الرّاعي الصّالح باب الحظيرة!

الرّاعي الصّالح باب الحظيرة!

اﻷرشمندريت توما بيطار

قال الرّبّ للّذين أتوا إليه من اليهود…”. الرّبّ يسوع لا يكلّم الّذين لا يأتون إليه. على الإنسان أن يبادر إلى المجيء إلى يسوع. الكلمة أساسها حرّيّة الإنسان، إذا ما كُرز بها. الرّبّ الإله يوقّر حرّيّة النّاس. لكنّ الّذين يأتون إليه يعطيهم كلمة الحياة. “الحقّ الحقّ أقول لكم…”. هذا التّأكيد للحقّ يأتي من الدّاخل. الرّبّ الإله، حين يعطي النّاس كلمة الحقّ، يعطيهم الفرصة أن يسمعوا، إن أرادوا؛ ويعطيهم نعمة خاصّة حتّى يقتبلوها. لكن، عليهم، أوّلاً وأخيرًا، أن يفتحوا قلوبهم؛ لأنّ كلمة الحقّ تلتمس قلوب النّاس، ولا تلتمس خداعهم، أو إقناعهم. الرّبّ يسوع لا يخدع أحدًا، ولا يفرض نفسه على أحد، ولا حتّى يشاء أن يقنع أحدًا من النّاس. الإقناع موجَّه إلى العقل، والرّبّ يسوع يخاطب القلب. لذلك، إن كان الإنسان محِبًّا للحقّ؛ إن كان الإنسان، في قرارة نفسه، ملتمِسًا للحقّ؛ فإنّ الرّبّ الإله يعطيه نعمة في القلب، لكي يقتبل، ولكي يقتنع؛ إنّما في مستوى القلب، لا في مستوى العقل.

الحقّ الحقّ أقول لكم إنّ مَن لا يدخل من الباب إلى حظيرة الخراف، بل يتسوَّر من موضع آخر؛ فهو سارق ولصّ“. طبعًا، اللّغة، هنا، لغة رمزيّة؛ لذا، علينا أن نوضـِح المعاني، الّتي يشاء الرّبّ الإله أن يمرّرها لنا.

أوّلاً، الرّبّ يقول: “مَن لا يدخل إلى حظيرة الخراف“. الحظيرة هي كنيسة المسيح. وهذه الحظيرة ليس فيها ماعز، ولا ذئاب، بل فيها خراف. إذًا، قطيع الرّبّ يسوع هو قطيع خراف. طبعًا، الإنسان يصير خروفًا، ولا يولَد خروفًا. الكلام، هنا، هو على الخراف العقليّة. الإنسان بإمكانه أن يصير ذئبًا؛ وبإمكانه، أيضًا، أن يصير خروفًا. لماذا حظيرة الرّبّ يسوع فيها خراف، وليس فيها نوع آخر من الحيوانات؟! أوّلاً، لأنّ يسوع نفسه خروف، هو حمل الله. إذًا، الرّبّ يسوع الحمل يرعى الحملان. هو لا يرعى الحملان ليذبحها، بل لأنّ كنيسة المسيح ليس فيها سوى خرفان. والرّبّ يسوع الحمل يبذل نفسه عن الخراف. هو الرّاعي وهو الحمل، في آن معًا . وهذا الّذي دخل، بدم نفسه، مرّةً، إلى قدس الأقداس، فوجد فداءً أبديًّا لكلّ البشريّة، هذا هو الرّاعي الصّالح. الرّاعي الصّالح هو مَن يبذل نفسه عن الخراف. وطبعًا، الرّبّ يسوع يرعى خرافه بمعنى أنّه يدرّبها على أن تدخل إلى قدس الأقداس، إلى الآب السّماويّ، إلى قلب الله بدم نفسها. خراف المسيح تتمسّك بكونها خرافًا، ولا يفرض أحد عليها أن تكون كذلك. لذا، لا يأخذ أحد خراف المسيح عنوةً. هي تقدّم نفسها. ولو لم تشأ أن تقدّم نفسها، لَكان بإمكانها أن تكون ذئابًا! لَكان بإمكانها أن تحفظ نفسها، في هذا العالم؛ لأنّ العالم يحبّ خاصّته! لكن، بالضّبط، لأنّها خراف المسيح، ولأنّها تتمسّك بكونها خرافًا للمسيح إلى المنتهى؛ فلا يمكن إلاّ أن تكون معرَّضَةً للذّبح، نظير راعيها، نظير معلّمها، نظير مثالها! “إن كانوا قد اضطهدوني، فسيضطهدونكم أنتم أيضًا” (يو15: 20). لكن، على الخراف أن تحافظ على الأمانة، أن تبقى خرافًا إلى المنتهى. وهذا، طبعًا، ليس بالأمر السّهل، لأنّ عالمنا عالم ذئاب بامتياز؛ وأيسر على الإنسان، بشريًّا، أن يكون ذئبًا من أن يكون خروفًا. لهذا، الشـّهادة لله، الشـّهادة لراعي الخراف، الشـّهادة للحظيرة، الشـّهادة للآب السّماويّ، هي أن يتمسّك الخراف بسيرة الخراف إلى المنتهى. هذه هي الشـّهادة المطلوبة من كلّ واحد منّا. وكما قلت، حظيرة المسيح فيها خرفان؛ فساعة يتحوّل الإنسان إلى غير الخروف؛ فإنّه، بصورة تلقائيّة، يجعل نفسه خارجًا! فلا يكون انتماؤه، بعدُ، إلى الحظيرة، ولا إلى كنيسة المسيح!

