“انزل الآن عن الصليب”

“انزل الآن عن الصليب”

الأب سيمون كرايوبولوس
رئيس دير الثالوث القدّوس (بانوراما – سالونيك)

نقلها عن اليونانيّة جورج أ. يعقوب

التجربة الكبرى

 

لا يمكننا أن نتجاهل قول القدّيس لونجينويس قائد المئة الذي رأى كلّ شيء وعاين كلّ شيء، عند صليب المسيح وقال : “حقاً إنّه ابن الله”. والمقطع الإنجيلي الذي يحوي هذا الحدث يتكلّم عن الصليب ويقول: “وضَفَروا إكليلاً مِنْ شَوكٍ ووضَعوهُ على رأسِهِ، وجَعَلوا في يَمينِهِ قصَبَةً، ثُمَّ رَكَعوا أمامَهُ واَستَهزأوا بِه فقالوا: <السّلامُ علَيكَ يا مَلِكَ اليَهودِ!> وأمسكوا القصَبَةَ وأخَذوا يَضرِبونَهُ بِها على رأسِهِ وهُم يَبصُقونَ علَيهِ. وبَعدَما اَستَهزَأوا بِه نَــزَعوا عَنهُ الثَّوبَ القِرمِزيَّ، وألبَسوهُ ثيابَهُ وساقوهُ ليُصلَبَ. وبَينَما هُمْ خارِجونَ مِنَ المدينةِ صادَفوا رَجُلاً مِنْ قَيرينَ اَسمُهُ سِمْعانُ، فسَخَّروهُ ليَحمِلَ صَليبَ يَسوعَ. ولمّا وصَلوا إلى المكانِ الَّذي يُقالُ لَه الجُلجُثَةُ، أي <مَوضِعُ الجُمجُمَةِ> أعطَوْهُ خَمرًا مَمزوجَةً بِالمُرَّ، فلمّا ذاقَها رفَضَ أنْ يَشرَبَها. فصَلبوهُ واَقتَرعوا على ثيابِهِ واَقتَسموها. وجَلَسوا هُناكَ يَحرُسونَه. ووضَعوا فَوقَ رأسِهِ لافِتَةً مكتوبًا فيها سَببُ الحُكمِ علَيهِ: <هذا يَسوعُ، مَلِكُ اليَهودِ>. وصَلَبوا مَعهُ لِصَّينِ، واحدًا عَنْ يَمينِهِ وواحدًا عَنْ شِمالِهِ. وكانَ المارةُ يَهُزّونَ رُؤوسَهُم ويَشتِمونَهُ ويَقولونَ: <يا هادِمَ الهَيكَلِ وبانِـيَهُ في ثلاثَةِ أيّامِ، إنْ كُنتَ اَبنَ الله، فخلَّصْ نفسَكَ واَنزِلْ عَنِ الصَّليبِ>. وكانَ رُؤساءُ الكَهنَةِ ومُـعلَّمو الشّريعَةِ والشٌّيوخُ يَستهزِئونَ بِه، فيَقولونَ: <خَلَّصَ غيرَهُ، ولا يَقدِرُ أنْ يُخلَّصَ نفسَهُ! هوَ مَلِكُ إِسرائيلَ، فلْيَنزِلِ الآنَ عَنِ الصَّليبِ لِنؤمِنَ بِه!>” (متى 29:27-42).
التجربة الكبرى “انزل عن الصليب” (بالطّبع الربّ يسوع لم يكن بحاجة إلى هذه التجربة ولا يمكن لمثلها أن توثّر به). هذه التجربة هي لكلّ واحد منّا، “انزل عن الصليب”. نعتقد أنّ هذه التجربة تأتي من الآخرين ولكنّها بالحقيقة منّا، إنّها تأتي من ذاتنا، إنّها صرخة تأتي من داخلنا ! من قرّر أن يؤمن بالمسيح وأن يتبعه، عليه أن يُصلب وهذا لا يحصل بطريقة أخرى: عليه أن يحمل صليبه.
النصّ الإنجيلي يحتوي أقوال السيّد التالية: “مَنْ أرادَ أنْ يَتبعَني، فلْيُنكِرْ نَفسَهُ ويَحمِلْ صَليبَهُ ويتبَعْني، لأنَّ الَّذي يُريدُ أن يُخلَّصَ حياتَهُ يَخسَرُها، ولكنَّ الَّذي يخسَرُ حياتَهُ في سبـيلي يَجِدُها”. (متى 24:16-25)
