أن نشهد للحقّ

أن نشهد للحقّ

فؤاد مالك

رسالة شباب، رسالة رجال هذا الجيل، رسالة كلّ فئة واعية صادقة تجاه نفسها، أن تشهد اليوم وكلّ يوم للحقيقة، للحقيقة كما تثبت لها بنتيجة بحث أو بنتيجة اختبار أو بنتيجة قناعة عاطفيّة. وليس من الرّجولة بشيء بقاء المرء على الحياد في قضايا لها مساس بحياته، فعليه أن يكوّن لنفسه رأياً في المشاكل التي تحيط به وعليه أن يعبّر عن رأيه أمام الملأ بكلّ حريّة وصراحة، عليه أن يشهد للحقّ كما يتراءى له.
قد يكون ما نشهد به حقّاً مطلَقاً وقد لا يكون، ولكنّ المهمّ أوّلاً أن نتعلّم كيف نفكّر بحريّة وكيف نوجّه حياتنا بحريّة أيضاً، معرضين عن المفاهيم والمصطلحات الاجتماعيّة المعهودة المكتسَبة باطلاً.
بالنّسبة للرّجل المسيحي، الشّهادة للحقّ قبل كلّ شيء شهادة للذي قال أنا هو الحقّ، شهادة مباشرة يؤدّيها أمام الجميع أنّه عرف المسيح وتبع المسيح. وإنّه لمن الضّعف أن يمتنع كثيرون من المسمّين مسيحيّين عن التّصريح بعدم مسيحيّتهم. عرفت بعضاً منهم لا يفعلون ذلك لأنّ المجتمع يعيب عليهم ذلك، وهم مقتنعون تمام الاقتناع أنّ ليس للمسيحيّة كما يتصوّرونها أيّ جزء من قلبهم ومن فكرهم ومن حياتهم.
ولكنّي أقول بصراحة إنّ ذنبهم لا يفوق ذنب أولئك الذين لديهم تمام القناعة بمسيحيّتهم ولا يجرأون على التّصريح بها بحريّة لأنّ المجتمع سينظر إليهم إذ ذاك نظرة سخريّة.
إن كان المجتمع لا يقبل بهذه المبادئ ولا بتلك، إن كان المجتمع قد تحجّر حسب وضع ثابت شاذّ، فليس معنى ذلك أنّه أضحى على رجال هذا المجتمع أن يبقوا بأسرهم على هذا الوضع. يجب أن نعلم كيف نتحرّر ونعلن عن رأينا بصراحة. إن كنت أنا مسيحي فعليّ أن أقول بصراحة أنّي كذلك أمام الجميع وفي كلّ مجتمع تدعو المناسبة فيه لهذا البحث. ما من خجل في ذلك، إنّي أعتقد ويجب أن أحيا عقيدتي.
خطأ ما أفدحه من خطأ اعتقاد شبابنا أنّ لهم من حياتهم الخاصّة ما لا يتناسب وأتباع المسيح. ماذا في حياتهم الخاصّة؟ هل من شيء أكثر من الخطيئة؟.. متى كانت الخطيئة تبعد عن المسيحيّة؟!.. إنّ المسيحيّة خير ملجأ للخطأة وقد جعلت منهم مراراً قدّيسين يشاركون الآن الملائكة في تمجيد الرّبّ.
ليس من عذر لمن لا يشهدون للمسيح سوى عدم قناعتهم بالمسيحيّة. وعند ذلك لا يكون لهم أيّ عذر لعدم شهادتهم “للحقّ” كما يرونه وإن كان هذا الحقّ في رأي الآخرين وفي رأيي ليس بحقّ مطلقاً.
إنّي أقدّر الملحد الصّريح الحرّ برأيه أكثر من المسيحي المتردّد المستحي بالله أمام النّاس. إذ إنّ الأوّل رأى “الحقّ” على طريقته الخاصّة فشهد لهذا الحقّ وصرّح بإلحاده، أمّا الثّاني فعرف الحقّ ولكنّه ما شهد له وما تجرّأ على التّصريح به خشية آراء النّقدة من أبناء مجتمعه، وبين هؤلاء النّقدة كثيرون من أولئك المسيحيّين المتخفّين الذين نتحدّث عنهم.
بالنّسبة للرّجل المسيحي، الشّهادة للحقّ شهادة غير مباشرة لكنيسة الذي قال أنا هو الحقّ. أعني بالشّهادة غير المباشرة الوعي التّام لمفهوم الكنيسة والتماس هذا في الواقع الكنسي وإبداء الرأي في ذلك.
