محبة الأعداء: تعليم القديس سلوان الآثوسي

محبة الأعداء: تعليم القديس سلوان الآثوسي

جان كلود لارشيه

نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي

 

مع أنّه من الطبيعي والاعتيادي أن نحبّ الذين يحبوننا وأن نعامل بالمعاملة الحسنة الذين يعاملوننا كذلك (متى 46:5-47، لوقا 32:6-33)، فإن طبيعتنا تشمئز من محبة أعدائنا. يمكن أن يقول المرء أنّ ذلك ليس بمقدورنا بل هو موقف ممكن فقط كثمرة للنعمة معطاة من الروح القدس. لهذا السبب يكتب القديس سلوان الآثوسي: “النفس التي لم تعرف الروح القدس لا تفهم كيف يحب الإنسان أعداءه، ولا تقبل ذلك”.
كان الشيخ يردد دائماً أن محبة الأعداء مستحيلة من دون النعمة: “أيها السيد، أنتَ أعطيت الوصية بمحبة الأعداء، لكن هذا صعب علينا نحن الخطأة من دون أن تكون نعمتك معنا”؛ “من دون نعمة الله لا يمكننا أن نحب أعداءنا”؛ مَن لا يحب أعداءه، لا تكون نعمة الله معه”؛ “مَن لم يتعلّم أن يحبّ من الروح القدس، بالتأكيد سوف لن يصلّي من أجل أعدائه”. على العكس، يعلّم القديس سلوان دائماً أنّ هذا الموقف هو عطية من الروح القدس: “لقد أوصانا السيّد بأن نحب أعداءنا، والروح القدس يكشف لنا هذه المحبة”؛ “يمكن للمرء أن يحبّ أعداءه فقط بنعمة الروح القدس”؛ “عندما تحبّ أعداءك، اعرفْ أن نعمة إلهية عظيمة سوف تحيا فيك”.
لا تنفجر هذه النعمة فجأة في النفس، بل بالأحرى تظهر نفسها بتربية إلهية، آخذة في الحسبان ضعف الإنسان وصعوباته. يعلّمه الروح القدس تدريجياً أن يحبّ ويلقنّه كلّ المواقف والسبل التي تتيح له أن يحبّ. “يعلّمنا الروح القدس أن نحبّ حتّى أعداءنا”. “يلقّن الروحُ القدسُ النفسَ محبةً عميقة للإنسان وحنواً على التائهين. الربّ يشفق على المنسيين… الروح القدس يعلّم الحنو نفسه على الذين يذهبون إلى الجحيم”؛ “لم يكن ممكناً لي أن أتحدّث عن هذه المحبة لو لم يعلّمني إياها الروح القدس”؛ “الربّ علّمني أن أحبّ الأعداء… الروح القدس علّمني أن أحب”.
تظهَر نعمة الروح القدس لمَن عنده طريقة محبة أعدائه. لكنّها أيضاً تكشف له أساس هذه المحبة: محبة الله لكلّ الناس وإرادته بأن يخلصوا: “ما من إنسان يعرف من ذاته ما هي المحبة الإلهية إن لم يعلّمه الروح القدس؛ لكن في كنيستنا تُعرَف المحبة الإلهية من خلال الروح القدس، وهكذا نحن نتكلّم عنها”. النعمة أيضاً “تعطي الإنسان القدرة والقوة على محبة أعدائه، والروح القدس يعطينا القوة على محبتهم”.
يشدد الشيخ سلوان على أنّه لكون محبة الأعداء هي ثمرة النعمة، من الجوهري أن تُكتَسَب بالصلاة. وهو يكرر مراتٍ عديدة دعوته لنا لأن “نسأل الرب من كلّ كياننا أن يعطينا القوة لمحبة كل البشر”. وهو ينصحنا أيضاً أن نصلّي لوالدة الإله والقديسين: “إذا كنا عاجزين [عن محبة أعدائنا] وإذا كنا بلا محبة، فلنستدر نحو الرب بصلوات حارّة، إلى والدته الكلية الطهارة، ولجميع القديسين، والرب سوف يساعدنا في كل شيء، هو الذي محبته لنا لا تعرف الحدود”. يعترف القديس أنّه شخصياً يصلّي إلى الله من أجل هذا الأمر: “أنا أتوسّل الله باستمرار ليعطيني محبة الأعداء… في النهار والليل أسأل الربّ هذه المحبة. الربّ يعطيني دموعاً وأنا أنوح من أجل كلّ العالم”. في محبته الكونية يتمنّى أن يحصل كلّ البشر على هذه العطية، وهو يربطهم بنفسه في صلاته: “أيها السيد، علّمني بروحك القدوس أن أحبّ أعدائي وأصلّي من أجلهم بدموع… يا ربّ، كما صليّت من أجل أعدائك، هكذا علّمني أيضاً، بالروح القدس أن أحبّ أعدائي”.
مع ذلك، اكتساب نعمة محبة الأعداء تفترض مسبقاً شروطاً أخرى.
