الكبرياء: مختارات من البوق الإنجيلي

الكبرياء: مختارات من البوق الإنجيلي

مكاريوس معلّم باتموس

نقله إلى العربية الراهب أثناسيوس الدمشقي

 

البوق الإنجيلي هو مجموعة عظات لمكاريوس معلّم الكنيسة في باتموس، وهو من الآباء الكوليفاذيين. ويأتي الكتاب في جزئين من حوالي 700 صفحة. الكتاب الأصلي من القرن الثامن عشر، وقد تمّ الفراغ من ترجمته إلى العربية في 1780 ولم يُنشَر إلى 1889 بهمّة المثلّث الرحمات البطريرك غريغوريوس حداد وكان حينها شماساً في بيروت. وقد رأت التراث الأرثوذكسي فائدة في نشر مختارات من هذا الكتاب فيها الفائدة الروحية بعد حذف التكرار العائد للنمط الوعظي في تلك الفترة وبعد مراجعة طفيفة للغة. النص التالي هو جزء من العظة في أحد الفريسي والعشار، البوق الإلجيلي، الجزء الأول.

فلننظرْ الآن إلى جهاز هذه العروس “الكبرياء”، الذي جهّزها به أبوها الشيطان عندما زفّها إلى الإنسان.
فاعلم أن أول مزيّة حوتها الكبرياء إنما هي الشرك والإلحاد. ومعنى ذلك هو أن هذا الداء إذا ولج في نفسٍ أحدٍ، كائناً مَن كان، يجعله عاصياً على الله ومارقاً من طاعته. كما يشهد بذلك الحكيم ابن سيراخ بقوله: “إن أصل الكبرياء هو انتزاح الإنسان عن الرب”. إن هذا القول موكدٌ ومحققٌ، من مثال كوكب الصبح، ومن نموذج آدم. فبقي لنا أن نقول أن الكبرياء هي أصل كل نكبةٍ ومصيبة ومبدأ كل تعاسة ونائبة. والدليل على ذلك هو أنّ الله تعالى هو غاية الصلاح المحض. وقد أوضحنا فيما تقدم أن الكبرياء تصيّر الإنسان عاصياً على الله تعالى ومارقاً من طاعته، وبعيداً من جلاله. فيقتضي إذاً أن يكون المتكبّر خالياً من كل خير، وعادماً لكل صلاح، وأيضاً: أن الله تقدّست أسماؤه هو النور غير المخلوق البليغ إلى الغاية القصوى. وأما المتكبّر فإنه يكون جاحداً لله جلّ شأنه لأنه ينتزح عنه تعالى بكبريائه وعصيانه. فيقتضي إذاً أن يكون حاصلاً في قعر ظلمة الشيطان الحالكة. وأيضاً، أن الله تعالى جلّت حكمته هو ينبوع ومعلّم كل فضيلةٍ. وأما المتكبّر فإنه متزوج بابنة الشيطان أعني بها الكبرياء. فيقتضي إذاً أن يكون عادماً كلّ فضيلة أيضاً. وبالإختصار أقول أننا نستفيد من هذه الأقوال كلّها أنّ الكبرياء القبيحة هي أشرٌ من جميع الخطايا التي يقدر الشيطان اللعين أن يخترعها ويعدّها. ولأجل ذلك عندما عزم أن يكردس آدم من النعيم، لم يصادف آلةً ولا واسطةً أخرى شراً منها حالة وأشنع منها فظاعة.
