في الإيمان

في الإيمان

الراهب نيكيفورس ثيوطوكي

إعداد راهبات دير مار يعقوب الفارسي المقطّع، دده – الكورة

 

عظيمة هي قوّة الإيمان، وعجيبة هي نتائجه، وربح المسيحيّ منه لا يُحدّ، لأنّه يخوّلنا حياة خالدة وملكاً أبديّاً. فإنّ الكتاب يقول: “لكي تكون لكم إذا آمنتم حياة باسمه” (يو 31:20). وفي موضع آخر يقول: “آمن بالربّ يسوع المسيح فتخلص أنت وأهل بيتك” (أع 31:16). وفي موضع آخر يقول: “من آمن واعتمد خلص” (مر 16:16)، فالإيمان والحالة هذه يخلّص. ويكفي أن يؤمن الإنسان لكي يخلُص. ولكن كيف يقول الكتاب الشريف نفسه “إنّ ابن الإنسان مزمع أن يأتي مع ملائكته وحينئذ يجازي كلّ واحد حسب أعماله” (متى 27:16). وقد قال في موضع آخر: “الذي يجازي كلّ واحد حسب أعماله” (رو 6:2). وقال أيضاً: “فيخرج الذين عملوا الصالحات إلى قيامة الحياة والذين عملوا السيّئات إلى قيامة دينونة” (يو 29:5). فما بال الكتاب المقدّس تارة يقول إنّ الإيمان يخلّص الإنسان، وتارة إنّ الأعمال الصالحة تسبّب الخلاص، وهل أقوال الكتاب المقدّس يناقض بعضها البعض. أيّها الإخوة الأحبّاء لا تضلّوا، فإنّ التعاليم الإلهيّة هي غاية في الاتّفاق. فلا الإيمان وحده ولا الأعمال الصالحة بمفردها، بل اقتران الإيمان والأعمال الصالحة يخلّص الإنسان.
إنّ الإيمان يُقسم إلى قسمين عمليّ ونظريّ. فإيماننا يُدعى نظريّاً إذا آمنّا بتعاليم الإيمان بمجرّد عقلنا فقط بدون أن نعمل عملاً صالحاً. لا مراء أنّ إيماناً كهذا هو ميت وعديم الجدوى، ولا يقدر أن يخلّص الإنسان. قال يعقوب الرسول: “الإيمان إن لم يكن له أعمال هو ميت بذاته… ما المنفعة يا إخوتي إن قال أحد إنّ له إيماناً وليس له أعمال. هل يقدر الإيمان أن يخلّصه” (يع 14:2-17).
وأمّا الإيمان العمليّ فيقوم بأن نؤمن بما يعلّمه الإيمان، وأن نعمل الأعمال التي يفرضها علينا. وهذا هو الإيمان الذي يدعوه بولس الرسول “الإيمان العامل بالمحبّة” (غل 6:5). ومن ثمّ نستنتج أنّ الكتاب الإلهيّ عندما يقول “لكي إذا آمنتم تكون لكم حياة”، وأيضاً: “كلّ من آمن واعتمد يخلص” وما شابه ذلك من الآيات يكون كلامه عن الإيمان العمليّ العامل بالمحبّة أي المقرون بالأعمال الصالحة. وعندما سيقول: “إنّ الله يجازي كلّ واحد حسب أعماله” وما شاكل من الآيات، يريد بقوله “كلّ واحد” كلّ واحد من المؤمنين. وبقوله: “حسب أعماله” أي أعماله الناتجة عن الإيمان. ويحسن بنا أن نلاحظ هنا أنّ بولس الإلهيّ، بتدقيق عظيم جدّاً، يوضح هذا المعنى بواسطة الأمثلة الكتابيّة. فإنّه يمدح إيمان هابيل، ولكنّه يثني أيضاً على أعماله الصالحة أي على قربانه المقبول الذي قدّمه لله تعالى. ويمدح إيمان أخنوخ، ولكنّه يقرّظ أيضاً أعماله الحسنة. ويمدح إيمان نوح غير أنّه يثني أيضاً على جهاده في بناء السفينة. ويمدح إيمان إبراهيم على أنّه يعجب أيضاً من عظم طاعته لله. ثمّ يمدح على التتابع إيمان قدّيسين آخرين كثيرين، ويعظّم عجائبهم، ولكنّه في الوقت نفسه يخبر أيضاً عن أعمالهم العظيمة، ويقرّظ انتصاراتهم العجيبة قائلاً: “آخرون عُذّبوا. آخرون ذاقوا خبرة الهزء والسياط والقيود والسجن أيضاً. رُجموا نُشروا امتُحنوا ماتوا بحدّ السيف. طافوا بجلود غنم ومعز. معوزون مضايقون مجهودون. تائهون في البراري والجبال وثقوب الأرض” (عب 35:11-38). فمن هنا يتّضح لكم جليّاً أنّ الإيمان الخلاصيّ هو المقرون بالأعمال الصالحة. وإنّ الإيمان وحده من دون أعمال هو ميت وعديم الفاعليّة. كيف لا وقد قال يعقوب أخو الربّ صريحاً: “كما أنّ الجسد بدون روح هو ميت هكذا الإيمان بدون أعمال هو ميت” (يع 26:2).
