ماذا يعني يوم الأحد للطفل

ماذا يعني يوم الأحد للطفل*

إعداد راهبات دير مار يعقوب الفارسي المقطّع، دده – الكورة

*عن مجلّة العالم اليونانيّة

 

كتبت المربّية السويسريّة سوزان سيمون في كتابها “التربية في العائلة” تقول: “إنّ حياة الإنسان كلّها، بما فيها مهنته، تتأثّر بنوعيّة أيّام الآحاد وجمالها التي أمضاها في طفولته”. إذاً، هل نشعر، نحن الأهل، بأهميّة هذا اليوم ومعناه في تربية أطفالنا؟
نسمع في البلدان المسيحيّة الأجراس تقرع يوم الأحد تدعونا للمشاركة في القدّاس الإلهيّ، وأظنّ أنّ صوت الأجراس هذا، شئنا أم لم نشأ، طبع حياتنا بختمه المفرّح. كثيراً ما ينطبع يوم الأحد برنّة صوت الأمّ وهي توقظ أطفالها لتذهب وإيّاهم إلى الكنيسة. وكثيراً ما يسترجع الشابّ كيف كانت أمّه توقظه بابتسامتها العذبة، وكيف كانت تلبسه الثياب الجميلة لينطلق، وإيّاها، فرحاً إلى بيت الله. إنّه بالنسبة للطفل يوم عيد. هكذا كان في الماضي، وأمّا اليوم فماذا يحصل في البيوت؟ وكيف يعيش أطفالنا يوم الأحد؟
فكّر أحدهم بأن يقوم بإحصاء ليرى نسبة العائلات التي تشترك بالذبيحة الإلهيّة يوم الأحد، ولكنّه خشي مغبّة هذا الإحصاء، إذ لا شكّ أنّ النسبة ستكون منخفضة جدّاً. فكثير من الأطفال حتّى سنّ الخامسة أو السادسة لا يعرفون بعد أن يرسموا إشارة الصليب، وهذا يعني أنّهم لم يطأوا أرض الكنيسة إلاّ إذا دُعي ذووهم إلى عرس أو معموديّة، أيّ في مناسبة اجتماعيّة، مع العلم بأنّ غالبيّة الأهل يشقون من أجل تأمين الكثير لأولادهم، وإن استطاعوا تأمين الأكثر أيضاً يلهثون وراء تأمينه من دون أدنى تذمّر، ومن دون أن يسألوا أنفسهم إلى أين سنصل؟ وإلى أين تؤدّي هذه الطريق التي نسير بها مع أولادنا؟ أظنّ أنّه من المفيد أن نتذكّر بأنّنا خُلقنا لنعيش في الأبديّة.
يوم الأحد هو هبة من الله. إنّه يوم الربّ. إنّه اليوم الأبهى من كلّ الأيّام، وبهذا الاعتبار علينا جميعاً أن نحياه، صغاراً وكباراً، إن أردنا أن يكون لنا نبع فرح، نبع محبّة، نبع تجدّد، يوم مؤونة نتزوّد به لكافّة أيّام الأسبوع. هذه هي المشاعر التي ينبغي أن ينشأ الطفل عليها.
يوم الأحد هو اليوم الذي يجب أن يجتمع فيه كلّ أفراد العائلة، إذ يبدو صعباً أن تجتمع مع بعضها في بقيّة أيّام الأسبوع. يعطينا يوم الأحد الفرصة لكي نحيا مع بعضنا البعض بفرح. ما أجمل أن ينطلق كلّ أفراد العائلة معاً إلى الكنيسة حيث ترتاح النفوس بمشاركة العبادة، وتتقوّى بالزاد الإلهيّ كمؤونة للأسبوع القادم.
لقد اخترنا هذا الموضوع أيّ معنى يوم الأحد بالنسبة للطفل لأنّ هذا اليوم لم تعد له قيمة في عصرنا، لا بل قد يمضيه غالبيّة الناس بطريقة مسرفة ومضرّة. ولكنّ معظم المربّين والمحلّلين النفسانيّين كانت لهم وقفة إقدام أمام القيمة الكبرى لهذا اليوم حتّى وصلوا إلى درجة شدّدوا فيها بأنّ الآحاد في سنّ الطفولة تهيّئ الأطفال لاستعمالها حسناً عند بلوغهم سنّ الشباب والنضوج. فكيف إذاً سيحيا الطفل يوم الأحد لكي يكون يوم راحة له، ويوماً مختلفاً عن بقيّة الأيّام في حياته؟
تكلّمنا، باقتضاب، عن المعنى الروحيّ ليوم الأحد، ولكن من الضروريّ أن نراه من وجهه الآخر، من الناحية الترفيهيّة، وذلك لئلا يعتقد الأهل بأنّهم قاموا بواجبهم إن اصطحبوا أولادهم إلى الكنيسة، وكفى. طبعاً لا.