على ضوء ما يفهمه المسيحي الحقيقي عن كنه الكنيسة، يستطيع أن يكوّن لنفسه رأياً عن كيفيّة إدارة شؤون الكنيسة. ومن واجبه إذ ذاك أن يفصح عن شعوره تجاه الواقع الكنسي الذي يحيا في ظلّه، وأن يرى بعين التّجرّد فيما إذا كان هذا الواقع مطابقاً لما كان ينبغي أن يكون عليه وفقاً لروح الكنيسة. وليس ما أذكره الآن مجرّد عمل اختياري يستطيع المسيحي أن يؤدّيه، بل هو واجب مرتَّب عليه بنتيجة كونه مسيحيّاً يجب أن يحافظ على سائر العناصر المقدَّمة لمسيحيّته وأهمها قضيّة حياته الكنسيّة.
بالنّسبة للأرثوذكسيّين في الكرسي الإنطاكي المقدّس، هنالك مجالات واسعة النّطاق بعيدة المدى تستحقّ أن نشهد لها شهادة حقّ. شهادة نؤدّيها عن سائر أوضاع الكنيسة من أديرة وكنائس ومحاكم روحيّة ومدارس، من رهبنات ومدارس أكليريكيّة وإدارة الأوقاف إلى غير ذلك ممّا له علاقة وثيقة بحياتنا. على كلّ فرد منّا أن ينظر نظرة مجرّدة إلى هذه العناصر المتعلّقة بحياتنا اليوميّة وبمشاكلنا العائليّة والفرديّة، وأن يستخلص منها رأياً له فيها بعد مقارنتها بما كان ينبغي ويمكن أن يكون، وعليه عندئذ أن يفحص عن رأيه وأن يعبّر عنه وفقاً لوجدانه. فمن وجد الحالة خيراً شكر الرّبّ، ومن وجد في الحالة سوءاً تكلّم بالحقّ كما يوحي له وجدانه، وشكر الرّبّ على كلّ حال لأنّه أتاح له أن يرى بوضوح مواطن العيب والضّعف.
إنّ الرّبّ ينير أحياناً بصيرة الكثيرين في سبيل تقويم مجتمع وإنهاضه من شرور ارتكبها باطلاً باسم الرّبّ. رليس المقصود من هذه الشّهادة الأخيرة هدم وضع بالٍ، بل المقصود إنّما هو العمل على استبدال وضع بوضع آخر أكثر مطابقة لروح الكنيسة. ماذا أقول؟ “أكثر” مطابقة؟… ليس في بعض الشّؤون المدعاة كنسيّة أيّة مطابقة لمفهوم الكنيسة كما شاء المسيح.
إنّنا نرى في الأوضاع الحاليّة أوضاعاً شاذّة. وإنّنا من الذين يحبّون أن يشهدوا بذلك ولكن شهادة كاملة، بمعنى أنّنا نودّ حين ننتقد وضعاً نراه غير مناسب أن نقيم مكانه ما يبنى به صرحاً مناسباً. ولئن كان ليس باستطاعتنا الآن العمل على إقامة البناء الجديد دفعة واحدة، فليس معنى ذلك أنّنا سنقلع عن الشّهادة للحقيقة. سنشهد لها أمام الملأ في سبيل توجيه المخلصين نحو ما يوحي لنا وجداننا عن الأوضاع الحاليّة.
ليس باستطاعتنا أن نصمت عن حقيقة تحزّ في نفوسنا وفي نفوس كثيرين كلّ يوم. نسعى لتجاهلها أحياناً لنطوف في أحلام ذهبيّة، فنلقى الرّاحة الدّاخليّة برهة من الزّمن لا يلبث بعدها أن يحرّك وجداننا حادث أو فكرة فنعود إلى أداء شهادتنا بشكل أقوى وقد أرغمتنا على ذلك أرواحنا المتألّمة من مبالغة أهل الباطل في بطلهم.
لا تقوى الضّمائر البشريّة على القبول إلى الأبد بقوى الشّرّ مسيطرة إلى الأبد. تأتي ساعة تبعث الحياة في البشر، حياة الضّمائر الثّائرة التي خنقت صوتها زمناً طويلاً سكوتاً عن حالات سيّئة، ثم ما لبثت أن صاحت بالحقّ تبتغي الحقّ لأنّها لم تستطع أن تنسى حتى النّهاية ما كان والذي ما زال يحزّ كلّ يوم في نفوسها، صوت الحقّ الدّاعي إلى الكمال كما الآب السّماوي كامل.

عن مجلة النّور، 1950، أعدّتها راهبات دير القديس يعقوب الفارسي المقطّع، دده-الكورة

Leave a comment