الهرطقة بحسب الأب يوحنا رومانيدس

الهرطقة بحسب الأب يوحنا رومانيدس

الميتروبوليت ييروثيوس فلاخوس

نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي

منذ تأسيس الكنيسة ظهرت هرطقات مختلفة وعالجتها الكنيسة بالشكل المناسب من خلال تقليدها المجمعي. الهرطقة يصوغها شخص واحد أو جماعة من الأشخاص، الذين يروجون لتعاليم مختلفة وهكذا ينشؤون مجموعات هرطوقية، تكون في البداية فاعلة ضمن الكنيسة وفي النهاية تترك الكنيسة وتصير فاعلة خارجها، إضافة إلى أنها تجاهد ضد الإيمان المعلَن.

تتضمّن عبارة هرطقةنظرة منحرفة عن تعليم الدين الرسمي، وتعليم الكنيسة. بتعبير آخر، إنها نوع آخر من التعليم. في رسالته إلى شيوخ أفسس، أشار الرسول بولس إلى الهراطقة الذين سوف ينشأون ضمن الكنيسة: “لأَنِّي أَعْلَمُ هذَا: أَنَّهُ بَعْدَ ذِهَابِي سَيَدْخُلُ بَيْنَكُمْ ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ لاَ تُشْفِقُ عَلَى الرَّعِيَّةِ. وَمِنْكُمْ أَنْتُمْ سَيَقُومُ رِجَالٌ يَتَكَلَّمُونَ بِأُمُورٍ مُلْتَوِيَةٍ لِيَجْتَذِبُوا التَّلاَمِيذَ وَرَاءَهُمْ.” (أعمال 29:20-30).

كما يشير أيضاً الرسول بولس إلى الهرطقات التي انتشرت حتّى في كنيسة الفترة الأولى: “لأَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَكُمْ بِدَعٌ أَيْضًا، لِيَكُونَ الْمُزَكَّوْنَ ظَاهِرِينَ بَيْنَكُمْ.” (1كورنثوس 19:11). إن ظهور الهرطقات يجرّب المسيحيين ويمتحنهم لأنه يكشف ثباتهم.

في رسالة أخرى، يشير الرسول إلى وجوب مواجهة الهرطوقي: “اَلرَّجُلُ الْمُبْتَدِعُ بَعْدَ الإِنْذَارِ مَرَّةً وَمَرَّتَيْنِ، أَعْرِضْ عَنْهُ. عَالِمًا أَنَّ مِثْلَ هذَا قَدِ انْحَرَفَ، وَهُوَ يُخْطِئُ مَحْكُومًا عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ.” (تيطس 10:3-11).

عالجت الكنيسة الأولى الهرطقات شخصياً كما مجمعياً. جابه الرسول بولس في رسائله الكثير من هذه التعاليم الأخرى، لكن الكنيسة نفسها عقدت مجمع الرسل في أورشليم لتعالج طريقة إدخال اليهود الراغبين بالمعمودية إلى الكنيسة (أعمال 6:15-29). هذا المجمع الرسولي الأول صار نموذجاً لكل المجامع التي تمّ عقدها لاحقاً في الكنيسة

الهرطقة، في علاقتها بالتعليم العقائدي للكنيسة الأرثوذكسية، هي بالعادة تعليم مختلف مجمّع ومُصاغ بعقائد أخرى. لكن، مع الأخذ بعين الاعتبار أن العقائد (أي التعاليم النظرية) مرتبطة بالحياة والممارسة، تكون الهرطقة مرتبطة بطريقة حياة الذين يبشرون بها. مثلاً، الرأي بأن الكلمة (Logos) هو خليقة الله الآب، يعني أن مَن يعلّم هكذا، لا يملك معرفة روحية حقيقية لله، لأنه لو كان بالحقيقة لاهوتياً، معايناً لله، لكان يعرف أن المسيح كإله هو غير مخلوق، لأن مجد الطبيعة الإلهية غير مخلوق. وعليه، إنه مجرّد متفلسف، منظّر، وليس معايناً لله.