إذاً الإنسان يتبع المسيح ناكراً ذاته وحاملاً صليبه وعكس ذلك هو “كذب”. إذا قرّرتَ حقّاً أن تتبع المسيح فالطريق هو أن تنكر نفسك وتحمل صليبك، بطريقة أو بأخرى عليك أن ترتفع على الصليب. هناك ارتفع السيّد على الصليب، هناك حصل كلّ شيء: هناك صُلب وأمات الخطيئة، هناك أبطل الخطيئة والموت وداس الجحيم. من يريد أن يجد المسيح عليه أن يُصلَب. السيّد سيقود الأمور بهذه الطريقة دائماً، عليك أن تصير ناكراً لذاتك وحاملاً صليبك.
المشكلة بالنسبة للمسيحي هي التالية: هل سأبقى هناك مُسمّراً على الصليب؟ وليس هذا فقط، بل يسعى بقدراته البشريّة أن يعمل ما يؤدّي بطريقة إلى ما يشبه النزول عن الصليب – يترجّى السيّد المسيح في صلاته أن يفكّ مساميره ويُنزله عن الصليب.
هذه صرخة ملازمة للإنسان. الكلّ: الأصدقاء، المعارف، حتّى نفسك ستقول دائماً لك: “انزل عن الصليب، انزل عن الصليب!! لا تَصلُب نفسك ! دعهُ عنك ! عِشْ حياتَك !”. هذا الموضوع وما يحدث مع الناس ليس بفلسفة ولا لأمثلة ولا لأيّ شيء أخر إنّه واقع.
هي دعوة كبيرة كما كان الحال مع السيّد المسيح: “إن كنت ملك إسرائيل انزلْ الآن عن الصليب ! خلّصت آخرين ونفسك لا تقدر أن تُخلّصها ؟”.
هي دعوة تجربة ! إذاً من يُصلب، من يتألّم، كيفما كان ألمـُه، كيفما كان موتُهُ الذي يُعانيه فوق الصليب عليه أن يكون واثقا وعلى الرجاء انّه سيتعزّى. ولكن التجربة تأتي من الإنسان، وتكون في بعض المرّات دعوة تجربة قاسية، تماثل التجربة التي دُعي المسيح لعيشها “قال له: أعطيك هذه جميعها إن خررتَ وسجدت لي” (مت 9:4)
نحن نعرف أن المسيح قد أتى ليأخذ العالم من بين يدّي الشيطان، لكي يُخلّص العالم خاصّته. ولكن للشيطان سلطان على العالم من جهة الخطيئة. بهذا المعنى قال:” إن سجدت لي أملّكك كلّ أقاصي الأرض”. هذا لم يرده الربّ يسوع المسيح ! أخذ العالم من يدّي الشيطان، ولكن في الأخير، وانتصر على الشيطان. لقد انتصر على الشيطان وربح العالم. لم يترجّاه البتّة ولم يسجد له ولم يتملّقه ولكن بالصليب انتصر على قوّة الخطيئة وكلّ عملها ونتائجها. انتصر وهو مصلوبٌ على الصليب وليس بوسائل أخرى.
هكذا يستطيع أن يفهم كلّ واحد منّا أنّنا نحن المسيحيين لا نملك أدنى فكرة عن ماذا تعني “حياة مسيحيّة حقيقيّة”. لا نملك أدنى فكرة !! للأسف كيف استطعنا أن نصنع المسيحيّة كما نريد ونشتهي؟! لذلك عندما لا نفهم الأمور بشكل جيّد، عندما لا نفهم مسيحيّتنا بشكل حقيقي (مع كوننا مسيحيين ونقوم بأعمال عديدة وكثيرة وعجيبة) يبقى عملنا هذا متصفٌ بـِ:” أعطيك كلّ شيء إن تسجد لي”.