وثاني جهاز أعطاه الشيطان لابنته الكبرياء بمنزلة قلادة لصدرها هو أن تكون مولّدة كل الشرور والمساوئ ومرضعتها. ولكي لا تتوهموا ظانين أن هذا القول مستنبط من عقلي أنا، طالِعوا في الإصحاح السادس عشر من سفر حزقيال النبي. فإنكم تنظرون ما يقوله الله تعالى عزّ وجلّ للنبي المذكور في شأن أهل صادوم، فإنه تعالى يقول: “ان إثم أهل صدوم إنما هو الكبرياء”. ولربما تعترضونني في هذا المحل قائلين، إذا كانت خطيئة أهل صدوم هي الكبرياء، فكيف اننا نسمع الكتاب المقدس قائلاً أن أهل صدوم كانوا قوماً مضاجعي ذكور، وزناة، وفسقة، وظلمة، وخطفة ونمامين، ومرتكبي شرور كثيرة هذا مقدارها. حتى أنّ كثرة خطاياهم المتفاقمة حرّكت الإله السيد واضطرته فأمطر من السماء ناراً وأحرقتهم. فكيف يصحّ أن يقول الله تعالى لحزقيال النبي: “ان إثم صادوم إنما هو الكبرياء”؟ أفيمكن أن يستنتج أحدٌ من هذا المحل أنّ الصادوميين إنما كانوا متكبرين فقط ولم تكن لهم خطيةٌ غير هذه؟ فإني أجيبكم قائلاُ: لا لعمري، ليس الأمر كما توهمتم. بل انه تعالى بهذا الإسم، أي اسم الكبرياء، أوضح لحزقيال النبي أن أهل صادوم هم حانوت كل إثم ونفاق، بما أنّ الكبرياء هي أمّ كلّ الخطايا والآثام. فأواه ما ألعن هذه القلادة التي تلبسها الكبرياء، لأن لها قوة أن تنتج كل إثمٍ وتولّد كل خطية ومعصية.
ثالث جهاز أخذته الكبرياء من أبيها الجهل والغباوة، وذلك بمنزلة إكليلٍ لها. وهذا الإكليل له قوة شديدة وفعلٌ جزيل. فهو يظلم عقل الإنسان، ويسلب منه قوة الفهم والتمييز ولذلك من لوازم المتكبرين عدم الفهم التمييز. وهاكم الشهادة والبرهان على ذلك من ابتناء برج بابل. أفما يستبين لكم ذلك العمل أنه عمل أناس قد عدموا عقولهم؟ وإذا نظرتم في هذا الزمان قوماً يحاولون أن يبنوا برجاً بلبن ليصلوا به إلى السماء، أفما تقولون عنهم نفس هذا القول، وهو أن هؤلاء القوم قد عدموا عقولهم؟ والحال أننا نطالع في الإصحاح الحادي عشر من سفر التكوين أنّ أهالي ذلك العصر قد باشروا هذا العمل الناتج عن جسارةٍ عظيمة، بل الأَولى أن يقال أنهم باشروه عن حماقة جسيمة، قائلين: “هلمّ نبني لأنفسنا مدينةً وبرجاً يكون رأسه واصلاً إلى السماء”. فهذه الغباوة نفسها قد حواها الذين من تلقاء عجرفتهم وكبريائهم يكدّون مجتهدين ويتعبون حريصين في أن يخلفوا لهم اسماً في السماء، كما أن أولئك كانوا يهيئون لبناً ليبنوا به برجاً يكون رأسه واصلاً الى السماء، وأما الأعمال التي يجب أن يمتلكها سكان السماء فكانوا متهاملين بها ومتكاسلين عنها. نعم أنه في هذه الظلمة نفسها، أعني بها ظلمة الجهل والغباوة، قد سقط وتهوّر الآباء والوالدون الذين يجدّون ويتعبون في بناء الدور الرحبة الواسعة والمنازل العالية الشامخة والقصور المزخرفة الشاهقة، ليخلفوا لهم اسماً في الأرض، وأمّا في السماء فيحتقرونها ويرفضونها. هذه الغباوة بعينها قد حواها كل الذين يزيّنون أولادهم بحلي الذهب والفضة ويكسونهم بالحلل الثمينة والثياب الفاخرة، وقصدهم