إن محبة الأعداء مرتبطة كلياً بمحبة الله: لقد رأينا أنّ الأساس الأوّل لمحبة الأعداء هو المحبة التي يظهرها الله لكل خلائقه بالتساوي وإرادته بأن يخلص الكلّ، وقد أعطانا المسيح مثالاً كاملاً عن هذه المحبة طوال حياته على الأرض. محبة الله تقود الإنسان إلى إتمام مشيئته والتمثّل به قدر المستطاع، وإلى محبة الأعداء أيضاً. يشير الشيخ أيضاً إلى أنّ مَن لا يحبّ أعداءه يظهِر أنّه لم يتعلّم محبّة الله من الروح القدس.
محبة الأعداء مرتبطة أيضاً بالتواضع. كثيراً ما يربط الشيخ بين هاتين الفضيلتين. تقريباً، كلّ الصعوبات التي نواجهها في محبة أعدائنا مرتبطة بالكبرياء: من الكبرياء يجري الحزن الذي ينتج عن الإهانات، الكراهية، المزاج السيئ، الضغينة، الرغبة بالانتقام، احتقار القريب، رفض المسامحة والمصالحة. الكبرياء تقصي محبة الأعداء، ومحبة الأعداء تقصي الكبرياء: “إذا أحببنا أعداءنا، لن يكون للكبرياء مكان في نفسنا”. حقيقة أنّ التواضع يسير يداً بيد مع محبة الأعداء تبرهن وجود النعمة وأصالة المحبة: “إذا كنت متحنناً على كل الخلائق ومحبّاً لأعدائك، وإذا كنت في الوقت نفسه تعتبر نفسك الأكثر حقارةً بين كل الناس، تؤكّد أنّ نعمة الله العظيمة فيك”.
بالواقع، التواضع هو الشرط الذي لا غنى عنه لاكتساب النعمة والحفاظ عليها، هذا النعمة التي تعلّمنا أن نحب أعداءنا وتعطينا القوة لذلك. ينصح الشيخ: “واضع نفسك، من ثمّ النعمة تعلّمك”. من جهة أخرى، “الكبرياء تجعلنا نخسر النعمة… من ثمّ تتعذّب النفس بالأفكار السيئة ولا تفهم أنّ على الإنسان أن يتّضع ويحبّ أعداءه، إذ من دونها لا يمكنه أن يرضي الله”.
يشدد الشيخ أحياناً على الدور الذي تلعبه الندامة في ما يتعلّق بالتواضع. فهو يعلّم: “أنظر إلى نفسك وكأنك الأسوأ بين البشر”. هذا موقفُ اتّضاعٍ كبير يتضمّن بطبيعته التوبة. مَن يعتبر نفسه الأسوأ بين الناس، على الأكيد يعتبر الآخرين أفضل منه، سوف يحكم على نفسه ويلومها، بدل أن يحكم على أعدائه وينتقدهم، لأنّه ينحو نحو اعتبارهم أفضل من ذاته.
يعطينا الشيخ أيضاً مثالاً عن موقف توبيّ آخر: الاستغفار في كل مرة لا يحب الإنسان أعداءه: “إذا حكمتُ على أحد ما أو نظرت إليه بغضب، تنشف دموعي وأسقط في القنوط؛ ومجدداً أروح أسأل الرب أن يغفر لي، والرب الرحوم يغفر لي أنا الخاطئ… من خلال هذا الموقف، الذي به تعترف النفس بتواضع أمام الله بأخطائها وتقصيراتها، وتحصل على الغفران منه، يمكن فتح ثغرة، سوف تكبر وتكبر، للنعمة والتقدم المستمر نحو الله. أمّا الغياب الكامل للشفقة على الأعداء فهو يظهر وجود الروح الشرير وعمله، والسبيل الوحيد للتحرر منه هو التوبة الصادقة”.
يظهِر التشديد على الصلاة والتواضع والتوبة أنّ، بالرغم من اعتراف القديس سلوان بالدور الحاسم لعمل النعمة في اكتساب محبة الأعداء، لا يهمل الدور الذي تلعبه الجهود التي يقوم بها الإنسان. يعي الشيخ جيداً أهمية العمل الأصيل ولهذا يقول: “أرجوكم أن تجرّبوا” ويعلن “في البداية اجبروا قلبكم على محبة أعدائكم”. فالجهود التي يقوم بها الإنسان يجب أن تظهِر، في ذاتها وبطريقة عامّة، نيّة مستقيمة وإرادة طيبة ثابتة، ممتدة نحو تحقيق وصية الله. والله سوف يستجيب على الأكيد.
القديس سلوان يؤكّد للشخص الذي تثبط همّته بسبب هذه المهمّة المتطلّبة: “إذ يرى الرب نيّتك الحسنة يساعدك في كلّ شيء”. فالشيخ الذي أحسّ بشكل حادّ في نفسه بالوهن البشري والضعف، يبدو أنّه يفكّر باستمرار بكلمات الرسول: “أستطيع أن أقوم بكلّ شيء بالمسيح الذي يعطيني القوة” (فيليبي 13:4) ويشهد بخبرته الذاتية على المعونة الإلهية التي بمقدور كلّ إنسان أن يحصل عليها من الله.