الصليب هو موت، أنت لست بشيء ولا تنجح بشيء ، أصلب ذاتك

عندما يُصلب الإنسان يتألّمّ، ويتألّم بالفعل. فالصليب فيه موت، ليس الصليب مجرّد “لبكة”. إنّه دعوة تجربة كما العديد من التجارب الشيطانيّة الناتجة من الناس. ولكن هذه الدعوة، دعوة التجربة هي من داخل الإنسان أيضا، من ذاته.
الإنسان الذي يختار أن يتبع المسيح وأن يُصلب -أن ينكر نفسه ويُصلب- يموت من جهة العالم. نعم يموت. تذهب المراكز، ينعدم التكريم، الأحلام والأهداف والمخططات ، كلّها تزول كالأمواج. سيقولون له: ماذا تفعل، في العالم ستنجح إن فعلت هذا وذاك… تذوّق الحياة والنجاح. سيراك الكلّ ناجحاُ وسيعرفون انّك “شي مهم”! ولكن من اختار الصليب عليه أن يعرف انّه سيموت!
الصليب موت، الكلّ يُطفئ. أنت لست بشيء ولا تنجح بشيء! اصلب ذاتك!
تخيّلوا كم كان سيفاجئ كلّ هؤلاء الكتبة ورؤساء الكهنة وكلّ الذين كانوا يجدّفون تحت الصليب على المسيح قائلين له “إن تنزل عن الصليب نؤمن” لو نزل السيّد عن الصليب. كم كانوا سيتفاجئون. لقد كان بمقدور السيّد يسوع المسيح أن يفعل هذا، لقد كان قادراً أن ينزل عن الصليب. أن ينزل أمام أعينهم ويشاهدون نزوله وتحرّره من الصليب ومن ثمّ يعود ويصعد أمام أعينهم من جديد.
الإنسان يجرّب دائماً بهذا النوع من التجارب وبالأخص عندما يتبع المسيح ويجاهد روحياً. فهو في بعض الأحيان يضعف ولا يستطيع أن يحتمل هذا التهميش والاندثار الذي يولّده الصليب، لا يحتمل هذا الموت.
فالكثيرون يقولون والبعض بفكرّ دون أن يعبّر عن ما في ذهنه: “إذا ما فعلنا هذا وذاك نربح الناس ونجعلهم يؤمنون ونجلبهم إلى قربنا، إلخ…” وهذا هو توجّه أغلبية الحركات المسيحيّة في كلّ أشكالها وظهوراتها. فهي في كلّ جهودها تعمل بهذه الطريقة والمنطلق: “يجب أن لا نخسر الناس يجب أن لا يهرب العالم…” دائماً نُسلّم إيماننا وننشقّ فيما بيننا من دون أن نقول الحقيقة. لأننا إن قلناها فهي مرُّة وسيهرب العالم ولن يبقى أحد.
من منّا يحاول أن يفهم الأمور بهذه الطريقة ويأخذها من وجهة النظر هذه ومن هذا المنحى من التفكير؟
فكما أن المسيح قد صُلب وأُطفئ من قبل مجتمعه ومن قبل الجميع هكذا نحن. المسيح صُلب وأطفئ هناك على الصليب. أُطفئ لأنّه لم يفعل شيئاً ممّا انتظروه منه، أُطفئ أمام أعينهم بالحقيقة: إنّه أسلم نفسه لهؤلاء المتعدّي الشريعة، الذين فعلوا ما شاءوا به ، صلبوه . مات، “خَلَص، خِلِص!”.
نعم ومات و”خْلِصْنا منّو” بنظرهم ولكن بهذا كان الانتصار على العدو، بهذا كان الانتصار على الشر، الانتصار على الخطيئة. بهذا كان موت الخطيئة ، موت الشيطان وقيامة الحياة الأبديّة.
للأسف نحن لا نتبع المسيح ولا نفهمه !!! نحن نتبع أنانا !!!! نعم كلّ واحد منّا يتبع نفسه!
نحن لا نتبع المسيح، نحن لا نفهمه. نريد أن نذهب من طريق آخر وأن نصل إليه من خلال طرق معوجّة نتوهّم إنّها توصلنا إلى المسيح. ولكن الطريق الحقيقي هو أن تُصلب، أن تمرّ بالتجارب وبالأخصّ من نفسك ومن الآخرين: “انزل عن الصليب! اترك الصليب!” لكن أنت هناك عليك ألا تكترث لمثل هذه الدعوات، عليك أن لا تسمعها ولا تتعاطف معها ومع ما يقال وأن لا تفكر البتّة قائلاً في قرارة نفسك: “إن فعلتُ وأشدتُ بنفسي وقمتُ بتلك الاتفاقية أنجح بهذا وبذاك وسأتمكن من أن اخلّص العديد من الناس”. بل عليك أن تموت، عليك أن تُصلب. إنّك ستنتصر على التجربة وأنت مجرّب بصرختها الخائبة “انزل ! انزل عن الصليب”.