بذلك أن يخلفوا لهم اسماً في الأرض، ويهملون ممارسة الصدقة والرحمة والشفقة على البائسين التي هي السلم الحقيقية التي بها يرتقي الإنسان صاعداً الى السماء. إن كسرى ملك الفرس وجد في البرية دلبةً كيسة ظريفة بهية المنظر فزيّن أغصانها بالماس واللؤلؤ والجواهر الثمينة وبغير ذلك من الحلل النفيسة المنسوجة من الذهب. وقد فعل ذلك كله بتلك الشجرة لأنها أظلّته بظلّها. والحال أنّ هذا الأمر بعينه قد أصاب كثيرين من أهالي عصرنا هذا أيضاً. وذلك أنهم يصرفون أتعابهم وينفقون أنصابهم من أجل خيالِ ظلٍ زهيد يكونون مؤمّلين نوالُه من أبنائهم وبناتهم، ويغادرون نفوسهم التي ما من شيء يساويها في الكون كله، ويهملونها عاريةً وخاليةً من وشاح الصدقة وسربالها الذهبي، العاري عن الفناء والدثار. هذا الأمر نفسه يعتري أولئك الجهلة المأفوني العقول الذين من أجل ظلّ زانيةٍ ما، وقتي زمني، يصرفون مهجة قلوبهم وينفقون حشاشة أكبادهم، ولا لزوم لإطالة الشرح ووصف ما هو أكثر من ذلك. لأن الكبرياء التي هي أمّ الجهل والغباوة قد استلبت عقولهم وانتزعت منهم ألبابهم ولم يدروا ولم يشعروا أياً هو البرج الحصين الحقيقي، الذي نستطيع أن نصل منه الى السماء من غير شك ولا ارتياب.
لكن مرادي أن أسألهم هذا السؤال فقط: أن يقولوا لي بماذا حكم الله تعالى جلت قدرتُه، عندما أبصر اولئك القوم يبنون ذلك البرج العالي؟ أتعرفون ماذا صنع؟ أتعلمون ماذا قال؟ لعمري أنه لم يقل إلا هذه الكلمة وهي “هلمّ ننزل ونبلبل هناك لسانهم”. هذا الحكم الإلهي الذي حتم به الله تعالى على أولئك القوم حيّر جمهور المعلّمين البارعين، وعلى الخصوص القديس أوغستينوس الشريف قدره. فهم يقولون لو أنه تعالى أرسل أحد الملائكة بهذه الخدمة، أفما كان كافياً لتبطيل عملهم الزائغ عن العقل الذي باشروه بعقولهم السخيفة الفاقدة التصوّر، ولتعويق بنيانهم الناتج عن الصلف والكبرياء؟ فما هو السبب الداعي لأن يتسلّح الثالوث القدوس بجملته بإزائهم؟ ويجيبون قائلين، أن ذلك لم يصر الاّ لكي نعرف نحن مقدار مقت الله تعالى للأعمال الناتجة عن الكبرياء وبغضِه لها حتى أن اللاهوت المثلث الأقانيم يتسلّح بإزائها ويقاومها.
ثم مرادي أيضاً أن أسألكم سؤالاً آخر. أفتعرفون أن تحلوا اعتراضي وتقولوا لي لأي سبب لم يجلب الله تعالى عزّ اسمه على هؤلاء المتكبرين قصاصاً غير بلبلة لسانهم؟ لقد أورد مفسرو الكتاب الإلهي السبب في ذلك قائلين، لو أنه تعالى يجلب عليهم قصاصاً آخر ويحلّ بهم تأديباً غير هذا، لكان أصابهم هم فقط. ولم يكن يتخلّف إلى أولادهم بالتسلل خلفاً عن سلف بعقابه لهم ببلبلة لسانهم وتعدد اللغات. لكنه بالصفة التي أجراها أبقى القصاص معلوماً ومشاهَداً عند الذين يعقبونهم أيضاً. فهم كلما سمعوا لغاتٍ مختلفة وألسناً متباينة يتذكّرون شرّ الكبرياء ويفطنون بقبح رذيلتها ويحيطون علماً بأن هذا الضرر العظيم وهذه النائبة الكبرى أتت للعالم من تلك الخطيئة العظمى التي هي أهم الشرور والمساوىء ومربيتها.
