روحانيّة التريودي

روحانيّة التريودي

الأرشمندريت أفرام كرياكوس

القسم الأول: أحد الأرثوذكسيّة والأيقونات

أحد القديس غريغوريوس بالاماس

* فترة التهيئة

 

فترة التهيئة للصوم الكبير شدّدت على:

 

تواضع العشار ونبذ تكبّر الفرّيسيّ المرائي.

 

توبة الابن الشاطر وعودته الى الأحضان الأبوية.

 

أولوّية عمل الرحمة والمحبّة في الدينونة العامّة وأخيراً المسامحة وعدم الكراهية.

 

والملاحظ أن التريودي يشدّد في أحد الغفران وهو أحد مرفع الجبن، على طرد آدم من الفردوس بسبب المعصية لوصية الله. ويصوّر آدم (الذي يمثّل كلّ إنسان) يحزن ويبكي على خطيئته التي جعلته يتعرّى من النعمة الإلهيّة. الخطيئة ما هي إلا الابتعاد عن الله، فقدان النعمة الإلهيّة، غيابها. ولذا، نحن بحاجة الى فترة جهاد وتوبة لكي نعود إلى الحالة الفردوسيّة. والمهم في هذا الجهاد هو اكتساب هذا الاحساس العميق بضعفنا، بخطيئتنا. هذا الاحساس لا يتمّ إلا بمؤازرة الروح الإلهيّ ممّا يولّد حزناً وألماً لا يبدو إلاّ وينقلب إلى تعزية وبهاء.

 

* الأسبوع الأول:

ندخل في الأسبوع الأوّل من الصوم الكبير إلى نظام مشدَّد من الصوم والصلاة. نعرف أنّ بعض المؤمنين، وخاصّة الرهبان، يُمسكون عن الطعام والشراب فترة ثلاثة أيّام حتى نهار الأربعاء حين تقام خدمة البروجيازميني (القداس السابق تقديسه) فيتناولون جسد الرب ودمه ويأكلون أكلاً صياميّاً. ثم يتابعون الأسبوع الأوّل بنمط مشدَّد ومكثّف من الأصوام والصلوات. التشديد هو في الانقطاع عن الأكل والشراب حتّى الظهر على الأقلّ، في موائد يُرفع عنها الزيت والخمر وحتى الزيتون. هذا التشديد مقرون بتكثيف الصلوات: نصف الليل، السحرية، الساعات، الغروب، صلاة النوم الكبرى، مع قداس السابق تقديسه نهاري الأربعاء والجمعة. هذا مع قراءة المزامير مضاعفة. وإضافة قراءات وميامر آبائية، خاصّة من كتابَي أفرام السرياني ويوحنا السلمي؛ وقراءة قانون التوبة للقديس أندراوس الكريتي.

 

والجدير بالذكر أن كلّ خدمة تتضمّن سجدات (مطانيات) ترافق صلاة القديس أفرام السرياني التي هي نموذج لصلاة التوبة. عدد هذه السجدات الكامل هو 16: 3 كبار و12 صغار و1 كبرى، تختصر عادة في الرعايا الى ثلاث كبار.

 

على السجدات الكبيرة الأولى نقول:

 

أيها الربّ وسيّد حياتي أعتقني من روح البطالة والفضول وحبّ الرئاسة والكلام البطّال (سجدة)

 

وأنعم عليّ أنا عبدك الخاطئ بروح العفّة واتّضاع الفكر والصبر والمحبة (سجدة)

 

نعم يا ملكي وإلهي هب لي أن أعرف ذنوبي وعيوبي وألاّ أدين إخوتي فإنك مبارك الى الأبد. آمين. (سجدة)

 

ثم يا رب ارحم 12 مرة (سجدات صغيرة)… نعم يا ملكي وإلهي…(سجدة كبيرة).

 

 

ما يهمّنا أن نلاحظ في هذا الاسبوع الأوّل هو التشديد على النسك والصلاة وجوّ الخلوة والهدوء. ممّا يساهم بصورة فعّالة في تنقية الجسد والنفس. وبالتالي في تفتّح النعمة الحاصلة في أوان المعموديّة.

