عطيّة حياة

عطيّة حياة

“أمّا أنت فقد أبقيت الخمر الجيدة إلى الآن”

ستافروس فوتيوس

ترجمة رامي ابراهيم شربك

 

تُلخِّص أعجوبة يسوع الأولى في عرس قانا الجليل (يو 2: 1-11) مسيرة العلاقات بين الرجل والمرأة حتى ذلك الوقت. إنّ كلَّ رجل وامرأة ينطلقان في الحياة واضعين أمامهما تحقيق السعادة الأبدية ومتطلعين إلى العيش باتفاق وانسجام. إلا أن الأنانية المتربّصة وضعف القدرة على قبول الآخر يؤديان إلى اختزال الحب وكسر وحدة الرجل والمرأة. الأمر الذي يؤدي بدوره إلى تغييب كل أسباب الفرح والبهجة في الحياة، لتكون النتيجة المحزنة التي تختصرها العبارة: “ليس لهم خمر” (يو 2: 3).
يعتقد البشر أنهم قادرون على تعويض الحب باللجوء إلى الناموس، ورمز الناموس في اليهودية هو الماء الذي كان يملأ الأجران الستة. بالتأكيد، لم يكن العدد “ستة” مصادفة، فهو يسبق العدد “سبعة” رمز الكمال. هكذا كان الناموس آنذاك خطوة إيجابية، لكنه لم يصل بعد إلى الكمال. إن أقصى ما يمكن للناموس أن يُقدّمه هو التوازن بين الحقوق والواجبات. حيث كان الزواج مثلاً، في أحسن الأحوال، شركة مصالح متبادلة، وفي أسوئها، زنى شرعياً دائماً.
لم يأتِ المسيح بناموس آخر وإنما بالنعمة، أي بمحبة الله المعطاة باستمرار. هذه المحبة هي عطية من الله تُقدَّم لجميع طالبيها، وبموجبها لا تقوم علاقة الرجل والمرأة على ترتيب قانوني للواجبات والحقوق، وإنما على بذل الذات لأجل الآخر المحبوب. يدرك الزوجان أنه “بقدر ما يعطي الواحد نفسه للآخر، بقدر ما ينال عطايا أكثر ويجد نفسه حقيقةً” . هكذا يصير الزوجان روحين في جسد واحد وجسدين في روح واحدة. لكنَّ “حوار الحب الحقيقي هذا ليس بالأمر السهل، فهو يحتاج إلى حياة أمانة كاملة كي يكتمل ويتعمّق. في هذا الحوار – الذي تقوم فيه النفس باحتضان الجسد – يصل شخصان بالتدريج إلى معرفة أحدهما الآخر. ينتفي التسلّط وازدراء الآخر من كيانهما ليصير شركة احترام وحب وحنان متبادل بين اثنين هما في نفس الوقت واحد” .
داخل الكنيسة وبواسطتها يتعلّم الزوجان كيفية إنقاص “الأنا” كي تزداد ال “نحن”. يتدربان أيضاً على تفهّم الآخر وقبوله في كافة الظروف والأحوال. “يُصلَب” العشق كي “يقوم” حُبّاً، وذلك لأنَّ “الحبّ وحده يحفظ جمال العشق، ويقوده إلى الملكوت الإلهي. الحبّ فردوس. الحب تضحية. الحبّ اتحاد يهبه الله” . وكما تحوّل الماء إلى خمر بنعمة الله وإرادة الإنسان، هكذا يتحوّل هوى الأنانية إلى المحبة المسيحية، وعوز الفرد إلى كمال الشخص. إنَّ الحبَّ، كالخمر العتيقة، يطيب ويدوم مع مرور الزمن، يصير غير مشروطٍ ويعبّر عن نفسه بدون أية حواجز أو حدود. هنا بالذات “تصبح الأمانة الزوجية أقوى، لأنّ سرَّ الدخول في نور المسيح يساعدني على اكتشاف الآخر كأيقونة الله. تتعمّق فيّ وتتوطّد النعمة الفريدة التي تجعلني أدرك الآخر وأدخل في أعماقه. وحتى لو جاء وقت وتغيّر فيه الشريك، أحاول عندها أن أميّز في داخله تلك الجمالات التي لا تتغير. يصير الواحد معطىً