رابع جهاز أعطاه الشيطان لابنته الكبرياء هو قرطان لأذنيها ولهذا السبب ترى أنّ كل من كان متكبراً لا يقبل نصيحةً ولا يسمع مشورة، بل يسخر مستهزئاً خاصة بتعليم الإنجيل الشريف وأقوال المعلمين. ترى كم من الرجال والنساء الحاضرين في هذه الكنيسة، الذين إن كان قد رزقهم الله تعالى شيئاً من الفضة ليزينوا به نفوسهم لا أجسادهم، ويعملوا أعمال التحنن والرحمة لا صنائع الإثم والنفاق، لكن الكبرياء خطفته من أيديهم وزينتهم به من خارج وأهملتهم عراةً من داخل، كَسَت الطين البالي ووشته، وغادرت صورة الله التي هي النفس عاريةً؟ ومن هذا القبيل كثيرون من الرجال والنساء يشبهون صنم “ابوللون” الذي كان في “دلفوس”. وذلك أنه كان مزيناً من خارج بحلى الذهب والفضة، وفي رأسه ضفائر ذهب مرخية على منكبيه، وكان ضابطاً في يده صاعقة ومسجوداً له من الجميع. إلا أن لوكيانوس عندما عاين قوماً كثيرين ساجدين له بغاية الورع والاحتشام، طفق يستهزئ به قائلاً: أيها المساكين، إنكم إنما أنتم ناظرون الذوائب الذهبية من خارج، إلا أنكم ما تدرون أن هذا الصنم الذي أنتم ساجدون له فارغٌ وخاوٍ من داخل، ولذلك ترقص فيه الفيران وهو مملوء من العنكبوت والغبار، والحال أن هذه الصورة نفسها هي صورة المتكبرين. فإنهم من خارج يكونون مزينين زاهين متصلفين، وهم من داخل فارغون خاوون وموعَبون من روح العجرفة والكبرياء ومملؤون من دخان الحقد والضغينة وبخار كل خبث ورذيلة. فتراهم يأتون إلى الكنيسة ويسمعون الإنجيل الشريف يعلّم والرسول السليح ينبّه وسيَر القديسين توصي. “ان من يغتاب أخاه فقد أكل لحم أخيه”. ومع ذلك كله فليس في أفواههم إلا الوقيعة والنميمة والدينونة. وإنما يحرّضهم على ارتكاب هذا الصنيع دخان الكبرياء والعجرفة الموجود داخلهم. يسمعون الآباء الروحيين معلمي الاعتراف ينبهون، والإنجيل الشريف يحتم خاصةً جازماً بأصرم ما يكون: “إنكم إن غفرتم للناس سيئاتهم، يغفر لكم أيضاً أبوكم السماوي سيئاتكم. وإن لم تغفروا للناس زلاتهم لا يغفر لكم أبوكم أيضاً زلاتكم”. وهم مع ذلك يكتمون البغضة والعداوة في قلوبهم ويكنونها في أفئدتهم كمثل قلادة ذهب. يسمعون الرسول الطوبان قائلاً “ليختبر الإنسان ذاته. وهكذا فليأكل من الخبز وليشرب من الكأس لأن من يأكل ويشرب بغير استحقاق فإنما يأكل ويشرب دينونةً لنفسِه”. ومع ذلك بعضهم يتجاسرون بجرأة ويتناولون الأسرار الطاهرة من غير أن يمتحنوا ذواتهم ويختبروا حالهم كيف هم وبدون أن ينتقوا ويتطهروا، ومن غير أن يتصالحوا ويتسالموا مع أعدائهم. وبعضهم مستولٍ عليهم شيطان الكبرياء ومستحوذ على قلوبهم فلا يستغفرون من أعدائهم ولا يطلبون منهم الصفح والغفران ولا يتسالمون مع إخوتهم وهكذا يلبثون من غير مناولة ويهملون أنفسهم جائعة وخاوية من ذلك المنّ السماوي الذي هو حياة النفوس ويزدرون بهذا السرّ الخطير الرهيب، الذي يرتعد الملائكة عند امتثالهم لديه حين صيرورته وتكميله. لا بل لو أمكنهم أن يتناولوه كالبشر لكان ذلك لديهم أعظم السعادة. وما لي للإطالة والإسهاب بتعداد الخطايا والمآثم التي تسببها خطيئة الكبرياء للإنسان المسكين لأني إن قصدت ذلك فكأني جالسٌ على شاطىء البحر وأحاول أن أكيل مياهه بقدحٍ.