أيّها المسيحيّ، أنت تفتخر بأنّك تؤمن. ولكن ما هو نفع إيمانك وأنت تعمل أعمالاً مخالفة للناموس. فإنّ الشياطين أيضاً يؤمنون ويرتعدون غير أنّهم لا ينتفعون شيئاً. أنت تؤمن أنّ الله قد أنزل الوصايا العشر، وإنّ كلّ من خالف واحدة منها هو بلا محالة سائر إلى العذاب، ومع ذلك نراك كلّ يوم تقريباً بدون خوف ولا حياء تحتقر كلّ وصيّة. فماذا، والحالة هذه، ينفعك إيمانك؟ أنت تؤمن أنّ الله تعالى قد فرض عليك في شريعته أن تحبّه من كلّ قلبك ومن كلّ نفسك ومن كلّ فكرك وأن تحبّ قريبك كنفسك، ثمّ تزدري بالله تعالى بمخالفتك ناموسه، وتظلم قريبك وتضرّه بكلّ طريقة. فما هي الفائدة، والحالة هذه، من إيمانك؟ أنت تؤمن أنّه إن لم يغفر للناس زلاّتهم لا يمكن أن يغفر الله لك خطاياك، ثمّ لأقلّ خطأ يبدو من أخيك تطلب أن تجازيه وتنتقم منه. أنت تؤمن أنّ الله يأمرك أن تحبّ أعداءك، وأنت مع ذلك تبغضهم وتضطهدهم حتّى الموت. فماذا ينفعك إيمانك وأعمالك؟ أنت تؤمن أنّ الله قد أمر قائلاً: “تعلّموا منّي لأنّي وديع ومتواضع القب” (متى 29:11)، وأنت تغضب وتتعجرف، فماذا ينفعك إيمانك؟ أنت تعلم أنّ الفقير يمثّل شخص المسيح، وأنّه مهما فعلته مع الفقير فقد فعلته مع الله نفسه القائل: “مهما فعلتم أحد إخوتي هؤلاء الصغار فبي فعلتم” أتؤمن بهذا؟ تقول نعم، ومع ذلك تنظر الفقير، وتحوّل وجهك عنه، وترى المسكين وبدل الإحسان تشبعه شتائم. فماذا ينفعك إيمانك؟ أنت تؤمن أنّ حياة أخرى أبديّة تنتظرك، ومع ذلك تراك عائشاً مثل أبيقور (وهو فيلسوف يونانيّ نبغ في القرن الثالث قبل المسيح، وكان يذهب إلى أنّ غاية وجود الإنسان في هذا العالم هي التمتّع باللذّات ليس إلاّ)، فما هو نفع إيمانك؟ أنت تؤمن أنّه سيأتي يوم فيه يجلس الله على كرسيّ مجده ليدين المسكونة بأسرها، وإنّ الذين عملوا الصالحات سيذهبون إلى الحياة الأبديّة، والذين اقترفوا السيّئات إلى العذاب الأبديّ، ومع ذلك نراك تهمل أعمال الفضيلة كلّ الإهمال، وتخفّ إلى إتمام الرذائل والخطايا بنشاط. فماذا ينفعك إيمانك وأعمالك؟ بالحقيقة إنّ إيماناً كهذا لا يخلّص الإنسان. وقد قال يعقوب الرسول: “هل يقدر الإيمان أن يخلّصه” (يع 14:2). إنّ إيماناً كهذا هو ميت وناقص. لأنّ الإيمان يأخذ قوّته وكماله من الأعمال الصالحة. وقد قال يعقوب الرسول أيضاً في كلامه على إبراهيم “فترى أنّ الإيمان ساعد أعماله ومن الأعمال أُكمل الإيمان” (يع 22:2). وبالحقيقة إنّ هذا تعليم موحى به من الله وواضح وكلّيّ الصراحة. فإنّ الإيمان يساعدنا في إتمام الأعمال الصالحة، وهذه تخوّل الكمال للإيمان.
أيّها الإخوة الأحبّاء من المعلوم أنّنا نحن لم نرَ الربّ يسوع المسيح كالرسل، ولا جسسنا جنبه مثل توما، بل سمعنا فقط التعليم الإنجيلي، فآمنّا بأنّ هذا هو ابن الله ومخلّص االعالم. وقد غبّط الربّ الإله أولئك الذين لم يروا وآمنوا إذ قال: “طوبى للذين لم يروا وآمنوا” (يو 29:20). ولكن أنكون نحن مستحقّين لهذه الطوبى؟ أنحن أهل للطوبى لأنّنا لم نرَ وآمنّا؟ نعم، متى كان إيماننا عمليّاً، إيماناً عاملاً بالمحبّة، إيماناً مساعداً لإتمام الأعمال الصالحة، إيماناً بالأعمال الصالحة مكمَّلاً.
إنّ إيمانكم بنعمة إلهنا القدّوس ورحمته هو مؤسَّس على الرأي القويم، ومبنيّ على الحقّ. فاقرنوه بالفضائل المرضيّة لله تعالى، فتصيرون أهلاً للطوبى.
وختام الكلام أذكّركم بما أوصانا به الرسول الإلهيّ قائلاً: “كلّ ما هو حقّ كلّ ما هو جليل كلّ ما هو عادل كلّ ما هو طاهر كلّ ما هو مسرّ كلّ ما صيته حسن. إن كانت فضيلة وإن كان مدح ففي هذه افتكروا التي قد تعلّمتموها وتسلّمتموها وسمعتموها ورأيتموها فيّ فهذه افعلوا. وإله السلام يكون معكم آمين” (فليبي 8:4-9).

Leave a comment