 

 

* الأحد الأوّل والثاني

يأتي في الأحد الأوّل للصوم، أحد الأرثوذكسية، إحتفال لغلبة الإيمان القويم على الهرطقة وكذلك الاحتفال لغلبة الكنيسة على محاربي الأيقونات.

 

 

الأيقونة والتجسّد الإلهيّ

تبرز الأيقونة الأرثوذكسية المرفوعة على جدار الايقونسطاس في الكنائس الأرثوذكسيّة رمزاً حيّاً لانتصار عقيدة التجسّد الإلهيّ، إذ جاءت ردّاً قاطعاً على كلّ الذين يدّعون تحريم تصوير الله والقدّيسين حسب وصيّة العهد القديم لا تصنعوا صورة شيء ولا منحوتاً ممّا في السماء وممّا على الأرض (خر4:20). هذه الوصيّة وضعت لإبعاد الشعب المؤمن عن الوثنية. ولنا اليوم الحرص نفسه إذ نتجنّب الرسوم الأرضيّة المادّيّة النافرة والتماثيل. لكن يحقّ لنا اليوم بعد أن أخذ الله في المسيح صورة بشرية أن نرسم الإله في الجسد. إنّ الله الذي كان بعيداً عنّا في اليهودية صار معنا وفينا بالروح القدس. وقد أبدعت الكنيسة فنّ الأيقونة برسم الوجوه مجرّدة من الأهواء والملامح البشريّة وباستخدام علاماتٍ وألوانٍ تشير إلى فضائل القديسين.

 

هذا الإحتفال بزياح الأيقونات المقدّسة ينسجم مع فترة الصوم المشدّد للأسبوع الأول لأنه يأتي ابتهاجاً بالمسيح الإله المتجسد الذي جاء ليحمل صورة الانسان البشرية ويعيدها الى جمالها الأول. لذلك نرنم: لصورتك الطاهرة نسجد أيها الصالح طالبين غفران الخطايا أيها المسيح إلهنا لأنك ارتضيت ان تصعد بالجسد على الصليب طوعاً لتنجّي جبلتك من عبوديّة العدوّ. لذلك نهتف اليك بشكر لقد ملأت الكلّ فرحاً يا مخلّصنا إذ أتيت لتخلّص العالم.

 

ونحن بدورنا إذ نسعى لتنقية صورتنا البشريّة في الجسد والنفس عن طريق الصوم والصلاة، نستعيد في قلوبنا صورة المسيح القائم فينا. تنعكس على وجوه الصائمين فرحاً وسروراً فيستنير وجه الانسان الذي تجرّد من الأهواء بحسب قدراته الإنسانية وبمؤازرة نعمة الله، فيصبح وجهه أيقونة حيّة تعكس صورة المسيح المنيرة للآخرين.

 

 

ممارسة النسك ومعاينة الله في النور

يأتي أحد القدّيس غريغوريوس بالاماس دعماً لانتصار العقيدة الأرثوذكسيّة التي تنسجم مع الحركة الهدوئيّة التي يمثّلها القدّيس غريغوريوس بالاماس.

 

إنّ المذهب العقلانيّ (Rationalisme ou Intellectualisme ) ينقض روحانيّة التريودي في فترة الصوم الأربعيني، إذ تعتمد على حياة النسك والصوم والصلاة والسهر (الجسد ضعيف أما الروح فنشيط).

 

إنّ محاربي الأيقونات، على مثال أنصار النزعة الانسانية (Humanistes ) الذين حاربوا القديس بالاماس، كان معظمهم من الفلاسفة المثقفين الذين يعتمدون على الدراسة والتأمل النظري بعيدين عن ممارسة الجهادات النسكية وعن معاينة الله ومعرفته كنور في القلوب النقية. إنّ الهدوئيّين (Hychastes ) على مثال مؤيّدي الأيقونات يشدّدون على الحقيقة نفسها وهي اشتراك الإنسان جسداً ونفساً مع الله في المسيح منذ هذه الحياة.