خامس جهاز أعطاه الشيطان لابنته الكبرياء هو بمنزلة سوارين ليديها وهو أن تكون مفسدة للسلام وممزّقة للإلفة. ولذلك ترى أن هذا الداء أينما ولج حَسَم وثاق المحبة وقطع رباط المودة وولّد الفتن والمخاصمات وأنشأ السجس والمماحكات. بما أن المتكبر يطلب دائماً أن يكون له التقدم والأولوية فإن وُجد في مشورة فيما بين قومٍ طلب أن يكون كلامه المعتبر والمؤيد لا سواه. وإن كان في تفسير كتاب فيريد أن يعتبر أثبت علماً وأكثر دراية وأوفر اطلاعاً من سواه. وقد تولدت من الكبرياء في العالم على هذا الوجه حروب وقتال وفتن ونزاع وبدع وهرطقات دينية واختراعات محدثة سيئة.
لقد أصاب المعلمون بما فعلوا في ايضاح قبح رذيلة الكبرياء وفي أن يظهروها جيداً إذ شبهوها بالنجم المعروف “بأبي ذنب” أو “ذي الذَنَب”. قال الفيلسوف “أرسطو” في الكتاب الأول من كتبه المختصة بعلم الهيئة “أن هذا النجم الملقب بذي الذنب ليس إلا بخاراً يابساً. ودخاناً يرتفع إلى أعلى آفاق السماء ويحترق هناك ثم يعود فيتربى من أبخرة الأرض”. وهكذا الكبرياء فإنها دائماً تطلب المعالي ولا تقف عند غاية أو حد البتة. فإنك مهما نوّلت المتكبر من الإكرام، مهما أعطيته من الجاه والغنى فإنه لا يشبع أبداً. لا بل يظلّ دائماً ملتهباً ومحترقاً بتلك الشهوة الرديئة والرغبة السيئة. فلأي سبب كان يغضب ساخطاً وهو يترفع دائماً كما تنبأ داود اللاهج بالله قائلاً “إن كبرياء مبغضيك قد ارتفعت في كل حين” ولكنه يهوي دائماً متكردساً إلى أسفل. على أن الكبرياء في الإنسان هي أمر بخلاف الطبيعة لأنها تطلب المعالي السامية. ولذلك يقول الحكيم ابن سيراخ “لماذا يتكبر التراب والرماد” وذلك لأن التراب عنصر كثيف وثقيل ومن خواصه الميل إلى أسفل ولقد أصاب من شبّه الكبرياء بالنجم المذكور أعني به ذا الذنب. لأنه ما يبان في النهار بل يظهر في الليل وهكذا المتكبر إنما يظهر في الأشياء المظلمة وفي الخطايا المقتمة. ففي هذا المحل فقط يكون غنياً موسراً. وفي هذه الأمور فقط يكون حكيماً ماهراً وذا دربةٍ خبيراً. إذا أراد أن يكتسي من خارج الثياب الفاخرة ويتزين بالحلل ذات الألوان المختلفة والنقوش المكلفة فلهُ قدرةٌ على ذلك، ولكنه لا يقدر أن يكسو فقيراً أو يدفئ عرياناً أو يتحنن متصدقاً على امرأةٍ أرملة. في الوشايات والخيانات وشهادات الزور الباطلة تراه حكيماً حاذقاً. وأما في التوبة والندامة والاعتراف بخطاياه فإنه يكون أعمى فاقد العقل والتصور. فلأجل ذلك قال أيوب الصديق عمن هذه حاله “إن السحاب يبدّد ضوءه”.
