عدم الاهتمام بالعقيدة بين المؤمنين الأرثوذكس

عدم الاهتمام بالعقيدة بين المؤمنين الأرثوذكس

الأب جورج فلوروفسكي

نقله إلى العربية وعلّق عليه الأب أنطوان ملكي

ما هو بالتحديد ما شدّ الروس إلى الكنيسة؟ العقائد الأرثوذكسية أم التعليم الأرثوذكسي؟.. هذا كان في الماضي، خاصةً لدى الروم البيزنطيين، لكن ليس في روسيا. في زمان ما كان الناس مهتمين بالأسئلة الإيمانية، حتّى العلمانيين منهم. لكن الروس، ما عدا مجموعة من المتعلمين لاهوتياً منهم، لم يبلغوا إلى نقطة الاهتمام بمسائل الفكر اللاهوتي المجرد، وبالحقيقة لم يكونوا مهتمّين بكل المسائل اللاهوتية. قد يكون السبب أن الكنيسة فشلت في تنمية الاهتمام باللاهوت بين المؤمنين. لكن السبب الحقيقي في انعدام هذا الاهتمام هو أن الروس لم يهتمّوا ولا فهموا الوجه النظري لتحقيق أو تجسيد المُثُل العليا التي للكنيسة في حياة البشر. إلى هذا، إنهم يهتّمون بالوجه الطقسي للدين، جمالية الخِدَم، الأيقونات، الألحان وما شابهإن للطقوس قيمة عاطفية وتربوية، لكن قلّة الذين يفهمونها جيداً، والأغلبية لا يعرفون الحقيقة التي تشهد عليها أو ترمز إليها هذه الطقوس. خاصةً أن الطقوس بحد ذاتها تؤثّر وتحرّك وترفع وتوحي بغض النظر عن معناها.

ما إذا كان هذا الوصف دقيقاً لمقاربة الروس للمسيحية هو أمر غير مبتوت. لكن الموقف نموذجي بالنسبة لبعض مكوّنات الكنيسة الروسيّة. العديد من الكتّاب يؤكّدون أن الأرثوذكسيين يتعلّمون المسيحية لا من الكتاب المقدّس بل من حياة القديسين. كما أنهم يؤكّدون أن الأرثوذكسية بشكل عام ليست عقيدة بل حياة. الأرثوذكس لا ينشغلون بالنظم العقائدية بل بالحياة. إنهم لا يفهمون الحقيقة من خلال الفهم العقلي، بل من خلال القلب بطريقة جمالية. على المرء أن ينظر إلى التعليم الأرثوذكسي لا من خلال النظم، بل من خلال الصوَر، أي الطقوس والأيقونات. حتّى أن البعض يؤكّدون أنّ في الشرق الأرثوذكسي لا توجد نظرية المسيحيةبل بالمقابل يوجد قديسون وأيقونات وقصائد وغيره.

ما من أرثوذكسي أو كاثوليكي ينكر الأهمية الأساسية للطقوس وحياة القداسة. لكن المربِك في الصياغات التي أشرنا إليها هي اقتصاريتها (exclusiveness)، وتركيزها على النفي والاستلحاق لابل“. يتساءل المرء لماذا تُقيَّد النظم العقائدية والفهم العقلي ويُزدَرى بها ويُقضى عليها تقريباً. يبدو الميزان مكسوراً. في مطلق الأحوال، هذا التشديد الزائد على الوجه الفنّي للطقس لا يتّفق مع التقليد الحقيقي للفن الأرثوذكسي. وإذا كان ممكناً أن يتعلّم المرء من الترتيل والأيقونات الأرثوذكسية فهو بالتحديد لأن نظريةً مسيحيةً محددة مجسّدة ويعبّر عنها هناك. النظرية تعني قبل أي شيء التأمّل، إنها تبصّر ورؤيا، تبصّر شعري ورؤيا عقلية. بحسب التقليدي الروحي الأرثوذكسي، النوس هو القوة الحاكمة في الحياة الداخلية. الترتيل الأرثوذكسي الشرقي التقليدي الذي ورثه الروس عن اليونان ليس مجرّد كلمات، ولا هو معلَّم بالعاطفة بل بالرزانة. إنه شعر سامٍ لكنه بالحقيقة شعر ميتافيزيكي أو بالأحرى شعر لاهوتي ولا يتردد باستعمال مصطلحات لاهوتية محددة. بالواقع، إن بعض أهمّ الترانيم في الكنيسة الشرقية هي ببساطة إعادة صياغة للتحديدات العقائدية:ابناً متجسداً بغير أب هو المولود من الآب قبل الدهور بغير أمٍّ ولم يَنَلهُ تغيير أو انعجان أو انقسام، بل حفظ خاصّةَ كلّ من الجوهرين سالمةً(ثيوطوكيون باللحن الثالث). هذا هو تحديد مجمع خلقيدونيا وهو يتطلّب فهماً لاهوتياً. لقد قيل بحق أن الأيقونات الأرثوذكسية هي تحف عقائدية” (بولوتوف) لأنها تشهد للحقيقة نفسها التي تحددها العقائد، وبحسب المجمع المسكوني السابع، يجب ضبط الأيقونات بعقيدة صحيحة.