لا أعداء بالنسبة للمسيح

يقول الشيخ أن لا أعداء للمسيح، إذ يوجد أولئك الذين يقبلون “كلمات الحياة الأبدية”، كما يوجد أولئك الذين يرفضون وحتّى يصلبون. لكن بالنسبة لخالق كلّ حيّ، لا يمكن أن يكون هناك أعداء. هكذا يجب أن يكون الأمر بالنسبة للمسيحي أيضاً، “بحنو على الجميع يجب أن يسعى إلى خلاص الجميع”.
إذاً، أين تكمن قوّة الوصية “أحبّوا أعداءكم”؟ لماذا قال السيد أنّ الذين يحفظون وصاياه سوف يعرفون من خبرتهم من أين تأتي العقيدة؟
… الله محبة، غامرة لكل الخلائق بغزارة مفرِطة. بالسماح للإنسان أن يعرف فعلياً هذه المحبة، يكشف له الروح القدس الطريق نحو كمال الكينونة. أن كلمة “عدو” تتضمّن الرفض. بهذا الرفض يسقط الإنسان من كمال الله… يكتب الشيخ: “كلّ جنّة القديسين تحيا بالروح القدس، وعلى الروح القدس لا شيء من الخليقة يختبئ”. “الله محبة والروح القدس في القديسين هو محبة. كونهم يسكنون في الروح القدس، يرى القديسون المحبة ويضمونها أيضاً في محبتهم”.
… من المستحيل الحكم ما إذا كانت حالة ما من المعاينة حقيقة أو وهم، بعد أن تكون النفس قد عافت وعيها للعالم. فحينها، كما يشير الشيخ، إن لم يكن هناك محبة للأعداء ولكل الخليقة، فهذا يكون إشارة حقيقية إلى أنّ المعاينة المزعومة لم تكن شركة حقيقية مع الله.

Leave a comment