إن المتكبرين يشبهون أيضاً بالجراد لأن الجراد بقفزه يرتفع ولكنه في الحال يهوي ساقطاً. ومن عادته أيضاً أن الواحدة تأكل الأخرى والكبيرة لا تشفق على الصغيرة ثم أنه في الصيف يظهر وفي الشتاء يغيب وهكذا المتكبرون أيضاً فإنهم عندما يحاولون أن يستبينوا عظماء مفخمين وأجلاّء مجيدين يهوون في الحال متكردسين. وبمقدار ما يرغبون ويحبون أن يكونوا أعزاء مكرّمين وأماجد مشرّفين يكونون مبغوضين وممقوتين من الله والناس. “لأن كل مترفع القلب رذالةٌ عن الرب”. وهم كالجراد يأكل بعضهم بعضاً بالخصومات والمنازعات ويفنون بعضهم بعضاً لأن المحبة والسلام لا تستقران في نفس المتكبر أصلاً. وكالجراد يظهرون في الصيف أي في أيام مرحهم وبطرهم ودولتهم وسعادتهم. وأما في الشتاء، أي إذا ما دهمتهم التعاسة والنحوس وانقلاب الحظ فيحصلون أخساء مرذولين وأدنياء مستكرهين.
إن المتكبر يشبّه أيضاً بالثور الوحشي. لأن الثور البري إذا ما رُبط بالتينة فإنه يستأنس كما يقول علماء الطبيعيات الماهرون. والمتكبر أيضاً إذا ما حصل خاضعاً لإنسانٍ متواضعٍ وديع فإنه يستأنس، ويطرح عنه وحشية كبريائه. وأيضاً من طبع الثور أنه يحب أن يرعى وحده. وهكذا المتكبر أيضاً يحب التصدر في أوائل المجالس وأن يكون هو وحده مكرماً ومشرّفاً. وأن يدعى حكيماً عالماً أكثر من الكل وأن يرتعي كل كرامات العالم بأسرها. قال أرسطو الفيلسوف أنك إذا شطبت جلد الثور قليلاً ونفخته فإنه يسمن وهكذا المتكبر أيضاً يرغب اطراء المملقين وثناء المتدلسين ويحب ذلك محبة غزيرة وينتفخ به ويسمن زاهياً. لأجل ذلك يوصي الحكيم ابن سيراخ قائلاً “لا تشمخن بذاتك برأي نفسك لئلا تخطف كالثور نفسك”. إن المتكبر يشبه بالثور نظراً إلى القساوة أيضاً لأن قلب الثور عظيمٌ قاسٍ صلب. والمتكبر أيضاً يكون قاسي القلب عاتياً لا يلين قلبه ولا يثني عزمه بأوامر الإنجيل الشريف وتنبيهاته ولا بمواعظ أبيه الروحي ونصائحه ولا بمشورات محبيه وخلاّنه.
إن المتكبر يشبّه أيضاً بالتنين المسمّ. لأن التنين إذا ما نفخ سمه في الهواء فإنه يظلم. وهكذا يفعل المتكبربمثالبه ومطاعنه وسبابه وشتائمه التي يقذف بها من هم دونه محلاً وأقل قدراً وشأناً. ويشبه التنين من وجه آخر أيضاً، هو أن التنين فاغرٌ فاه في الهواء ليترطب من شدة حرارة طبعه ومزاجه. والمتكبر فاغرٌ فاه وفاتحٌ أذنيه لسماع التقاريظ والمدائح من المملقين. ليرطب حرارة التهابه بالكبرياء المحرقة. فآه منكَ يا داء الكبرياء اللعين. أوّاه منكِ يا ابنة ابليس المحال الفظيعة. أوّاه منكِ يا أمّ كل الشرور والرذائل الشقية.
بما أنك فهمت هذه الأقوال أيها السامع العزيز. وأحطت علماً بهذه الأحوال. فأريد منك أن تقول لي ما هو الأحسن والأفضل لك؟ هل أن تكون متكبراً ويكون فيك هذا الداء القبيح وتستولي عليك هذه الأفعى الخبيثة وتكون مماثلاً لهذا التنين المريع وتكون مبغوضاً وممقوتاً من الناس ومرذولاً ومنبوذاً من الله تعالى، أو أن تكون وديعاً متواضعاً لين الجانب وحبوباً من الجميع؟

Leave a comment