بين الثبات والمرونة – الأب نقولا مالك

بين الثّبات والمرونة

الأب نقولا مالك

 

إذا كنتَ ثابتًا في مواقفِكَ، قد يُعَيِّرُكَ النّاسُ قائلِين: “مُتَحَجِّرٌ، مُتَشَدِّدٌ، لا يَأخُذُ وَلا يُعطي، لا يَتَطَوَّر…”.
وَإذا كنتَ تُدِيرُ أُذنًا لآراءِ الآخَرين، وَتُطاوِعُهُم، وَتحترمُ آراءَهُم، قد تَسمعُ تعييرًا من بعضهم: “كلّ يوم برأي، لا يَثبت على موقف، كلمي بتاخدو وكلمي بتجيبو…”.
فيَرِدُ في ذهنِكَ السّؤالُ التّالي: هَلِ الثَّباتُ نقيصةٌ يُعَيَّرُ المَرءُ عليها؟ أَم هَلِ اللّطفُ والمُرُونَةُ عارٌ وضعفُ شخصيّة؟
وإذا أَنعَمتَ النَّظَرَ في هذه المسألة، لَم تَجِدْ تُناقُضًا بَينَ الأمرَين: فالثَّباتُ فضيلةٌ وليسَ رذيلةً، ولكنْ في مجالِه؛ وكذلكَ المُرُونَةُ فضيلةٌ وليست نقيصةً إذا عَرَفَ المَرءُ كيفَ يُوَظِّفُها.
إذا أتاكَ الحَقُّ، على أَلْسِنَةَِ مَلائكةٍ، وَأُسْلِمَ إِلَيكَ بتقليدٍ لا رَيبَ فيه وَشهاداتٍ حَيَّةٍ لا تُحصى، وَثَبَتَّ علَيهِ ثَباتًا كَلَّفَكَ التَّضحيةَ بِمالٍ أو جاهٍ أو صَداقاتٍ أو حتّى بِالحياةِ نفسِها، فهذا موقفٌ بُطُولِيٌّ، ليسَ فيه مِنَ العَيبِ شيءٌ. بَل عكسُهُ هُوَ النَّقيصةُ والعار. فَكَما أنَّهُ لا يَصُحُّ أن تُجارِيَ صدِيقَكَ في زَعمِهِ أَنَّ الشَّمسَ لا تُشرِقُ كُلَّ يَوم وأنَّ الثَّلجَ رَمادِيُّ اللَّون، فكذلكَ لا يَصُحُّ أن تُجارِيَ فَلاسِفَةَ هذا الدَّهرِ في زَعمِهِم أن التّواضُعَ ضعفٌ وانكسارٌ وأنَّ المحبَّةَ جَهلٌ وأنَّ العطاءَ غَباءٌ وأنَّ الصَّومَ تَخَلُّفٌ وأنَّ التَّرَهُّبَ هُرُوبٌ وأنَّ العِفَّةَ حَماقَة.
لاحِظْ، إذًا، أَنَّ ثَباتَكَ في الحَقِّ، آراءً وَمَواقِفَ وَسُلُوكًا، هُوَ علامةٌ مِن علاماتِ مسيحيَّتِكَ الصَّحيحة.
أمّا إذا كانَ ثَباتُكَ تَمَسُّكًا بِخَطَأ، فعند ذلك يَكونُ عيبًا. وفي هذه الحال، علَيكَ بِالمُرُونَة، إذ ها هُنا مَجالُها. مَن قالَ إنَّ علَيكَ أن تكونَ لطيفًا مَعَ الشَّيطان؟! مَن قالَ إنَّ علَيكَ أن تتواضَعَ أَمامَ هُرطُوقِيّ؟! مَن قالَ إنَّهُ مِن المُفِيدِ التَّسامُحُ وَالتَّساهُلُ مَعَ مُخَرِّبِي الكنيسة؟! ولكن.. عليكَ بالمُرُونَةِ مَعَ مُؤَدِّبِكَ الّذي يَرْصُدُ مَواطِنَ الضّعفِ في نفسِكَ، وَيُرشِدُكَ إلى السُّلُوكِ في الحياةِ الرُّوحِيَّةِ السَّليمة. عليكَ بِاللُّطفِ إزاءَ صديقٍ يُواجِهُكَ بِخَطَأٍ ارتَكَبْتَهُ، فتعتذرَ عَمّا بَدَرَ مِنكَ، وَتُصلِحَ ما أَمْكَنَكَ إصلاحُهُ مِن نتائجَ سلبيَّةٍ تَرَتَّبَتْ على ذلك. كُنْ مُتَواضِعًا مَعَ جَميعِ النّاس، غَيرَ مُتَعالٍ وَلا مُتَكَبِّر، لأنَّ هذه سِمَةُ المسيحِ الّذي خُتِمْتَ بِخَتْمِه، وَدُعِيتَ إلى الحَياةِ مَعَه.
نَعم، أنتَ مَدْعُوٌّ إلى الثَّباتِ في الإيمانِ، وَعدَمِ التَّزَعزُعِ أمامَ عَواصِفِ الأفكارِ الغريبة، ولكنَّكَ مدْعُوٌّ، وَبِالقُوَّةِ نفسِها، إلى المُرُونَةِ والتَّراجُعِ عَن آراء خاطئة ومواقف ذميمة. فَفي الحالةِ الأُولى، يكونُ التَّراجُعُ دَناءةً، وفي الحالةِ الثّانيةِ يكونُ الثَّباتُ عنادًا، وهما صِفتانِ للشَّيطان. وأمّا الثَّباتُ في الحقِّ، والاستعدادُ للتَّوبةِ فَهُما صِفَتانِ لأبناءِ المسيحِ الأبرار.
وَأَجمَلُ صِفَةٍ يَرتَدِيها تابِعُ المسيحِ أن يَكُونَ ثابِتًا في طريقِ التَّوبة، أي ثابِتًا في مسيرةِ التَّغَيُّرِ الدّائمِ نحوَ الأفضل.

Leave a comment