لم يصل الأولاد بعد إلى المرحلة التي يشعرون فيها بحلاوة التسابيح وقداسة السرّ الإلهيّ أثناء الذبيحة الإلهيّة. إنّهم يتعبون كثيراً، وبخاصّة إن لم يلجأوا في اليوم السابق، أي يوم السبت، إلى نوم مبكّر، لأنّ النهوض يصبح أمراً صعباً، وربّما مرهقاً، لذلك على الأهل أن يُعنوا بشكل جدّيّ بيوم الأحد.
يجب أن يكون ليوم الأحد أثره في تمتين أواصر العلاقة بين أفراد العائلة، ويجب أن ينعم الطفل بحضور ذويه وإخوته معه بفرح، وأن يعوّض عن الوحدة القاتلة، بالنسبة إليه، التي عاشها طيلة الأسبوع المنصرم بهذا العيد الذي يجب ألاّ ينتهي بنهاية يوم الأحد. علينا أن نعترف بأنّ مشكلة أولادنا الكبرى، اليوم، أنّهم لا يتمتّعون بصحبة والديهم، ولسان حالهم يقول: “كلّ شيء أملكه، ولا ينقصني شيء، ولكنّي أرغب بأن يعطوني قليلاً من وقتهم، أن يلعبوا معي، أن نتحادث سويّة ولو قليلاً”. ولقد أجابت طفلة في الثامنة من عمرها عن سؤال وُجّه إليها: “ماذا تطلبين من أهلك؟” فأجابت: “أريد أن أراهم، أن أفرح وإيّاهم”. فالأحد هو يوم العائلة، يوم نحوّله من يوم عمل إلى يوم فرح ومتعة. أن يفرح الأولاد بوالديهم، وأن يفرح الوالدون ببنيهم، ولكن كيف سيتمّ هذا؟ من المهمّ جدّاً أن يعرف الأهل كيف يسعدون أولادهمهم، من المهمّ أن يشعر الأولاد بأنّ أهلهم في هذا اليوم هم ملك لهم، لكي يستمتعوا معاً بالفرح، لكي يتناقشوا ويحلّوا مشاكلهم سويّة، لكي يغنّوا ويهلّلوا معاً، لكي يفرحوا مع بعضهم البعض. لهذا ففي القديم كانت المائدة يوم الأحد مليئة بالأطايب، وكلّ أفراد الأسرة يعملون معاً لتجهيزها، وهكذا يشعرون باختلاف هذا اليوم عن بقيّة أيّام الأسبوع حين ينصرف كلّ منهم إلى عمله، ولا يتواجدون على مائدة مشتركة إلاّ نادراً، وهكذا تتمكّن الروابط الأسريّة أكثر فأكثر فيما بينهم. تستطيع العائلة يوم الأحد أن تقوم معاً بزيارة أحد الأماكن الأثريّة بعد الاشتراك بالذبيحة الإلهيّة. ولكي تشعر بالشركة مع الآخرين، وبالتقارب الاجتماعيّ، تستطيع أن تتقاسم الطعام مع إحدى العائلات القريبة أو الصديقة، وتتبادل خلال الطعام الأحاديث الوديّة والفكاهيّة والمسليّة والبعيدة عن كلّ همّ وغمّ بعيدة عن مصلحة العمل أو المهنة. هذه الأمور مهمّة جدّاً، لأنّها تشدّ الواحد إلى الآخر في عصر فقدنا فيه كلّ علاقة حميمة مع الآخرين. كما أنّ الدعابة المتبادلة تخفّف من الضغط الذي عاناه الطفل طيلة الأسبوع في تحضير دروسه، ويخفّف من وطأة الجديّة التي عاشها طيلة الأسبوع المنصرم، فيتجدّد نشاطه النفسيّ والمعنويّ، ويقابل الأسبوع القادم بروح مرحة فرحة. هذه الأمور تجعل الطفل يذوب في العائلة، وتصبح عائلته فخراً له يتحدّث عنها وعن حميميّة العلاقات فيما بين أفرادها، ولا تعود الوحدة أو الروتين هما السيّدان السائدان. رهل نريد أطفالنا أن يحيوا بعيداً عن الرفاهيّة وتسليات هذا العصر المدمّرة؟ فلنملأ أوقاتهم، إذاً، بتسليات وأعمال مفيدة. ويوم الأحد يمدّنا بهذه الفرصة.