ثانيًا، يتكلّم الرّبّ يسوع على الباب: “مَن لا يدخل من الباب“. أوّلاً، موضوع الدّخول معناه أنّ الإنسان هو في الخارج. خارج ماذا؟! الإنسان هو خارج الكنيسة، خارج النّعمة الإلهيّة، خارج الرّضى الإلهيّ، خارج العشرة الإلهيّة. هو في الخارج! هو في الظّلمة! إذا كان يريد أن يدخل في النّور، فعليه أن يدخل من الباب. والرّبّ يسوع يتحدّث عن باب واحد، ولا يتحدّث عن أبواب، بل عن بابمع ألالتّعريف! للحظيرة باب واحد! مَن هو هذا الباب؟! أو ما هو هذا الباب؟! النّصّ نفسه، بعد قليل، يقول، حين كشف الرّبّ يسوع عن معنى ما كان يقوله لتلاميذه: “أنا هو باب الخراف“! إذًا، هو راعي الخراف، وهو باب الخراف! وهو، أيضًا، كما قلنا، الخروف بامتياز! وكلّ الخراف الأخرى تتبعه، أي تكون على مثاله بالإيمان به، وبقوّة روح الرّبّ القدّوس الّّذي يقيم فيها؛ فيجعلها واحدًا فيما بينها؛ ويجعلها، أيضًا، واحدًا مع حمل الله. إذًا، هذا هو الباب. مَن أراد أن يدخل إلى الحقّ، فعليه أن يدخل من هذا الباب؛ مَن أراد أن يدخل في النّور، فعليه أن يدخل من هذا الباب. خارج هذا الباب، لا يمكن الإنسان، مهما فعل، أن يدخل إلى حضرة الله.

