توبوا فقد اقترب ملكوت السموات

توبوا فقد اقترب ملكوت السموات

اﻷب أنطوان ملكي

أول عظة قالها السيد للشعب، من بعد معموديته، كانت “توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السموات” (متى 17:4)، فهو يدعوهم لأن التوبة أمر أساسي في حياتنا. يقول إشعياء النبي “الشعب السالك في الظلمة قد أبصر نوراً عظيماً”، فهل من ارتباط بين التوبة والنور؟ طبعاً، ﻷن النور الحقيقي هو الذي يأتي من المسيح الذي لا نعرفه من دون توبة.

فالتوبة كما يعرّفها الآباء القديسون هي “تغيير الذهن أو العقل”. التوبة ليست الندامة وحسب بل هي تغيير الذهن وطريقة التفكير، التوقّف عن التفكير بالخطيئة والبدء بالتفكير بالأمور الصالحة، فهكذا يكون تغيير الذهن عن التفكير بالشر للتفكير بالأعمال الصالحة، هذا هو الشكل الحقيقي للتوبة. إذاً التوبة ليست حالة نفسية أو عصبية، ليست أن يتوتّر اﻹنسان ويصرخ قد تبت، قد تبت، بل هي بناء الذات، أي أن يعود لذاته ويبنيها بناءً صالحاً، لا أن يبكي ويعول أو أن يعاتب نفسه. هي تغيير الذهنك لإصلاح الحياة، لإصلاح الذات والتحول إلى إنسان جديد.

التائب هو الذي لا ينظر إلى الوراء بل إلى فوق إلى الله المحب البشر. التوبة هي عودة إلى النور، هي عبور من الظلمة إلى النور. إذا كان اﻹنسان غارقاً في الظلمة سيحتاج إلى نور كي يفضح نفسه ويكشفها فيراها على حقيقتها، يرى أهواءها، ويرى خطاياها. لكن عن أي نور نتكلم؟ عن نور المسيح، الذي أخذه الجميع يوم المعمودية، لكن أما يزال مشتعلاً فينا؟ أما زال ينير الظلمة التي دخلنا فيها بسبب خطايانا؟ كل إنسان معمّد لديه نور المسيح وخصوصاً مَن يشترك بجسد المسيح ودمه، أما الذي لا يشترك بهما فلا يغذي هذا النور بل يدعه ينطفئ. الإنسان التائب هو الذي يهيئ نفسه لاتقاد النور في داخله.

أن يتوب اﻹنسان مغيّراً ذهنه عن الخطيئة، مصلحاً ذاته، موجهاً عقله نحو السماء، نحو الله، هو هدف التوبة، عندها يكتشف أنه ابن لله، ابن للنور، والمسيح يدعوه ليكون ابناً للنور. لن يشتعل النور الحقيقي، الذي بداخله من يوم المعمودية، بدون التوبة، فيمكن أن يكون هذا النور عند أي مسيحي خامد ولكنه سيكون متقداً عند التائب فيقدسه. نور الرب هو الذي يطهر.

ما علاقة النور بالتوبة؟ كي نتوب يجب أن يدخل فينا النور، وما دمنا معتمدين فنحن نملك هذا النور. لكن ما نتائج التوبة؟ من نتائج التوبة أن يسكن فينا نور المسيح، وينضح منّا هذا النور. هذه هي علاقة النور بالتوبة، علاقة متبادلة، أي إن تاب اﻹنسان سيحصل على النور الحقيقي، ومن جهة أخرى بدون النور لن تُكشف خطاياه ولن يستطيع أن يتوب توبة حقيقية مغيّراً ذهنه ومصلحاً ذاته مطهّراً إياها ناظراً لفوق إلى العلى إلى الملكوت السماوي.

الإنسان التائب هو الإنسان الذي يمتلك حياة جديدة ملؤها السلام والمحبة والتواضع، وبالنهاية يكون الملء من روح الله، هذا هو هدف الإنسان المسيحي الحقيقي الذي يسعى لملكوت السموات. التوبة ليست عملاً مؤقتاً بل هي عمل مستمر حتى نهاية العمر، أي لا يمكننا القول أننا تبنا اليوم فقد خلصنا، طبعاً لا، ومن ناحية أخرى إن لم نكن تائبين العمر كله فلن نخلص، ولن نحصل على النور الحقيقي ولا على ملكوت السموات. يدعونا المسيح أن نكون من أهل التوبة لأننا سنخلص بها “توبوا فقد اقترب ملكوت السموات” أي لا تنوحوا، لا تبكوا، بل غيّروا أنفسكم وطريقة تفكيركم وحياتكم، فالمعتاد على عدم الصوم فليصُم، إن والمعتاد على الكفر فليكفّ عنه، والمعتاد على الكذب فليتمسّك بالصدق، عندها تكون التوبة قد بدأت والقلب يتّسع لسكنى المسيح ويصير مفيضاً للنور فيتمّ الخلاص.