مصباح العفّة وزيتها

مصباح العفّة وزيتها

الأرشمندريت توما بيطار

يا إخوة، مثل العذارى العشر، الّذي نسمعه، من وقت إلى آخر، إنّما يشير، في العمق، إلى طبيعة المسيرة المسيحيّة، في هذا العالم. نحن، كمؤمنين بالرّبّ يسوع، ننتظر مجيئه. لذلك، يرد، هنا وهناك، في بعض رسائل الرّسول بولس، وفي سـِفـْر الرّؤيا، ذاك النّداء: “أيّها الرّبّ يسوع، تعال” (رؤ22: 20). حياتنا كلّها ينبغي أن تكون مرتكـِزَةً على مجيء الرّبّ يسوع. ليس بإمكان أحد أن يقول: “غدًا يأتي الرّبّ يسوع، أو لن يأتي قبل زمان طويل“! ما دمنا لا نعرف متى يأتي ربّنا، فإنّه يمكن أن يأتي بعد دقيقة، كما يمكن أن يأتي بعد سنوات. في كلا الحالين، علينا أن نكون مستعدّين استعدادًا كاملاً وكلّيًّا. لا يمكننا أن نتغافل، ولو لحظة واحدة؛ لأنّ هذه اللّحظة، بالذّات، قد تكون اللّحظة الّتي يأتي فيها الرّبّ. وإذا ما وَجَدَنا غيرَ مستعدّين، فإنّه يُقفل الباب في وجوهنا.

من هنا الاستنتاج الّذي ورد، في آخر تلاوة هذا الإنجيل الكريم، اليوم: “اسهروا، فإنّكم لا تعلمون اليوم، ولا السّاعة الّتي يأتي فيها ابن البشر“. لفظة اسهروالا تعني أنّ علينا أن نسهر في اللّيل، وأن نتغافل في النّهار. السّهر، هنا، معناه أنّ علينا أن نكون في حال يقظة دائمة؛ لأنّنا، هنا، نعيش كما في ليل! حياتنا كلّها، في هذا العالم، هي كأنّها ليل، قياسًا بالنّور الّذي نرجو أن يُشرق، في حياتنا، بيسوع المسيح. إذًا، السّهر هو الصّحو، صحو القلب؛ هو اليقظة؛ هو الانتباه الكامل؛ هو عكس الغفلة، أي أن يكون الإنسان غافلاً عن حفظ الوصيّة. “اسهروا، إذًا، بمعنى أنّ علينا، في اللّيل وفي النّهار، أن نهذّ باسم الرّبّ يسوع؛ في اللّيل وفي النّهار، علينا أن نجعل أنفسنا في مناخ الرّبّ يسوع المسيح. تعلمون القول الّذي ورد في العهد القديم بشأن اليقظة، كما في نشيد الأنشاد: “أنام وقلبي مستيقظ” (نش5: 2). الإنسان الّذي يسهر؛ أو، بكلام آخر، الإنسان الّذي يتعب لكي يحفظ وعيه، وانتباهه، والتزامه الوصيّة الإلهيّة؛ ما دام وهو في هذا الجسد في وضع اليقظة الذّهنيّة، فحتّى لو نام بالجسد، فإنّ ما يكون قد فعله وهو في اليقظة يستمرّ حتّى في أثناء النّوم. الإنسان الّذي يصلّي، في يقظته، يصلّي، أيضًا، في نومه؛ والإنسان الّذي يسعى إلى النّقاوة، وهو في يقظته، تستمرّ النّقاوة في نومه، أيضًا. حين نعاين أحلامًا غير نقيّة، في أثناء نومنا بالجسد، فإنّ هذا، في الحقيقة، يكون دليلاً على أنّنا لسنا في وضع السّهر على أنفسنا، في شأن حفظ الوصيّة الإلهيّة؛ هذا يدلّ على أنّنا في تراخٍ. الإنسان اليقـِظ، الّذي يكون قلبه يقـِظًا، حتّى لو جعل رأسه على الوسادة ونام، ولو حاول الشـّرّير أن يبثّ في ذهنه صورًا، أو خيالات، أو أفكارًا، أو أحاسيس غير نقيّة؛ فإنّه، باليقظة الّتي فيه، بالنّعمة الإلهيّة الّتي تفعل فيه، يصحو ويقاوم؛ وإذا لزم الأمر، فإنّه يخرج من نومه، حتّى يقطع حبل الأحلام، والأفكار، والتّصوّرات، والخيالات، والأحاسيس غير النّقيّة.