الأحد هو يوم تمجيد الله كما أنّه يوم عائلي. يُعرف عصرنا بأنّه عصر التمركز حول الأنا حيث كلّ فرد يلتفّ حول نفسه، ولذلك فمن المستحسن أن نربّي أولادنا على تذوّق طعم العطاء، ويوم الأحد يتقدّم منّا كيوم محبّة ويوم عطاء، إذ يمكننا أن نكرّس أحد أيّام الآحاد لخدمة الآخرين، كأن نجهّز بعض الأطعمة مع أولادنا، نأخذها إلى أحد الفقراء، فتكون لأولادنا درساً في العطاء والمحبّة. يوجد في فرنسا دور للأيتام يجهّزون بعض ألوان الطعام، ليأكلونها مع شيوخ لا يوجد من يعتني بهم، وهكذا يخلقون تواصلاً في ما بينهم وبين هؤلاء الشيوخ. وهذا الأمر مهمّ جدّاً لأن يتذوّقه أولادنا يوم الآحاد، فيحسّون بطعم آخر يتميّز عن طعم بقيّة الأيّام حيث ينغمسون إمّا بالدراسة أو بالأعمال، ويتعلّمون الخروج من الأنا، وعدم التمركز حولها. كما يتعلّمون أنّ الحياة ليست فقط في الأخذ، بل المعنى الحقيقيّ لها هو في العطاء، لأنّهم بهذا يكونون قد أخذوا أيضاً بطريقة غير مباشرة.
ليس الفرح في أن نكون نحن فرحين، بل في أن نقدّم الفرح للآخرين. الفرح الأكبر هو عندما أقدّمه لشخص أعاني من مشلكة معه، وأجعله يصبح قريباً منّي، بل بالأحرى أصبح أنا قريباً منه، فنشترك سويّة بفرح يوم الأحد. إنّه المجال الأكبر لتحطيم الأنا، أي أن أسعى يوم الأحد في التقرّب ممّن هم بعيدون عنّي ولأسباب شتّى.
الحياة المسيحيّة معين لا ينضب، وهي ليست روتيناً مملاً، ولا لها طابع محدود. إنّها خَلق قبل كلّ شيء. الإنسان العصريّ أصبح اليوم جهازاً يستقبل من دون مقاومة وبخاصّة برامج التلفزيون. لقد جعله التلفزيون ينسى أنّه يحوي في داخله محرّك قويّ يدفعه للخلق. فإن استعملنا نحن هذا المحرّك لدى أبنائنا، فسوف نجعلهم خلاّقين ومبدعين. فالحياة الروحيّة بخاصّة، والمسحيّة بعامّة، ليست “بممنوعات” أو “محرَّمات”، بل هي حياة عطاء وخلق. ولذلك يصبح يوم الأحد بالنسبة للطفل يوماً للإبداع والخلق اللذين يرافقانه طيلة حياته، وتصبح ثمارهما وافرة وذات قيمة، وسوف يتوقّف الملل عن أن يحاربنا.
نستطيع أن نستغلّ ساعة من ساعات يوم الأحد إمّا بمسابقات في الكتاب المقدّس تتمّ بطريقة شيّقة وجذّابة للطفل، أو بحوار حول أحد حوادثه أو حول العظة التي سمعناها من الكاهن في الكنيسة أو حول موضوع قرأناه في مجلّة ما، أو باتّخاذ قرار للتقدّم في فضيلة معيّنة ونبذ رذيلة متأصّلة في الأسبوع القادم على أن يتمّ فحص تنفيذ القرار في الأحد التالي، أو في فحص شامل للأسبوع المنصرم، ووضع أعمالنا في كفّتيّ الميزان لنرى أيّهما الراجحة: الأعمال الصالحة أم الطالحة منها. كلّ هذا يتمّ بحوار حميم لا يُتعب ولا يُسئم الطفل. والهدف من كلّ هذا أن يتعلّم الأطفال التفكير والانتباه إلى نفوسهم، وأن يضعوا أساساً متيناً وصالحاً لحياتهم المستقبلة، أيّ أن يكونوا رجالاً (أو أمّهات) صالحين مؤسَّسين على صخرة الإيمان الصحيح والفكر السليم. لا بأس من التذكير ثانية بأنّ الحوار يجب أن يتمّ بجلسة وديّة، لا يكون فيها معلّم وتلميذ، بل تترك فيها الحريّة التامّة لأطفالنا لإبداء انتقاداتهم وآرائهم واعتراضاتهم واقتراحاتهم، لأنّ كلّ هذا سوف ينطبع في ذاكرتهم ليكوّن شخصيّة الغد، ويتعلّمون كيف يتحاورون في المستقبل مع أصحابهم وأساتذتهم، كما يتعلّمون كيف يرشدون غيرهم، وعوض أن يكونوا تابعين يقودون، وعوض أن يوجَّهون يوجِّهون.