بالطبع، العقائد ينبغي عيشها وليس تقييمها بالتفكير المجرّد وحسب، ولهذا السبب بالذات يصير الإلحاح على الحياة لا العقيدة أمراً مضللاً. عادة الانقسام والانفصال تشوّه الحياة نفسها. لا يمكن فصل الروحانية عن اللاهوت عند القديس يوحنا الدمشقي أو القديس غريغوريوس النزينزي. قد لا يصل المرء إلى لبّ روحانية القديس يوحنا كرونشتادت عندما يستخرجها عمداً من رؤيته اللاهوتية. القداسة في التقليد الأرثوذكسي تُفسَّر دائماً لاهوتياً، وليس من خلال فئات العاطفة الجمالية أو التمجيد، بل من خلال تصنيفات الرزانة الروحية بالأمانة للحقيقة.

من المحرج بالحقيقة أن الاهتمام بالنظم العقائدية قليل، على غرار الاهتمام بعقيدة الكنيسة، في مختلف دوائر المجتمع الأرثوذكسي وأماكنه في أيامنا، وأن التقوىغالباً ما تكون منفصلة بالقوة عن الإيمان“. هناك الكثير من الاهتمام بالأوعية والقليل منه بالكنز الذي وحده يجعل الأوعية ثمينة. الرموز والطقوس هي مركَبات للحقيقة، إذا فشلت في إيصالها تفقد وظيفتها. للأسف كثيراً ما نسمع أن الاهتمام بالعقائدهو أمر بالغالب قديم ويعكس موقفاً يونانياً أكثر منه روسي. لا يوجد إلا تقليد إيمان أرثوذكسي واحد وهو يسمو فوق كل الحواجز القومية. عيد الأرثوذكسية الذي ما زلنا نحتفل به في الأحد الأول من الصوم هو عيد لاهوتي بشكل فائق الدقّة. إن تراث الآباء هو محور تقليدنا الأرثوذكسي وهو تراث لاهوتي. تعليم الآباء العقائدي هو ربيع الأرثوذكسية في الحياة. يستطيع المرء أن يؤكّد أن التشوّش القائم اليوم في الحياة سببه المباشر هو الإهمال المعاصر للتعليم السليم والافتقار للتعلّم السليم في شؤون الإيمان.

تَثْبُت الأرثوذكسية بأمانتها للمجامع المسكونية السبعة. في أغلب الأحيان، يُنسى أن ما شغل المجامع هو بالتحديد صياغة العقيدة المسيحية وتفصيل النظم العقائدية. أهي خطوة نحو الأمام أننا اليوم لا يحركنا ولا يثير إعجابنا هذا التعليم العقائدي الذي وضعه هؤلاء الرجال العظماء الذين قدّموا حياتهم بكاملها لتثبيت الأرثوذكسية، الإيمان الصحيح؟ نحن نمتدح الأقمار الثلاثة قبل كل شيء كمعلمين للمسكونة، لكننا وبشكل غريب لا نبالي لمساهمتهم الدائمة في حياة الكنيسة: أي بالتحديد تعليمهم ولاهوتهم وتفسيرهم للحقيقة المسيحية بكلمات العقل. ألا نحتاج، كأولوية، أن تستنير عقولنا بنور المنطق في هذه الأيام التي يسيطر فيها التشوش العقلي؟ من دون توجيه رزين ومن دون عاملِ العقيدة الصحيحة الراسخ لا تستطيع مشاعرُنا إلا أن تخطئ وقلوبُنا إلا أن تعمى.