لهذا، يا إخوة، علينا أن نعمل، في كلّ حين، على حفظ الأمانة للرّبّ يسوع. التّوبة التّوبة في كلّ وقت! حتّى لو شردنا قليلاً، نتوب مباشرة. أودّ، هنا، أن ألفت أنظاركم إلى بعض ما ورد في هذا الإنجيل الكريم. الكلام هو على العذارى. في الحقيقة، في الكنيسة، لا مكان إلاّ للعذارى. طبعًا، ليس المقصود الكلام على الزّواج أو عدم الزّواج. المقصود الكلام على عذريّة القلب، في الدّرجة الأولى؛ أو، بكلام أدقّ، المقصود هو عفّة السّيرة، سيرة المؤمنين. العفّة أمرٌ الكلُّ، في كنيسة المسيح، مطالبٌ به، سواء أمتزوّجًا كان أم غير متزوّج. علينا، دائمًا، أن نسلك في العفّة. والعفّة هي أن يعفّ الإنسان، بصورة دائمة، عن كلّ ما لا يرضي الله. التّمسّك بالوصيّة والسّلوك فيها يستلزمان موقف عفّة؛ وإلاّ ما النّفع، إذا لم يكن القلب نقيًّا؟! ماذا ننتفع، إذا حفظنا بعض الوصايا، وأهملنا سواها؟! علينا، في الحقيقة، أن نحمل، في ذواتنا، موقفًا عفيفًا، بمعنى أن نكون في استعداد دائم لحفظ كلّ الوصايا. قد نقصّر، أحيانًا؛ وقد ننجح، أحيانًا أخرى؛ لا بأس! هذا كلّه يدخل ضمن التّدبير الإلهيّ لأجلنا. لكن، مهما كان الأمر، فإنّ علينا أن نلتزم الرّبَّ يسوع، بالكامل؛ أن نلتزم وصاياه، بكلّ معنى الكلمة؛ لأنّ مَن سمح لنفسه بأن يُخطئ، إراديًّا؛ مَن سمح لنفسه بأن يتخلّى ولو عن وصيّة واحدة؛ يكون، عمليًّا، قد تخلّى عن كلّ الوصايا. موقفنا ينبغي أن يكون موقفًا كاملاً كلّيًّا. في المحبّة، ليست هناك، أبدًا، أنصاف حلول! إمّا أن يكون الإنسان مُحـِبًّا، أو لا يكون محبًّا! لا يمكنه أن يكون محبًّا، بصورة جزئيّة! عليه أن يكون محبًّا، بصورة كاملة! لا شكّ في أنّ الإنسان، بسبب ضعفه، قد يقصّر، إنّما عن غير إرادة، في محبّته لله. لكن، لا يليق بالإنسان المؤمن أن يخبّئ، في نفسه، قصدًا غير نقيّ يدفعه إلى التّفريط، ولو قليلاً، بمحبّته لله. الله، في كلّ حال، إله القلوب. هو يعرف، تمامًا، ما نخبّئه في نفوسنا؛ وهو يطالبنا بأن نكون أنقياء القلوب، في الدّرجة الأولى. لا يظنّنّ أحد أنّ أنقياء القلوب لا يُخطئون! لكنّهم لا يُخطئون عن قصد! علينا أن ننتبه، حتّى نعرف ما في داخلنا معرفةً جيّدة، بحيث ننقّي نوايانا، وننقّي دواخلنا؛ حتّى يكون هذا القلب كلّه مرفوعًا إلى الرّبّ يسوع المسيح.