الهرطقة عادةً تحدّ ذاتها بالتعليم النظري، والهرطوقي هو ذلك الذي ينحرف عن العقائد التي ثبتتها الكنيسة. مع ذلك، علينا أن نتفحّص الهرطقة من جهة بعدِها الداخلي؛ لأن، تماماً كما أن العقائد هي تعبير عن الإعلانات والالتزام بالعقائد يقود إلى الاختبار، كذلك الهرطقات هي انحرافات عن الإعلانات وفي الوقت عينه خراب الطريق إلى التألّه. إنها كمثل مستشفى عاجز عن علاج الإنسان.

عندما تواجه الكنيسة هرطقة، المعيار هو أن الهرطقة هي كل ما ينقلب على خبرة العنصرة، حين أعلِن ملء الحقيقة، إنها عندما ينقطع مسار الإنسان نحو التألّه. لهذا السبب تكون الهرطقة خطرة.

إن الانقلاب على خبرة العنصرة يتمّ لأن الهراطقة ينكرون تعليم آباء الكنيسة المستنيرين بالله، أي بالتخلي عن الحقيقة المعلَنة هم يتّكلون بشكل أساسي على منطقهم وتخمينهم.

إنهم يبدلون التقليد، استناداً إلى أشكال منطقية ألّفوها بأنفسهم. إنهم يظهِرون ثقة بمنطقهم الذاتي أكبر من الثقة بخبرة معايني الله، لهذا هم يتصوّرون الأشياء بمنطقهم ويربطونها بالحقيقة العائدة لله. كل الهرطقات مشتقة من نوع الأساس الخاطئ هذا.

هذا يعني أن الهراطقة يتّكلون على فلسفتهم المفعمة بالأفكار والتخمينات والتخيلات، ولا يتّكلون على إعلانات الله. وكونهم يتّكلون على المبادئ الفلسفية هم بالحقيقة ينكرون التعليم الذي يؤدّي إلى معاينة الله.

ليست الأريوسية هرطقة من جانب العلم النظري والتخمينات السيئة وحسب. إنها هرطقة لأنها تسعى إلى هدم التعليم عن التألّه. إنها تعجز عن فهم جوهر التألّه والعلاقات بين المخلوق وغير المخلوق وغيرها. إلى هذا، لا يمكن للهرطقة أن تحوّل العقيدة إلى خبرة لأن عقيدتها تبقى دوماً خبرة سيئة لا يمكن أن تكون خبرة التألّه. وإذا راقب الإنسان كل الهرطقات، سوف يفهم بديهياً أن معايير الهرطقة روحية. الهرطقات هرطقات لأنها لا تقود الإنسان إلى حيث ينبغي. ولا يمكن للهرطقة أن تقود الإنسان إلى الحياة الروحية اللائقة.

تنبع الهرطقة من غياب الطهارة الروحية (κάθαρσης) والاستنارة. عندما لا يكون الإنسان مستنيراً، يكون خطر وقوعه في الهرطقة وشيكاً، لأنه سوف يخلط بين الله وأفكاره الشخصية عن الله.

لا يمكن أن يتوصّل الهرطوقي إلى معرفة الله، لأنه لا يعرف طريقة معرفة الله (Θεογνωσία). لكل علم نظريته التي يثبّتها اختبارياً والتحقق من كل تجربة يقود إلى تلك النظرية نفسها.

لا يملك الهرطوقي طريقة التطهر والاستنارة والتمجيد، ولهذا يستحيل أن يتعلّم الإنسان طريقة التألّه منه. تتألّف الهرطقة من العجز عن التمييز بين قوى المخلوق وغير المخلوق؛ أيضاً، إنها تنبع من نوس مظلِم. ولأن الفكر مظلم يتفكّر الإنسان لاهوتياً بحسب ما يتخيّله وما يعاينه. ومع ذلك، اللاهوت الآبائي ليس من النوع المولع بالتأمّل. الآباء الروحيون لا يخمنون وحسب؛ ولو كانوا كذلك لما كان هناك أي سبب لأي كان لينجو من الشيطان، بينما النجاة من مكايد الشيطان ممكنة.

لا تختص الهرطقة بالأمور العقائدية وحسب، بل أيضاً بالسلوك الروحي. مثلاً، تقسيم الحياة المسيحية إلى نظرية (عقيدة) وتطبيق (نسك) هو وهم. هناك مَن يقبلون العقائد ويرفضون متطلبات العقيدة.

“Empirical Dogmatics of the Orthodox Catholic Church according to the oral lessons of Fr. J. Romanides” – Vol.B