مَن لا يدخل من الباببل يتسوّر من موضع آخر، فهو سارق ولصّ“. قد يبدو لنا، لأوّل وهلة، أنّ الرّبّ يسوع، إذ يتحدّث عن الّذين يتسوّرون من موضع آخر، إنّما يتحدّث عمّن يريدون أن يدخلوا إلى الحظيرة. لكن، أيضًا، بعد قليل، إذ يقول الرّبّ يسوع إنّ جميع الّذين أتوا قبله هم سرّاق ولصوص، نفهم أنّ الّذين يتسوّرون من موضع آخر ليدخلوا إلى الحظيرة هم مسحاء كذبة، هم رعاة غير صالحين؛ وهم إنّما يريدون أن يتسوّروا من موضع آخر ليدخلوا إلى حظيرة الخراف بقصد الفتك بكنيسة المسيح، بقصد الفتك بالحظيرة، بقصد الفتك بخراف الحظيرة. يريدون أن يدخلوا ليأكلوا لحم الخراف، ليذبحوها، ليُهلكوها! السّرّاق واللّصوص، إذًا، هم الأبالسة وعملاؤهم، أو أبناؤهم. وبما أنّهم يدّعون أنّهم مسحاء، فهذا معناه أنّهم يتظاهرون بأنّهم مسحاء. في الظّاهر، يتلبّسون بلباس الحملان؛ لكنّهم ذئاب خاطفة. هؤلاء لا يُعرَفون بحسب الظّاهر. بحسب الظّاهر، نرى أمامنا حملانًا، خرافًا. إبليس، بعدما سقط، تحوّل إلى كائن ممثِّل. همّه الأساسيّ أن يتظاهر بأنّه ملاك من نور. لهذا السّبب، قيل عنه إنّه الكذّاب وأبو الكذّاب. هو الخدّاع، هو المرائي الأوّل. ونحن، هنا، قرأنا هذا المقطع من إنجيل يوحنّا، الّذي، في رسالته الأولى، يتكلّم على أضداد المسيح. إذًا، هؤلاء هم أضداد المسيح، الّذين يدّعون أنّهم المسيح، وأنّهم يقولون الحقّ، وأنّهم نور من عند الله، وأنّهم يريدون الخلاص للبشريّة. هؤلاء هم سرّاق ولصوص. هنا، علينا أن ندرك أنّ كلّ ما يُقال عن أنّ هناك ديانات في العالم، وأنّ كلّ هذه الدّيانات تُفضي إلى مخرج واحد، وإلى نتيجة واحدة، وهي تقول الشـّيء نفسه إنّما بلغات مختلفة، وبطرق مختلفة، وبمفاهيم مختلفةكلّ هذا القول هو بدعة من الشـّيطان؛ والقصد منه أن نسمح للسّرّاق واللّصوص، الّذين يحملون مثل هذه الأفكار وهذه الاتّجاهات وينشرونها، بالدّخول إلى كنيسة المسيح، إلى الحظيرة. لكن، متى سمحنا لهم بالدّخول إلى الحظيرة، فماذا سيحدث؟! سيفتكون بخراف المسيح! لهذا السّبب، الرّبّ يسوع ينبّه. نحن لا يمكننا أن نتحدّث عن ديانات، في هذا العالم. بالنّسبة إلينا، هناك باب واحد، وهناك راعٍ واحد، وليس أحد يأتي إلى الآب إلاّ بهذا الحمل، بهذا الرّاعي، من خلال هذا الباب! لذلك، لا علاقة لنا بما يُسمّى الدّيانات الأخرى؛ ولا يهمّنا أن ندخل في حوارات مع دعاتها؛ لأنّ الحوار لا يمكن، إذا دفعناه إلى غايته القصوى، إلاّ أن يؤدّي إلى مساومة؛ والمساومة معناها أن نعترف، بشكل من الأشكال، بالدّيانات الأخرى؛ ومن ثمّ، أن نعترف بأضداد المسيح أنّهم مسحاء أيضًا، وهم أضداد المسيح! في نهاية المطاف، كلّ مَن يدّعي أنّه من الله، أي من روح الله، لا يمكن إلاّ أن يأتي، إذا كان صادقًا، إلى الاعتراف بالرّبّ يسوع المسيح أنّه هو الباب الأوحد إلى الآب السّماويّ. وإذا لم يعترف بأنّ هذا هو ابن الله، هذا هو المخلّص، هذا هو الباب؛ فإنّه يكون كاذبًا! إذًا، إذا افترضنا أنّ هذه الدّيانات هي من الله؛ فلا يمكنها إلاّ أن تصبّ في مصبّ حظيرة الخراف؛ فإذا لم تصبّ في حظيرة الخراف، بل ناهضت هذه الحظيرة، وعملت على إتلافها، وتمييعها، وعلى الفتك بخراف مسيح الرّبّ؛ فإنّها لا تكون من الله، بل تكون من عدوّ الله. هؤلاء هم السّرّاق واللّصوص، الّذين يدّعون الحقّ وهم في الباطل؛ الّذين يدّعون أنّهم في النّور وهم في الظّلمة.

وأمّا الّذي يدخل من الباب، فهو راعي الخراف“. الرّبّ يسوع هو الباب، وهو راعي الخراف، في آنٍ معًا، كما قلت. إذًا، هو الّذي أُعطي، من فوق، أن يكون المخلِّص الأوحد للبشريّة. والإثبات الّذي يقدّمه على أنّه هو الرّاعي الصّالح أنّه يبذل نفسه عن الخراف. “له يفتح البوّاب، والخراف تسمع صوته“. لراعي الخراف يفتح البوّاب. البوّاب هو، عمليًّا، الآب السّماويّ. والخراف تسمع صوته، لأنّها تعرفه. والحديث، طبعًا، ليس عن الصّوت الخارجيّ، الظّاهريّ، بل عن الصّوت الدّاخليّ. وفي الأساس، الخراف لا تصير خرافًا؛ أو، بالأحرى، البشر لا يصيرون خرافًا، إلاّ إذا سمعوا كلمة راعي الخراف في قلوبهم ونفوسهم، واقتبلوها. لهذا السّبب، الخراف، بالصّوت الدّاخلي، يعرفون أن يميّزوا بين ما هو لراعي الخراف وما ليس لراعي الخراف.