وهكذا يصبح يوم الأحد يوم لقاء بيننا وبين أطفالنا وأبنائنا، يوماً يبعث الحبور في النفوس فتنتظره أسبوعيّاً فرِحةً بلمّ الشمل. ولكن، ولكي نحقّق كلّ هذا، يتطلّب الأمر مجهوداً وتعباً ممّا يجعل البعض يتساءلون: أهكذا ينبغي أن نقضي حياتنا كلّها تعباً بتعب؟ ألا يحقّ لنا، حتّى يوم الأحد، أن نرتاح؟ أتجاسر على الإجابة بكلمة كلا. ولكي أبرّر هذه الـ (كلا) أطرح هنا سؤالاً: هل هو متعب أن أقضي يوماً واحداً مع أولادي أو ساعات على الأقلّ إن لم أقل يوماً؟ قد يكون الجواب نعم. وهنا أسأل ثانية: ولكن، أليس متعباً أكثر أن أقضي ليالي مترقّباً رجوع ابني المراهق من سهرته؟ نعم هذه هي الحقيقة اليوم. كثير من الآباء يسهرون منتظرين قدوم أبنائهم من سهرة قضوها خارج البيت العائليّ. قد نقول بأنّ العصر قد تغيّر، والزمان يفترض أن نتوافق وأولادنا وأمزجتهم. قد يكون هذا القول صحيحاً إذا عرفنا كيف نربّي أولادنا منذ الصغر، وعلى أيّة مبادئ أخلاقيّة رست سفينتهم، وأيّة فضائل غرسنا فيهم، وأيّة رذائل اقتلعنا منهم. ثمّ لا يجب أن ننسى أو بالأحرى أن نتجاهل بأنّ هناك مغريات وبدعاً شيطانيّة تبث روحها بين شبابنا وبطريقة لصوصيّة، فالتلفزيون والمخدّرات والقمار والعشرة الرديئة… لهم اليوم السيادة المطلقة. لذا يجب أن يكون همّنا، نحن الأهل، أوّلاً، كيفيّة الخلاص الأبديّ وعيش الفضيلة، لكي نكون مثالاً لأبنائنا، حتّى إذا ما توفّرت لهم كلّ وسائل الترفيه والتسلية السيّئة لا يتأثّرون بها، بل يستطيعون، بمعونة الله وسهرنا، أن يتجاوزوها.
ليوم الأحد التأثير الكبير على طفلنا، فكما يعيشه يعيش بقيّة الأسبوع. فإن كان الجوّ العائليّ في هذا اليوم حارّاً ودافئاً، فإنّ الطفل سيتمتّع بالقوّة اللاّزمة لمجابهة صعاب الأسبوع المقبل. وإن لم يكن له هذه المقدرة، فعلى الأقلّ لا يُبتلَع من الصعاب، بل يحاول أن يجد له مخرجاً بالعودة إلى الأحضان الأسريّة. لهذا نريد أن يكون ليوم الأحد طعم الفرح والجمال، وأن يكون مبارَكاً بذكر الربّ.
كلمة أخيرة لا بدّ أن نقولها للكهنة المتزوّجين، وهي أنّه يجب الحرص ألاّ يكون كهنوتهم عائقاً لأولادهم ليعيشوا حياة اجتماعيّة هانئة، فالراهبة ماجدولين من دير إسكس في بريطانيا ذكرت في كتابها “توجيهات إلى أبناء الكنيسة الأرثوذكسيّة اليوم” بأنّه “لا ينبغي أن يشعر أولاد الكهنة بالحرمان من التمتّع بيوم الأحد، لأنّ هذا سيخلق لهم شعوراً مضادّاً لهم وللكنيسة، لا بل للربّ يسوع نفسه”.
كلمات بسيطة قلناها بمحبّة بغية التذكير والاستفادة من بعض الاقتراحات.

Leave a comment