علينا أن نقبل إحياء الدين ويقظة القلب الحاليين كعطية من النعمة وعلامة للرحمة الإلهية، لكنهما أيضاً استدعاء جذري ودعوة للدرس والفهم، إلى معرفة الحق الذي يحتضن حياتنا الأبدية. يوجد تحامل بائس من مصادر غير أرثوذكسية مفاده أن العقائد مجرّدة واللاهوت هو نشاط فكري (intellectualism). ربّنا ومخلصنا هو الكلمة (the Logos) وهو ينير كل الناس، والروح القدس معطي الحياة هو روح الحق. العواطف هي أمزجة بشرية بينما الحق إلهي. فلنزيّن الأوعية من دون أن ننسى أنها خزفية لكن فيها يختبئ كنز أبدي هو كلمة الحياة.

النص أعلاه كتبه الأب جورج فلوروفسكي في الثلاثينيات من القرن الماضي وعنوانه الكامل انتقاد لعدم الاهتمام بالعقيدة بين المؤمنين الأرثوذكس الروس”[1].

مذهلة مطابقة وصف فلوروفسكي للوضع الروسي في حينه والوضع الأنطاكي اليوم. دراسة علاقة اللاهوت بالحياة أمر كان وما زال ضرورة للحياة نفسها في كل مكان. ينتقد الأب فلوروفسكي عدم اهتمام المؤمنينبالعقيدة، وفي هذا الانتقاد يقدّم تعليماً متكاملاً حول علاقة اللاهوت بالحياة ودوره فيها. ماذا تراه يقول عن أنطاكية اليوم، أي بعد ثمانين سنة تقريباً من كتابة هذا المقال، وهي المدة نفسها منذ انتشار العمل النهضوي في أنطاكية على المستوى الشعبي، مع نشوء حركة الشبيبة الأرثوذكسية بشكل أساسي، وما تبعها ونتج عنها لاحقاً من إنعاش للحياة الليتورجية وإحياء للحياة الديرية؟ ينتقد فلوروفسكي عدم اهتمام المؤمنين بالعقيدة، فماذا تراه يقول لو قرأ محاضر المجمع الأنطاكي، أو اجتماعات كهنة الأبرشيات (حيث تُعقَد)، حيث يرِد كل شيء إلا اللاهوت أو المناقشة اللاهوتية؟ في أنطاكية، لا مكان للاهوت خارج معهد القديس يوحنا الدمشقي، إذا تواجد هناك، إذ لا يستطيع فكر أن يستمر ما لم يجد تصريفاً له. لو كان فلوروفسكي، أو أي لاهوتي آخر يسلك طريقه، في أنطاكية لكانت تعاملت معه الإدارة الكنسية كعبء من الحلال إقالته وإسكاته ونفيه.

إن انتقاد فلوروفسكي لروسيا في الأربعينيات، وما شابهه من المساهمات الغيورة، هي التي سهّلت وقوف الروسيا على قدميها بعد سبع عقود من القمع. وغياب الفكر اللاهوتي هو بالتحديد أول مانع لأنطاكية من الوقوف على قدميها. “تَعَالَ أَيُّهَا الرَّبُّ يَسُوعُ” (رؤيا 21:20).

[1] “A Criticism of the Lack of Concern for Doctrine Among Russian Orthodox Believers”. From The Collected Works of Georges Florovsky, ed. Richard S. Haugh (Belmont, MA: Nordland), Vol. XIII, Ecumenism I: A Doctrinal Approach, pp. 168-170.