للآخر ليس فقط في زمن الموت هذا، وإنما في زمن القيامة والولادة للأبدية” . “إنَّ الهدية التي يقدمها أحد الزوجين للآخر هي أن يحبَّا بعضهما على طريقة المسيح، أي بدون أية شروط. هذه المحبة تملأ كامل كيان الزوجين بحضور المسيح، الذي هو المحبة المتجسدة. يُكمِل هذا الحضور ويُغني محبةَ وعشقَ الزوجين ويجعلهما قادرين على الوصول إلى أفضل وأعمق مستويات الحياة الاجتماعية والصداقة والنضج والانفتاح على الآخر والقداسة” . يُقدِّم الزوجان لبعضهما “المعشر الحسن والثقة بالآخر والدعم المتبادل وكامل رباط المحبة” . هكذا على نموذج المسيح، تصل محبتهما حتى التضحية بالذات وبذلها الطوعي إلى درجة التخلي عن كل شيء لأجل الحبيب (انظر: رو 9: 3).
إنَّ تجلّي البشر داخل نورانية المحبة الفائقة له نتائجه في كل جانب من جوانب الحياة. فالإنسان الذي استطاع أن يحب بحقّ شخصاً ما، يكتشف أن بإمكانه أن يحب الجميع دون استثناء. داخل الكنيسة، تتجاوز العائلة كلَّ عشقٍ مميت وتأليه للذات، وذلك لأن “المحبة لا يمكنها أن تكون منغلقة أبداً. إنها بطبيعتها جامعة ومنفتحة على الآخر” . إن المحبة الناضجة تخرج من ازدواجية العشق لتصير، في ذروتها، شاملة وجامعة للكل. هكذا يظهر جلياً وصول المحبة إلى كمالها من خلال ديمومتها وعدم تقييدها بأية شروط.
يُشكِّل بذل المسيح ذاته لأجل الكنيسة مثالاً ونموذجاً حقيقياً لمحبة الله للإنسانية. في مجتمع الكنيسة القائم على المحبة والحرية يتجاوز البشر كل تمييز بيولوجي واجتماعي، يعيشون “سر الحب” ويصيرون جسد المسيح وعندها يمكنهم أن يقولوا: “لأننا أعضاء جسمه من لحمه ومن عظامه” (أف 5: 30). إن حياة البشر وتاريخ البشرية مدعوّان أن يصيرا مطرحاً دائماً لله، وخدراً للقاء الله مع البشر في إطار أعجوبة المحبة. لهذا فإن أعجوبة قانا تشكّل “بدء الآيات” التي صنعها يسوع (يو 2: 11)، إنها منطلق تجلٍّ شاملٍ للعالم بأسره.

النص لستافروس فوتيوس من كتابه: “رجل وامرأة: الإنسان”.

Γεώργιος Π. Πατρώνος, Θεολογία και εμπειρία του γάμου, Αθήνα: Δόμος, 1992, p. 277.
Stephanos Charalambidis, “Marriage in the Orthodox Church”, One in Christ 13 (1979), p. 222.
Joseph Allen, “Practical Issues of Sexuality”, Saint Vladimir’s Theological Quarterly 27 (1983), p. 51.
Olivier Clement, “Life in the Body”, The Ecumenical Review 33 (1981), p. 144.
Alkiviadis C. Calivas, “Marriage: The Sacrament of Love and Communion”, Greek Orthodox Theological Review 40 (1995), p. 254.
Theodore Stylianopolous, “Toward a Theology of Marriage in the Orthodox Church”, Greek Orthodox Theological Review 22 (1977), p. 266.
John Chryssavgis, Love, Sexuality and the Sacrament of Marriage, Brookline, Massachusetts: Holy Cross Orthodox Press, 1996, p. 9.
. يوحنا الذهبي الفم، “عظة في الرسالة إلى أهل كولوسي”، 12، 6، .[PG 62, 387]

Leave a comment