الإنترنت والخبرة الروحية

الإنترنت والخبرة الروحية

الأرشمندريت أفرام الفاتوبيذي

ترجمة حنا سمّوع

إن التطور الجنونيّ في مجال التكنولوجيا والمعلومات خلال العقدين الأخيرين، حقّق نتائج غير متوقعة، لم نكن حتّى نتصوّرها في السبعينات والثمانينات. أصبح الإنترنت، والبريد الإلكترونيّ، والمواقع على شبكة الإنترنت، والشبكات الاجتماعية جزء أساسي من حياتنا اليوميّة، والعمليّة، والتربويّة، والثقافيّة، والفنيّة، والترفهيّة. أتاح لنا الإنترنت تقليص المسافة او حتّى إلغائها، فالأخبار يمكن أن تُبث عبر الإنترنت من أحد أطراف الأرض إلى الطرف الآخر ببضع ثوان _كلنا اختبرنا هذا الأمر. اليوم، تجري المحادثات بسهولة، وحتّى أنّها تنطوي على اتصال العين بغض النظر عن المسافة. فالشرط الوحيد للمستخدم هو أن يشترك بشبكة الإنترنت. حقًّا، إنّ استخدام الإنترنت لبسيط جدًّا، بحيث يمكن لأيّ طفل أو عجوز أن يستخدمه بسهولة تامة.

وبالطريقة عينها، يمكن إرسال كلمة الله إلى كل أنحاء العالم، هذا ما يحدث في أثينا، الطريقة نفسها، حيث أنّه يستطيع مئة مستمع تسجيل المحاضرة وإرسالها إلى الآلاف، أو حتى إلى الملايين، أو يقومون بالبث المباشر كما يحدث في مؤتمرنا الآن.

ولكن ينبغي أن ندرك أنّ كلمة الله ليست خطابًا بشريًّا محضًا، بل إنّها تحمل قوّة إلهيّة، حيث تستطيع أن تحُيي الإنسان روحيًّا وتُعزّيه، وهذا الأمر يمكن أن يحدث عبر الإنترنت. أعرف حالات كثيرة، لمختَلَف الأشخاص، من ملحدين، ووثنيّين، من هندوسيّين، ويابانيّين، ونيباليّين، وجدوا الأرثوذكسيّة من خلال الإنترنت، ووُلدوا من جديد، لأنهم وجدوا الحقيقة التي كانوا يبحثون عنها في هذه الحياة. لقد وجدوا المسيح.

منذ فترة قصيرة، زار ديرنا ممثّل في هوليوود يدعى جوناثان جاكسون Jonathan Jackson. سألتُه كيف صرتَ أرثوذكسيًّا، فأجابني أنّ الإنترنت ساعده كثيرًا. من جهة أخرى، بفضل الإنترنت، عاد إلى الله مسيحيّون من الذين تغرّبوا عنه، ووجدوا أنفسهم، ومكانهم في هذا العالم. بعض الأشخاص كانوا على شفير الإحباط التام، وباستماعهم إلى بضع المحاضرات عبر الإنترنت، وجدوا فيها القوّة الروحيّة الضرورية، والأمل، وهم الآن ينمون روحيًّا.

طبعًا، كلمة الله الأرثوذكسيّة هي أقل انتشارًا على شبكة الإنترنت مقارنة بالكلمات الأخرى. عندما أقول كلمات أخرى، فأنا أقصد العلوم الطبيعية، والاقتصاد، والسياسة، وحتّى ظواهر مختلفة مثل الأزياء، والاستعراض، أو حتى بعض المواقع الفاسدة، ولسوء الحظ، غالبًا ما يزورها المستخدمون .

يبدو لي اليوم أنّ كلمة الله يجب أن تحضر حضورًا قويًّا، وتُبَثّ بشكل مباشَر. اليوم، أغلب الناس مضطربون، واقعون دائما بمآزق. في هذا العصر، وحدها كلمة الله تُريح الإنسان، تعطيه معلومات، وتؤكّد له إمكانيّة الحياة الأبديّة. يمكن لكلمة الله المرسلة عبر الإنترنت أن تلعب دورًا في شفاء الإنسان.

ينبغي إنشاء مكتبات إلكترونية ذات محتويات وثيقة، وينبغي مضاعفتها. ويجب استخدام النصوص الملحوظة لتراث الآباء القدّيسين وحكمتهم قدر الإمكان، بأفضل الطرق وأحدثها. إن ترقيم كتابات الآباء القديسين وتصنيفها تتيح لمستخدمي الإنترنت إيجاد النصوص والمعلومات حول الموضوعات التي تهمهم. علاوة على ذلك، إن ترقيم كلمة الله وترويجها على صفحات المواقع الإلكترونية، لا سيّما تعاليم آباء القرن العشرين سوف يجلب فائدة روحية لأهل هذا العصر.