إذًا، العذريّة؛ أو، بكلام آخر، العفّة هي نصيب كلّ المؤمنين، من دون استثناء. ومن هنا الكلام على العذارى العشر. لكن، هناك خمس عذارى حكيمات، وخمس عذارى جاهلات. لماذا الكلام على خمس عذارى حكيمات، وخمس عذارى جاهلات؟! العدد “5” هو عدد كامل؛ ومن ثمّ، الكلام على خمس عذارى حكيمات يشير إلى مجمل النّاس الحكماء، في تعاملهم مع الله. وكذلك الأمر، الكلام على خمس عذارى جاهلات يشير إلى مجمل النّاس الّذين لا يسلكون باستقامة، من جهة الرّبّ يسوع المسيح. إذًا، العفّة مطلوبة من الجميع؛ لكن، ينبغي أن نترجمها إلى أعمال، في علاقتنا بعضنا ببعضنا الآخر. لهذا السّبب، بالإضافة إلى الكلام على العذارى العشر، الكلام يأتي، أيضًا، على المصابيح، وعلى الزّيت. لا يكفي، أبدًا، أن يكون عندنا مصباح. العفّة هي مصباح. لكنّ هذا المصباح، لكي يشتعل، يحتاج إلى زيت. والزّيت هو علامة الرّحمة. لذلك، علينا أن نُكثر من أعمال الرّحمة. القول الإلهيّ هو: “الإنسان الّذي لا يرحم، لا يرحمه الله“. لهذا السّبب، علينا أن نستزيد، دائمًا، من أعمال الرّحمة؛ حتّى نقتني، في أنفسنا، زيتًا كافيًا. حتّى لو اقتنينا زيتًا كثيرًا، فإنّ موقفنا ينبغي أن يكون كموقف العذارى الحكيمات، اللّواتي حسبن أنّ زيتهنّ أي أعمال الرّحمة الّتي فَعَلـْنَها قد لا يكون كافيًا. الإنسان الّذي يصنع الرّحمة بروح الله فإنّه، مهما صنع، يعتبر نفسه أنّه لم يصنع الرّحمة بالقدر الكافي! يعتبر نفسه، دائمًا، مقصِّرًا في عمل الرّحمة. لكن، لا يمكن إلاّ أن يتعاطى الإنسان أعمال الرّحمة، وأن يتعاطاها بصورة دائمة. العذارى الجاهلات كان عندهنّ زيت، أيضًا! لكنّ زيتهنّ لم يكن كافيًا. ماذا يعني ذلك؟! هذا، ربّما، يشير إلى أنّ الجاهلات كنّ يتعاطين الرّحمة، إنّما على نحوٍ مزاجيّ، من وقت إلى آخر. الإنسان، أحيانًا كثيرة، يعتبر أنّ عطاءه القليل، هنا أو هناك، يكون كافيًا. الحقيقة أنّنا، في وسط الظّلمة الرّوحيّة، الظّلمة الدّاخليّة الّتي تعيش فيها البشريّة، نحتاج إلى أكبر كمّيّة ممكنة من الزّيت؛ حتّى تستضيء سُبُلُنا، وحتّى نتمكّن من أن نعاين سبيلنا إلى الله. لهذا، إذا كان الإنسان يصنع إحسانًا، هنا أو هناك، ثمّ يعود إلى ظلمته، أي إلى خطاياه؛ فإنّ ما يكون قد حصّله من عمل الرّحمة يضيّعه بعمل الخطيئة. لذلك، نحتاج، دائمًا، إلى الحرص الكبير؛ كما نحتاج، دائمًا، إلى الرّحمة الكبرى. على كلّ واحد منّا أن يتعب، كلّ يوم، حتّى يصل إلى ما سبق للرّبّ يسوع أن حدّده له: “أَحِبَّ قريبَكَ كنفسك” (متّى22: 39). علينا أن نجتهد، حتّى نبلغ هذا الحدّ في عمل الرّحمة، هذا الحدّ في المحبّة، بحيث لا يبقى هناك من فاصل بيننا وبين النّاس، بيننا وبين الآخرين، بيننا وبين الضّعفاء، والفقراء، والمرضى، والمساكين الّذين يحتاجون إلى أن نهتمّ بهم.