عندما تُصلب مع المسيح تموت الخطيئة وأنت تحيا

ألم يكن المسيح قادراً أن ينزل عن الصليب؟ الموضوع لا يتعلّق بكونه مسمّراً، فإنّ الإمساك بالمسيح بواسطة المسامير على الصليب ولم يستطع أن ينزل ينظر إليه من وجهة نظر بشريّة: “إنّه معلّق على الصليب بالمسامير ولا يستطيع أن ينزل” الموضوع ليس بهذا! الموضوع هو أنّ المسيح نفسه لم يرد أن ينزل حتّى ولو فكّوا مساميره! المسيح لم يرد أن ينزل عن الصليب!”
هذا هو عمق عمل المسيح، هذا هو عمق الحياة المسيحيّة، هذا هو عمق الحياة التي يجب أن نحبّها ونتبعها. كلّ واحد منّا عليه أن يتخلّص من المقولة : “آخ.. إنّ هذا لصعب!”
للأسف مشكلتنا هي مع الخطيئة! الخطيئة تعذبنا، تضطهدنا. هذه الخطيئة التي فينا والتي نهتمّ بها نغذيها ونشبعها ونقوّيها ونزيدها ثباتاً. فهي تضطهدنا وستعذبنا إلى الأبد. فالمعلوم أن الإنسان أخطأ والخطيئة تغمره. وهذه الحقيقة هي حقيقة محتمّة ولا مفرّ منها. الإنسان لا يستطيع أن يتخلّص من الخطيئة إن لم يقرّر أن ينكر نفسه، أي ببساطة أن يموت.
الخطيئة ليست شيئاً يمكننا أن نأخذه وبعد فترة نقرّر أن نتركه. فهي بطبعها تدخل فينا وتتجذّر بسرعة وتغمرنا بالكليّة، جاعلةً إيّانا واحداً معها بدل أن نكون واحداً مع المسيح. لهذا السبب يجب أن نموت. عندما تُصلب مع المسيح، هذه الخطيئة ستبقى ميتةً وجثّةً هامدة ولا تقدر أن تفعل شيئاً البتّة. وبالمقابل أنت ستقوم وستنهض، المسيح سينهضك!
من هنا، كلّ من له هذه القدرة وهذا التوجّه عليه أن يتابع مسيرته. العديد من الناس يسيرون ويتقدّمون في مسيرتهم ولكن عند أوّل هبوب ريح، عند أوّل دخول للعدوّ يسلّمون كلّ أسلحتهم للعدو وينزلون عن الصليب. إنّها مصيبة!! بالفعل مصيبة! بهذه الطريقة، وللأسف، تذهب حياتهم سُدىً.
بالطبع الله يعرف ماذا سيفعل مع كلّ واحد منّا وهذه هي الحقيقة التي علينا أن نفهمها وأن نعيشها. وهذا يعني الإيمان بالمسيح. وأن نؤمن بالمسيح يعني أن نؤمن بكلّ ما يقوله! بكلّ ما يقوله! هذا سيحدث عندما نشعر أننا ضعفاء عندما نستودع روحنا في يديه.
لنحاول إذاً أن نكسر هذه الطريقة الخاطئة في التفكير التي تبعدنا عن طريق الرب يسوع وتمنعنا عن أن نُصلب مع المسيح وأن نكون قياميين كما يريدنا ربنا يسوع المسيح القائم من بين الأموات بعد أن كابد الصلب ورفض أن يسمع هتاف :”انزل الآن عن الصليب”.

Leave a comment