قال الشيخ أفرام الكاتوناكي أوه، يا له من أمر مؤسف أنه لم يكن ممكنًا تسجيل أقوال الشيخ يوسف. نحن نعلم مدى أهميّة كلام الأشخاص الذين عاشوا شخصيًّا الحرب الروحية غير المنظورة واكتسبوا خبرة فيها. قال القديس بايسيوس: “اكتبوا كل تعليم روحي تسمعوه، بالإضافة إلى الخبرات التي تسمعونها من الآخرين، لأنه سيأتي وقت تنفد فيه هذه الخبرات، وتكونون في عوز روحيّ. في الواقع، في السنوات الماضية الأخيرة، نما بشكل كبير إصدار الكتب اللاهوتيّة خصوصًا في اليونان، كما في سواها من البلدان الأرثوذكسيّة.

ولكن يا للأسف، لدى كثير من الأرثوذكس صعوبات لغويّة، ولا يمكنهم الوصول إلى هذه النصوص القيّمة. علاوة على ذلك، إنّ الكتاب العادي المطبوع على ورق يواجه أزمة حقيقيّة اليوم. وفي الوقت عينه، ازدادت مبيعات الكتب الإلكترونية. لذلك، يمكننا الاستفادة من هذا التوجّه . ويمكننا القول إنّ هذه الأمور حسنة، ويُسّر الله بها عندما تسير بالطريقة الصحيحة.

الإنترنت هي أداة عصرية تعزز العولمة. فالّذين يوّدون نشر أفكار العولمة في مجالات التاريخ، والاقتصاد، والدولة، وقيادة العالم، يعرفون كيفيّة الاستفادة من شبكة الإنترنت –وفي الواقع، يستخدمونها بكثافة. لمَ لا ينبغي لنا، نحن الأرثوذكس أن نستخدم هذه الأداة لتعزيز الدور العالميّ للأرثوذكسيّة؟ لمَ لا نستخدمها في توحيد الأرثوذكس ومهمتهم في العالم المعروف؟

إن الاستخدام السليم لشبكة الإنترنت يتوقّف على المستخدم نفسه. طبعًا، لا يمكن استبدال التواصل الحيّ بشبكة الإنترنت، طبعًا، لا يمكن لأحد بلوغ مستوى روحيّ معيّن من خلال شبكة الإنترنت وحدها. الأرثوذكسية تتمحور حول الأشخاص، وتعطي الأولويّة دومًا للقيمة الجوهرية للشخص، والفرد. الإنترنت هي أداة ووسيلة تساعدنا وتفيدنا، ولكن الحياة الروحية الأصيلة لدى المؤمن تتطلب تواصلاً شخصيًّا والأب الروحيّ.

كذلك، من الضروري أن نكون على اتصال بالإخوة الآخرين، بغية إختبار المحبة، والمشاركة في أسرار الكنيسة كلّها. طبعًا، هناك حالات لإستخدام الإنترنت بشكل مفرط، ولو لأغراض جيّدة وروحية، قد تخلق إدمانًا، ممّا يؤدي إلى عزلة اجتماعية، وله تأثير ضارّ على شخصيّة المرء. بالتالي، للإنترنت تبعات سلبيّة: عوضًا من أن تقرّب المستخدم إلى المسيح، تبعده عن الله. لهذا، نحن نتحمّل مسؤولية كبيرة في تعزيز كلمة الله وتبادلها، مستخدمين أحدث الوسائل، وأكثرها إفادة، وحداثةً. ولكن ينبغي أن نعلّم قطيعنا كيفيّة استخدام الإنترنت بشكل مفيد، مشدّدين على التأثيرات السلبية كلّها التي قد يسببها سوء استخدام هذه التكنولوجيا.

هذا إحدى أهداف مؤتمرنا، الذي يجري للمرة الأولى على مستوى عالميّ في الأرثوذكسيّة. إنّها لبركة عظيمة لنا أنّ يتمّ هذا المؤتمر في بلادنا. أوّد أن أشكر المنظمين: مجلة Pemptousia على الإنترنت، ومواقع أخرى، وBogoslovالروسيّة. إنّ ديرنا يدعم دومًا بكثير من المحبة والإهتمام، أعمال معهد القديس مكسيموس اليوناني. نأمل أن يكون هذا المؤتمر قادرًا على مواجهة تحدّيات العالم الحديث، وأن يستخدم كلّ المشتركين هذه التقنيات الحديثة والإنترنت من أجل منفعتهم الروحيّة.