إذًا، السّقف الّذي يحدّده لنا يسوع هو: “أَحِبَّ قريبكَ كنفسك“. لا يمكننا الاكتفاء بأن ندبّ على الأرض، بل علينا أن نصل إلى السّقف الّذي حدّده الرّبّ يسوع. وهذا لا يأتي، في الحقيقة، إلاّ إذا مارس الإنسان الرّحمة والإحسان، كلّ يوم، بصورة دائمة. إذا حمل الإنسان الرّحمة في قلبه كهَمٍّ، كهاجس؛ فإنّ الرّبّ الإله، إذ ذاك، يعطيه نعمة خاصّة من عنده، حتّى يتمكّن من أن يحقّق الوصيّة. نحن لا يمكننا أن نحقّق أيّة وصيّة من وصايا الله، ما لم يُعـِنّا هو على تحقيقها. إذًا، نحن بإمكاننا أن نصل إلى هذا السّقف، الّذي هو محبّة القريب كالنّفس، بنعمة الله. لكنّ نعمة الله ينبغي أن تقترن باجتهادنا الدّائم، بمثابرتنا على تعاطي عمل الرّحمة، كلّ يوم، ومن دون تحفّظ. في الحقيقة، كلّ واحد منّا عنده تحفّظات، في نفسه، من جهة عمل الرّحمة. كلّ واحد منّا يجعل حدودًا لنفسه، ويكتفي بالبقاء ضمن هذه الحدود. عند الرّبّ يسوع، كلّ هذه الحدود، الّتي يجعلها النّاس لأنفسهم في علاقتهم بالآخرين، ساقطة وغير مقبولة. هو الّذي يحدّد الحدود! هو الّذي يحدّد السّقف! وقد حدّده لنا. لذلك، نحن نسعى وِسْعَنا، بكلّ معنى الكلمة، بكلّ صدق، بكلّ أمانة، من كلّ القلب، بكلّ عزم؛ والرّبّ الإله يعطينا أن نصل إلى هذا السّموّ في العلاقة مع الآخرين، بنعمة من لدنه. إذ ذاك، في الحقيقة، يجد الإنسان زيتًا في مصباح قلبه. الرّبّ ينظر إلى القلب، الّذي ينبغي أن يستضيء بعمل الرّحمة، في كلّ حين. والّذي يحمل، في قلبه، نور الرّحمة يكون مستعدًّا لاستقبال الرّبّ يسوع، في كلّ حين. يأتي اليوم، يأتي غدًا، يأتي الأسبوع المقبل، يأتي بعد شهر، يأتي بعد عشر سنوات…. هذا شأنه وليس شأننا. نحن علينا، بإزاء هذه الوصيّة، بإزاء هذه الدّعوة إلى انتظار الرّبّ يسوع، أن نسلك في العفّة، وأن ننقّي قلوبنا، وأن نتعاطى الرّحمة، في كلّ وقت. وكلّما سقطنا، نعود ونتوب من جديد، ونبدأ من جديد، وبسرعة، ولا نترك أنفسنا تتمرّغ في خطاياها.

مَن جعل هذا هدفًا له، في الحياة؛ ومَن جعل هذه المسيرة مسيرته، في هذه الحياة؛ يكون هو الإنسان الحكيم، وهو الّذي يُحصى في عداد العذارى الحكيمات. أمّا الّذي يتغافل عن نقاوة نفسه، عن عفّة قلبه، عن عمل الرّحمة، في كلّ حين؛ فهذا يُحصى في عداد الجاهلات. والجاهلات، في نهاية المطاف، أُلقين خارجًا، في الظّلمة البرّانيّة، كما تقول أناجيلنا الكريمة. الرّبّ يسوع يعطينا الفرصة أن نفتدي الوقت. فإذا عرفنا أن نفتدي الوقت، فإنّنا ننفع ذواتنا؛ وإذا لم نفتدِ الوقت كما يجب، فإنّ ساعةً تأتي سوف يكون فيها ربّنا صارمًا في تعامله معنا، وسوف يلقينا خارجًا. وكما بكى آدم، لمّا أُخرج من الفردوس؛ هكذا، سيُمضي الجهلةُ أيّامهم في البكاء، الّذي لا يُجدي نفعًا. المهمّ أن نتوب، اليوم؛ وأن نتوب، غدًا؛ وأن نتوب، في كلّ يوم من أيّام حياتنا؛ وأن نصنع، في كلّ يوم، الرّحمة؛ وأن نحفظ أنفسنا في النّقاوة، في كلّ حين. بعد ذلك، يحدث ما يحدث! تقوم أمم على أمم، هذا كلّه يدبّره الله! تثور عناصر الطّبيعة، هذا ربّنا يدبّره! نحن لسنا في حاجة، أبدًا، إلى أن ننهمّ لكلّ ما يمكن أن يأتي على البشريّة. علينا أن نركّز همّنا في أمر واحد، فقط، وهو أن نكون مستعدّين، بالرّوح والحقّ، لأن نستقبل الرّبّ يسوع، متى جاء. فليكن اسم الرّبّ مباركًا. آمين.

* عظة حول متّى25: 1- 13، السّبت 26 تشرين الثّاني 2011