الفرح الحقيقي

الفرح الحقيقي

الراهب موسى الأثوسي

نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي

 

مَن لا يريد أن يكون سعيداً؟ الفرح هو رغبة عالميّة أبدية. الفرح ضرورة عظيمة في حياتنا. معناه واضح ولا داعٍ لتحليله. اليوم، يبدو أن المعنى الصحيح مفقود. يسيطر الألم فيما يختفي الفرح. أو أقلّه أن الفرح لا يظهر بشكله الأصيل الجوهري التام، بل بالأحرى في بدائل رخيصة، تزيد من ألم النفس.
كان الإنسان في عدن بريئاً، سعيداً، مبارَكاً وفرِحاً بشكل كامل. مصدر فرحه كان المحادثة المريحة وغير المنقطعة مع الله. لمّا رغب في أن يستقلّ ويؤلّه نفسه، تغرّب تلقائياً عن مصدر فرحه. الفرح بالنسبة لنفس الإنسان هو كالخبز والماء لجسده. الفرح هو إيحاء إلهي، دفء محيي، أمّ الصحّة وأخو التعزية الجميلة. يظن البعض أنّه يمكن إيجاد الفرح في اللهو بلا لجام والعربدة بلا خجل والتربّص الليلي باللذة والاحتفال بالسكر، السكر بالترَف والتبذير والانغماس. لو استطاع أحدٌ ما أن يصوّر أعماق قلوب رعاة مراكز التسلية لوجد جحيماً من الألم والبرودة والوحدة القاسية. الفرح لا يُباع في المحلات ولا يُشرى لا ببعض المال ولا بالكثير منه. اليوم الناس يمرحون (الفعل مرح باليونان مشتقّ من بذّر) ولكنهم لا يستضيفون الفرح. غالباً ما هو فرحهم مجهِد وثقيل. كما يقول الحكيم سولون “انبذوا اللذة التي تولّد الحزن”. الناس يعودون من الأفراح الدهرية منهَكين مكتئبين وأكثر وحدة. هذا كذبة كبيرة. ذهب مهرّج إلى طبيب نفسي طالباً المواساة، وهو الذي يجعل الآخرين يضحكون ويقهقهون فيما هو نفسه فاقد الابتهاج. أحد الممثلين الذائعي الشهرة والذي يعتبره الجميع الأكثر سعادة، كان يعتبر نفسه الأكثر بؤساً.
يشير القديس باسيليوس الكبير إلى أن الإنسان الآثم لا يستطيع أن يفرح بشكل كامل وفعلي. يقول سوفوكليس في أنتيغون “الإنسان من دون الله هو عالة مسافرة في البحر”. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم أنّ الرضا والفرح الحقيقي لا يأتيان بحسب حجم ممتلكات الإنسان، ولا بحسب مالِه، ولا بحسب مدى سلطته، ولا قوته الجسدية، ولا الموائد الفلخرة، ولا الثياب الأنيقة، بل فقط في الإنجازات الروحية والضمير الصالح.
المسيحية، على عكس المتكلّمين عرضاً، أعطت فرحاً شاملاً وآسراً. الفرح الحقيقي يعطي البرهان الداخلي واليقين، التي تصير دائمة وثابتة في القلب البشري، بالرغم من الشدّة الخارجية. يقول باسكال بوضوح: “ما من أحد أكثر فرحاً من المسيحي الحقيقي”. المتواضع فعلاً يقتني فرحاً عظيماً. مَن شطب أناه دمج نفسه بفرح الكلّ. فاعلو الصلاح محكومون بأن يكون فرحهم دائماً. قال فوتيوس كونتوغلو أن الفرح الحقيقي يصدر فقط من وريد الصلاح.
من الإنجيل ينبع لاهوت الفرح. الإنجيل بحد ذاته هو مصدر فرح لا ينضب. الخبرة الأرثوذكسية هي مبدئياً فرحة بهِجة. القديس نيلّس، وهو ناسك قديم وعظيم، يقول في الباترولوجيا بشكل جميل جداً: “الفرح يبيد الحزن، في المأساة يعطي الصبر، في الصلوات يعطس النعمة، في الجهادات والأعمال يعطي السرور، في الطاعة يعطي البهجة، في الضيافة يعطي الملجأ، في الرجاء يعطي الملاذ، في الحداد يعطي الراحة، في الأسى يعطي المعونة، في المحبة يعطي الزينة، وفي الصبر يعطي المكافأة”.
الفرح ليس الضحك ولا الصياح ولا القهقهة ولا الخفة ولا الهزل ولا التندّر ولا الهزء ولا المزاح المستمرّ، بل هو السلام الدائم والبهجة الأصيلة التي تأتي من القلب الفرحان بضمير نقي. الفرح هو نور الفاضل. إنّه ينبع من أعماق الوجود. هو ليس شيئاً يُدّعى الإيمان بوجوده، خارجياً، وهمياً، بل هو شيء عميق وعلى الأكيد أكثر أهمية من كل ما ذكر. الإنسان الجدي المتواضع والهادئ لا يعجز عن الفرح. أوّل معجزات المسيح المعروفة في عرس قانا كانت حتى لا يضيع نصف فرح المدعوين بفقدان النبيذ. آخر معجزاته، أي إقامة صديقه لعازر، كانت أيضاً لإبادة الحزن ومنح الفرح.
غذاء الفرح الذي لا ينتهي هو الفضيلة. الأناني، الفرداني، البخيل، الحاقد لا يستطيع أن يفرح. لا يستطيع الفرح أن يحسد أحداً، ولا أن يعادي أو يكره أحداً. يكتسب المرء فرحه بالتواضع، الصبر، الحق، الحرية والمحبة. يأتي الفرح الحقيقي بشكل محبٍّ إلى كل شخص مخلص شريف بطولي ومتقدّس. يعاني عصرنا من فقدان للفرح الحقيقي فيما الحزن فائض من خلال الشر والخزي، الخيار مفتوح إلى اكتساب الحق الحقيقي.

Leave a comment