بإمكاننا أن نكون كاملين. فقط، علينا أن نكون منسجِمين مع كلمة الله. الوصيّة الّتي أعطانا إيّاها الرّبّ الإله، أعطانا إيّاها لكي نكون في انسجام مع الله؛ فمتى سلكنا في الوصايا، فإنّ الرّوح القدس، إذ ذاك، بعد أن يكون، بصورة خفيّة، قد أعاننا في إتمام الوصايا الإلهيّة، يأتي بنا إلى وصيّة الوصايا ليحقّقها، وهي وصيّة محبّة الأعداء. حينئذٍ، يصير الإنسان كاملاً.

“قد سمعتم أنّه قيل: أَحْبِبْ قريبَك، وأَبْغـِضْ عدوَّك”. هذا ما كان عليه حال البشريّة، قديمًا. البشريّة كانت في وضع قبليّ، في وضع القبيلة! روح القبيلة كانت متملّكة على الإنسان. لكن، حتّى في إطار هذا الواقع الّذي كان فيه الإنسان، قديمًا، حتّى في إطار القبيلة؛ لم يكن النّاس محبّين بعضهم لبعضهم الآخر. لهذا، سرى القول، الّذي لا يزال يُتداوَل شعبيًّا، بين النّاس: “أنا على ابن عمّي، وأنا وابنُ عمّي على الغريب”! هذا، تمامًا، هو واقع السّيرة القبليّة للإنسان. الرّبّ الإله، أوّلاً، أراد للإنسان أن يعتاد تعاطي المحبّة في إطار القبيلة، بما أنّها هي كانت إطارَ عيشه. لكن، قليلاً قليلاً، انتقل الرّبّ الإله بالإنسان إلى حسّ جديد عبّر عنه، بصورة خاصّة، الأنبياء. ما نقرأه، مثلاً، في سـِفـْرِ الخروج يقع في الطّبقة الأولى من عمليّة الصّعود، الّتي شاءها الرّبّ الإله لهم. أمّا متى بلغنا مرحلة الأنبياء، فإنّنا ننتقل من الطّبقة الأولى إلى الطّبقة الخامسة، أو السّادسة. طبعًا، حتّى حين كان الإنسان في الطّبقة الأولى، كان هناك أمر من الله أن يحافظ المرءُ على الغريب، وعلى الضّعيف: “الغريب لا تقهر” (خر23: 9)! وهذا الغريب، في الحقيقة، هو الّذي صار علينا أن نحبّه مع الرّبّ يسوع؛ إذ بالرّبّ يسوع صار الغريب قريبًا، وصار العدوّ صديقًا، وصار المرذول مقبولاً، وصار المكروه محبوبًا!… هذه كانت طريقة الله في تربية البشريّة، والتّرقّي بها، إلى أن بلّغها الكمالَ بالرّبّ يسوع المسيح. في كلّ نفس، تتمثّل كلّ المراحل الّتي عبر بها الشـّعب العبريّ، من السّقوط حتّى مجيء الرّبّ يسوع. كلّ إنسان يولَد في الخطيئة: “في الخطيئة ولدتني أمّي” (مز50: 5)، يولَد مائلاً إلى الغيرة، إلى الحسد، إلى الأنانيّة، إلى الكبرياء، إلى التّعظّم، إلى عبادة الذّات… وهذا كان واقع الشـّعب العبريّ. لكن، كما نشـّأ الرّبُّ الإلهُ شعبَه، من خلال موسى، ويشوع من بعده، والأنبياء من بعدهما؛ كذلك، يعطينا أن يُنشـّئ بعضُنا بعضًا على التّرقّي من مستوى عبادة الذّات إلى مستوى عبادة الله، من مستوى محبّة الذّات إلى مستوى محبّة الله. من هنا أهمّيّة العائلة المسيحيّة، والدّور النّبويّ التّاريخيّ الّذي ينبغي أن تتعاطاه في تنشئتها لأبنائها؛ ومن هنا، أيضًا، دور الكنيسة النّبويّ. الرّبّ الإله، في الحقيقة، جعل من الجميع أنبياء! نحن أمّة أنبياء! إذًا، نحن نُنبئ دائمًا، لا فقط بكلمة الله؛ إنّما نُنبئ، أيضًا، بقصد الله، نُنبئ بروح الله. نحن نعمل، دائمًا، على إعداد الشـّعب لسكنى روح الله فيه! فإذا كانت العائلة المسيحيّة لتستقيل من تعاطي هذه المسؤوليّة، وإذا كنّا نحن، كمؤمنين في كنيسة المسيح، لنتخلّى عن هذا الدّور النّبويّ في تعاطينا بعضنا مع بعضنا الآخر، فإنّما نكون قد تركنا الآخرين يعودون بروحهم إلى الانحطاط الّذي كان الشـّعب القديم فيه، في وقت من الأوقات! نحن ليس بإمكاننا، بعد، حتّى أن نتكلّم على الوصايا العشر الموسويّة! هذه صارت لا تخصّنا! نحن، بيسوع المسيح، يُفترَض بنا أن نكون قد تخطّيناها! لكن، حتّى الوصايا العشر، قلّة قليلة من النّاس – أقصد بالنّاس الّذين يعتبرون أنفسهم أنّهم مؤمنون بالرّبّ يسوع المسيح – تقيم وزنًا لها. أكثر النّاس عادوا إلى وثنيّاتهم؛ أي، بكلام آخر، عادوا إلى زمن سدوم وعمورة. وماذا حصل؟! سدوم وعمورة، برفضهما للرّبّ الإله، وبتمسّكهما بعبادة ذاتيهما أوثانًا وبالممارسات الشـّائنة، جعلا محبّة الله، بخطيئتهما، تتحوّل إلى نار وكبريت أحرقاهما إلى الأبد! المُكتَشَفات الأثريّة، في البحر الميت وفي جواره، أبانت أنّ هناك موقعًا اعتُبر أنّه لسدوم القديمة. واكتُشف أنّ سدوم أُحرقَت بنار فظيعة! وبعد ذلك، صارت لا تصلح لأن تكون مسكنًا لأحد! صارت خاوية، محروقة إلى الأبد!

مَن يشاء أن يتعلّم، فهناك الكثير أمامه ليتعلّم منه. أمّا مَن يعاند في خطاياه؛ فلا بدّ، لا فقط من أن يموت في خطاياه؛ بل لا بدّ له، أيضًا، من أن يلقى خطاياه جحيمًا له إلى الأبد.

آمين.

* عظة حول متّى5: 42- 48 في السبت 18 أيار 2011