 

يقول القديس غريغوريوس بالاماس ما يلي: … لا نستطيع أن نملك الرب معنا، ان نعاينه في النقاوة، أن نمتزج بالنور دون اختلاط على قدر امكانيات الطبيعة البشرية، إن لم نكن متطهّرين بالفضيلة، إن لم نخرج من ذواتنا او بالأحرى نتخطى ذواتنا تاركين كلّ ما هو حسّيّ مع الحسّ، مرتفعين فوق الأفكار والبراهين والمعرفة الناتجة عن هذه الأفكار لنستسلم كلياً للقوة اللاهيولية والذهنية التي للصلاة، لملاقاة الجهل الذي يسمو على كل معرفة، لنمتلئ من جمال الروح المتألق، لكي نتأمل سرياً نِعم الدهر الآتي. أتدري في أية هوة توجد متروكة كل فلسفة للعقل ومتعظّمة؟ في الواقع تنبع مبادئ هذه الفلسفة العقلية من الحس وتهدف الى اقتناء المعرفة بعيداً عن الطهارة التي لا تنقّي ذاتها من الأهواء.

 

خلافاً لذلك فإن مبدأ التأمّل الروحيّ هو الخير الذي نجم عن نقاوة الحياة، وهو أيضاً معرفة حقيقيّة للكائنات وللحقيقة التي لا تتولّد من الدراسات بل تظهر مع النقاوة، وهي وحدها تستطيع أن تميّز في الحقيقة ما هو نافع وجيّد من عكسه.( Groire Palamas. Triades I.3, 42. . Meyendorff. P. 202 ).

 

بحسب القديس غريغوريوس بالاماس النسك (asce )، من صوم وصلاة وممارسة الفضائل، هو بالنهاية الوسيلة الوحيدة للوصول إلى معرفة الله الحقيقيّة أي المشاركة الفعليّة للنفس والجسد المتحدّين في القلب بالنور غير المخلوق. (أنظر كتاب الدفاع عن القدّيسين الهدوئيّين، صفحة 115، منشورات التراث الآبائي).

 

يقول فلاديمير لوسكي بهذا الشأن: إنّ عقيدة القدّيس غريغوريوس بالاماس هي خاتمة صراع تقليديّ طويل للتخلّص من الثنائيّة الأفلاطونيّة، ثنائيّة المحسوس والمعقول، الحسّ والعقل، ثنائية المادّة والروح. (V. Lossky. La Vision de Dieu. P. 135 ).

 

إنّ الخطأ المشترك الذي وقع فيه محاربو الأيقونات وأنصار النزعة الإنسانية (humanistes ) هو أنهم انحصروا في معضلة تَعارُض الروح والمادّة دون أن يدركوا أنّ هذه المقولات الفلسفيّة قد انقلبت جذريّاً بتجسّد الكلمة، بجنون الصليب وبتأليه الجسد المأخوذ.

 

(المرجع: دراسة عن التريودي للكاهن الراهب مكاريوس من الجبل المقدس)

 

 

الخلاصة

رأينا كيف أنّ ممارسة الصوم مرتبطة بشكل دقيق ووثيق بعقيدة الأيقونة وبالهدوئيّة التي تشدّد على مشاركة الجسد في الجهاد الروحي. ما أودّ أن ألاحظه في هذه الخلاصة هو ناحية هامّة من ثمار هذا الجهاد النسكيّ. أوّلاً يستطيع الانسان المجاهد، بمؤازرة النعمة الإلهيّة، أن يكتسب شيئاً فشيئاً فضيلة التمييز بين الخير والشر، بين ما هو لله وما هو لغير الله. هذه الموهبة التي تميّز الإنسان الروحيّ الذي يَحْكُم في كلّ شيء ولا شيء يحكم فيه… هي التي تخوّل الإنسان المستنير بنور الله أن يميّز بين الأرواح، أن يحارب مكائد الشيطان، تماماً كما فعل الربّ يسوع بعد صومه أربعين يوماً، عندما جاع وتقدّم اليه الشيطان وقال له: إنْ كنتَ ابن الله فَقُلْ أن تصير هذه الحجارة خبزاً. فأجاب وقال: مكتوب ليس بالخبز وحده يحيا الانسان، بل بكلّ كلمة تخرج من فم الله (مت4:4).

 

 

 

 

(عن كتاب “أحاديث روحية” للأرشمندريت أفرام كرياكوس. منشورات دير البلمند. 1995)

 

 

 

Leave a comment