السلوك مع الله: مختارات من البوق الإنجيلي

السلوك مع الله: مختارات من البوق الإنجيلي

مكاريوس معلّم باتموس

نقله إلى العربية الراهب أثناسيوس الدمشقي

 

يكون الإنسان شقياً لأنه يُعدَم الله تعالى الخير المحض. لأنه إذا صحّ أن الله جلّ شأنه يبتعد من الخطاة بعيداً، ففي أيّ تعاسة تكون الجبلة المنفصلة من جابلها؟ ألا تكون في تلك الحال كالجو إذا خلا من الشمس وأرخى عليه الظلام الحالك سدوله؟ وكالعين إذا نشفت ونضب ماؤها؟ وماذا يكون الإنسان المسكين بعد انفصاله من خالقه إلاّ كرمة أغصانها جافة ويابسة تماماً، وجسد إنسانٍ قد فارقته النفس؟ لعمري إن التشابيه والمقاييس في هذا المحل ضعيفة وركيكة جداً، وليست كفؤَة لإيضاح حالة الخاطئ المرثى لها وتبيينها كما يقتضي. فلنستفد بذلك من ضده وعكسه: فما هو الإنسان المسيحي؟ لعمري أنه ليس عبداً مكرماً ومشرفاً من الله تعالى، بل صديق محبوب جداً وخليل خصيص أيضاً، لا بل ابنٌ مجيد وجليل لله العليّ تقدست أسماؤه، الذي من تلقاء فور صلاحه وغزارة خيريته يقتبل الإنسان مثل ابنٍ وضعيّ ويتبنّاه بالنعمة، ويصعده إلى سمو مجدٍ وشرفٍ عظيم وعزٍ وإكرامٍ بازغ حتى يجعله بالنعمة شريكاً في مواهبه وخزائنه ومساهماً لأوصافه وألقابه. وأقول أن الله يجعل الإنسان شريكاً للطبيعة الإلهية. كما قال بطرس الرسول في رسالته الثانية “أنكم قد منحتم المواعيد المكرّمة الجسيمة. لكي تصيروا بها شركاء الطبيعة الإلهية”. فإذا سقط الإنسان بارتكابه الخطية من هذه المنزلة السنية الفاخرة. والمرتبة الجليلة الباهرة. لا يعود الله تعالى يتخذه بعد ذلك ابناً له ولا صديقاً ولا عبداً. لكنه يقول له علانية “إنني لست أعرفكم” فكيف لا يرثى لمَن هذه حاله؟
إن عيسو التعيس لما علم بأنه قد عدم البكورية، وطرق سماعه أنها قد أعطيت لأخيه يعقوب ببركة أبيهما اسحق، اشتمله حزنٌ بليغ وغمٌ جزيل، حتى طفق يزعق صارخاً على مسمع الجميع، ويبكي بكاءً محزناً بعبرات سخينة نادباً مصيبته العظمى وتعاسته القصوى التي لا سلوة لها. يشهد الكتاب المقدس بقوله “وكان لما سمع عيسو كلام أبيه اسحق عجّ صارخاً بصوت عظيم محزن جداً”. حقاً أن الخاطىء الشقي تعيس وحالته أشقى من حالة عيسو أيضاً. لأنه من تلقاء الخطيئة يتعرّى من الله تعالى جلّ جلاله، لا من بركة البكورية فقط بل من موهبة البنوة الوضعية أيضاً ولا يبقى له بركة أصلاً بل بالأحرى تدوم له اللعنة. كما يقول الكتاب بفم الحكيم ابن سيراخ “أنكم إذا متّم فللعنة تقتسمون” وكيف يكون ذلك يا ليت شعري؟ يكون بأن الله عزّ اسمه ينفصل من الإنسان بسبب الخطية. ويفسخ تلك القرابة العجيبة الجليلة. ولا يعود يسكن في قلب الخاطىء. فلا يكون الإثنان واحداً فيما بعد حسبما يقتضيه حدّ المحبة وشرطها. إن الله تعالى بحسب كونه غير محصور ولا متحيز فهو موجود في كل مكان وصقع أكثر من وجود الشمس ولكنه موجود في قلب البار الصديق على نوع ممتاز وكيفية مخصوصة، فيحضر عنده بإكرام أكثر من إكرام الملاك عندما كان يخاطب جدعون. ومن إكرام رئيس الملائكة عند مفاوضته للبتول. وأما الخطأة فإن الله يبتعد عنهم بعيداً. فمن كانت هذه حاله كيف لا يكون مستوجباً للنوح عليه؟ وكيف لا يكون أكثر شقاوة وأوفر تعاسة من كل الناس؟ وكيف لا يكون لابساً بالحقيقة جلود آدم الميتة الخسيسة الفقرية المسببة النوح والبكاء؟
طالعوا يا هؤلاء في الكتاب المقدس وتأمّلوا كم من وفور السلوة والعزاء، وكم من عِظم الاطمئنان والثقة، وكم من إفراط الفرح والسرور كان يمنح الله تعالى لمحبيه وأصدقائه، عندما كان يوضح لهم أنه حاضرٌ معهم؟ فإنه جلّ شأنه لما أراد أن يقوّي اسحق ويشجعه لكي لا يخشى من مؤامرات الفلسطينيين “قال له لا تخف لأني معك”. وعندما أمر يعقوب بالعودة إلى وطنه، قال له “لا تخف لأني أنا معك”. وعندما أمر موسى بالمجيء إلى مصر لكي يعتق إسرائيل من العبودية، هكذا قال له أيضاً “لا تخف لأني أنا معك”. ولما قصد أن يشجع ابن نون ويقوّيه ويمنحه ثقةً وطمأنينة ليتقلد سياسة الشعب. هكذا قال له أيضاً “لا تخف لأني أنا معك”. وإذ أرسل ارمياء النبي لينذر العصاة بالحق، قال له هذا القول نفسه. فالملخّص إذاً من ذلك أنه إذا كان حضور الله تعالى عند محبيه وأصفيائه يمنحهم دالةً وثقةً، ونعمةً جزيلةً، وعوناً وتأيَيَداً، وقوةً وبأساً، ففي أيّ تعاسة يكون الإنسان الخاطئ عند غياب الله عنه؟ وفي أيّ مصيبةٍ مستوجبة البكاء يوجد؟ وفي أيّ حالة شقية محزنة يستقر؟