فيدعو [راعي الخراف] خرافه بأسمائها، ويخرجها“. للخراف أسماء! هو يعرف اسم كلّ خروف من خرافه. وأسماء الخرفان مدوّنة في قلبه، في كتاب الحياة. لكن، إلى أين يخرجها؟! يخرجها إلى عند الآب السّماويّ، إلى الملكوت، إلى الحياة الأبديّة. “ومتى أخرج خرافه، يمضي أمامها، والخراف تتبعه، لأنّها تعرف صوته“. الرّبّ يسوع يمضي أمامها. هو الّذي دخل إلى قدس الأقداس بدم نفسه. نحن كلّنا لنا دخول إلى ملكوت السّموات براعي الخراف. من دونه لا إمكانيّة لدخول أحد إلى الملكوت. “يمضي أمامها، والخراف تتبعه“! تفعل ما يفعله! تتحرّك في الاتّجاه الّذي يتحرّك هو فيه! يصعد الجبال، فتصعد هي وراءه! ينزل الوديان، فتنزل هي وراءه! وهو، في كلّ ذلك، يعطيها أن تعرف صوته. تتبعه لأنّه يكلّمها. لا يتركها، أبدًا. هو يسير أمامها، ويكلّمها، ويتطلّع إليها، ينظر إلى حيث هي، بوعي كامل.

وأمّا الغريب…”: الغريب هو السّارق واللّصّ؛ الغريب هو ضدّ المسيح؛ الغريب هو الشـّيطان. “أمّا الغريب، فلا تتبعه؛ لكنّها تهرب منه؛ لأنّ الصّوت الدّاخليّ، الّذي زُرع في الخراف بكلمة الله، يعطيها أن تميّز المسيح من ضدّ المسيح، والحقّ من الباطل، والنّور من الظّلمة. لهذا السّبب، الخراف لا تتبع الغريب، لكنّها تهرب منه. هذه هي الخراف الأصيلة. الخراف الأصيلة ليست تلك الّتي تظهر كخراف؛ بل الّتي هي، بالفعل، خراف؛ لأنّ الخراف لا تعرف صوت الغرباء، بمعنى أنّها لا تقبل كلمةً غير كلمة الرّاعي. هي لا تعرف صوت الغرباء، لا تتبنّاه، لا تقبله، لا تُدير أذنها الدّاخليّة إليه. لذلك، تعرف أن تميّز بسهولة، وبسرعة. الإنسان الّذي تختلط الأمور في قلبه؛ الّذي يقبل الله ويقبل الشـّيطان، في آن معًا؛ يقبل كلام الله ويقبل كلام الشـّيطان، في آن معًا؛ هذا لا يمكنه، أبدًا، أن يهرب من الشـّيطان؛ لا بل يقع فريسة له، في وقت من الأوقات. طبعًا، هذا الأمر مدعاة إلى الجهد الدّؤوب الّذي على الخروف، على الحمل، على كلّ واحد منّا أن يبذله، حتّى ينقّي نفسه من كلّ فكر غريب، من كلّ قول غريب، من كلّ ما هو للغريب، أي للشـّيطان.

هذا المثل قاله لهم يسوع. وأمّا هم، فلم يفهموا ما الّذي كان يكلّمهم به“. يستحيل على الإنسان أن يفهم لغة الله، ما لم يعطه الرّبّ الإله فهمًا! والرّبّ الإله لا يعطي فهمًا، إلاّ للّذين يريدون أن يفهموا، يطلبون أن يفهموا، يجاهدون لأن يفهموا! لا يكفي أن نعبّر عن رغبة في المعرفة؛ ثمّ ننسى، بعد ذلك، ما عبّرنا عنه. علينا أن نسلك في ما نرغب فيه من جهة الله، في كلّ حين، بأمانة كاملة! “فقال لهم يسوع، أيضًا: الحقّ الحقّ أقول لكم إنّي أنا هو باب الخراف، وجميع الّذين أتوا قبلي هم سرّاق ولصوص. ولكنّ الخراف لم تسمع لهم. أنا الباب. إن دخل بي أحد، يخلص، ويدخل ويخرج، ويجد مرعًى“. وبالإمكان القول، أيضًا: “مَن لا يدخل بي، لا يخلص؛ ومن ثمّ، لا يمكنه أن يدخل، ولا أن يخرج، ولا أن يجد مرعًى“. هذا يأكل هباءً؛ وإذا ما دخل وخرج؛ فإنّه يدخل في العتمة، ويخرج في العتمة، ولا يعرف أين يقع. وفي نهاية المطاف، مَن لا يدخل من باب يسوع، فلا بدّ له من أن يقع فريسة الذّئب العقليّ.

فمَن له أذنان للسّمع، فليسمع.

* عظة حول يو10: 1- 9 في السّبت 21 أيّار 2011