إن الله تقدّست أسماؤه لما غاب عن شمشون البطل الصنديد، وابتعد عنه بسبب خطيئته، فارقه للحال بأسه وعزمه وعدم الدالة والاطمئنان الذي كان له. فأضحى أعمى ومكبّلاً بالقيود، وصار منظراً مهولاً يرثى له. وطفق يدير حجر الرحى مثل حيوان عادم النطق.
ولما غاب عن منسّى الملك، عدم حريته وسلطته الذاتية ووقع أسيراً في أيدي أعدائه. ولما غاب عن شاول عدم ملكه وحياته وصار عبرةً للأجيال المتأخرة.
ولما انفصل عن عالي الكاهن، فقد أولاده وكهنوته معاً ومات ميتة محزنة يرثى لها.
ولما انفصل عن عوزيا الملك عدِم للوقت عافيته المأثورة وانضرب ببرصٍ شنيع من مفرقِه إلى قدميه ومات شرّ ميتة.
ولما انفصل عن شعب اسرائيل المحبوب حصل عارياً من الملك والنبوة والكهنوت والعبادة ومن سعادته الأولى تماماً.
فهذا الإله العظيم الذي انفصل من هؤلاء فدهمتهم هذه المصائب المتنوعة هو نفسه ينفصل منك أيها الخاطىء. فكيف يمكن لي أن لا أقول أن حالتك تصير بهذا الانفصال محزنة ومستوجبة للنوح والبكاء، وفاقدة للتسلية والعزاء وعلى الخصوص لأنك لم تشعر بما عدمت ولا أنت عارف ماذا فقدت؟
إن آدم يندب ذاته منتحباً على ابتعاده من جابله، وشمشون يبكي بعويل على انفصاله من الله تعالى خالقه. ومنسى ينوح نادباً، وعالي الكاهن يحزن مغتّماً وعوزيا المسكين يتوجع حزيناً. وبالاختصار أقول أن عدّة رجال معتبرين من أولي الرتب والمناصب عرفوا مصائبهم وندبوها. وأنت يا هذا لم تزل حتى الآن عديم الإحساس والشعور بخسارتك العديمة المقدار؟ وقلبك القاسي لا يزال جاهلاً ماذا فقد؟ ولا يشعر من أيّ مُلكٍ سقط؟ وإلى أية حالٍ هبط؟ أوّاه نعم أوّاه على حالتك فإنها مستوجبة أن يناح ويبكى عليها.
يا ليت شعري أيّ خيرٍ لم تعدمه بانفصالك من الله تعالى الذي هو الخير الأقصى. فإن كان معلوماً ومؤكداً أنك في سني حياتك السالفة قد عملت شيئاً من الخير والصلاح وعشت عيشة مسيحية مؤدية إلى الخلاص، لكنك عدمت ذلك وغيره من الخيرات التي عدمتها ولم يعد يذكر لك ذلك الصلاح. كما يقرّر حزقيال النبي بقوله “إن البار إذا نكص راجعاً عن برّه واقترف الإثم مثل المنافق فإن كلّ برّه الذي صنعه لا يذكر أبداً. بل إنه يموت في خطاياه التي أخطأها”. فيا له من حكم قطعي مرهب. ويا لها من شهادة صريحة مرعبة، تكفي لإذابة كل قلب بالبكاء والدموع. وذلك أن الأعمال الصالحة السالفة عدمت كلّها. فإذا دهم الخاطئ المسكين موت فجائي، فلا يبقى له في تلك النار المؤبدة سلوةٌ أصلاً، ولا يعود له ثواب ولا أجرٌ أبداً. بل إنما تبقى له الفضيحة والخزي من الخطية التي يموت فيها. فيا لها من مصيبة تستوجب النوح والبكاء. ويا لها من تعاسةٍ لا سلوة لها ولا عزاء.
يا ليت شعري إذا اتفق لأحد الفلاحين أن يفلح أرضاً، وينصبها كرماً، ويسحبها باذلاً في ذلك الأتعاب الكثيرة والأعراق الغزيرة. وبعد أن ينفق النفقات ويتكبد الأتعاب والمشقات على ذلك الكرم يراه يبس وجفّ بغتةً، إما من هبوب الرياح العاصفة أو من سقوط البرد عليه أو من عارضٍ آخر من الأعراض. فكم من العبرات الوافرة يذرف من مقلَتَيْه؟ وكم من التحسرات المؤلمة والتنهدات العميقة يبدو من صميم فؤاده؟ والحال أن الخاطئ لم يُعدم كرماً بل قد عدم السماء نفسها وفقد الملكوت الأبدي بعينه. وهو حتى الآن لم يشعر أين هو؟ ولم يسمع النبي القائل “الويل للمنافق لأنه ستعرض له أحوالٌ شريرة حسب أعمال يديه”.

Leave a comment