إصلاح التعليم – أهو للشخص أو لسوق العمل؟

إصلاح التعليم أهو للشخص أو لسوق العمل؟

الشيخ أفرام الفاتوبيذي

الرهبنة الأرثوذكسية الأثوسية ليست معزولة عن العالم؛ ليست منطوية على نفسها. على العكس من ذلك، يمكن للمرء أن يقول أن الراهب الحقيقي هو أكثر اجتماعية من العلمانيين، لأنه يتصل مباشرة مع الكائن الاجتماعي الأعلى، خالق الإنسان والمجتمع: الرب. كرهبان أثوسيين نحن نتألّم ونقلق حول مستقبل الإنسان هذه الأيام. الكثير من الناس الساخطين يزورون الجبل المقدس، مضطربين من مشاكل مستحيلة تؤدّي إلى طرق مسدودة. إن أسلوب العيش الخاطئ، أي الحياة خارج الكنيسة، هو الجاني الرئيسي في كل هذه المصاعب.

من صفات زماننا أنّ كل محيطنا وقيمنا تمرّ بأزمة. إن التقدم العلمي والتكنولوجي يؤثر على حياتنا الاجتماعية؛ الاستهلاك، الشهوانية، الفوضى الأيديولوجية، ووفرة النظريات وتشوشها، فضلاً عن العولمة، تشير إلى أن الإنسان الحديث يجد نفسه في نقطة تحول حاسمة في تاريخه.

في ظل هذه الظروف، من الصعب جداً، حتى بالنسبة للبالغ الرصين أن يكوّن فكرة واضحة عن وضعه وأن يدرك ما هي خياراته الشخصية بالحقيقة، من دون أن يتأثر بعوامل أخرى، أو أن يفهم المدى الذي يمكن أن يتحرك فيه بحرية وكيف يقع تحت هيمنة شيء ما أو شخص ما. إذا كان هذا صعباً بالنسبة لشخص ناضج، تخيّلوا كم يكون معقّداً بالنسبة للطالب أو التلميذ، الذين عليهم إلى هذا أن يتعاملوا مع عصر يجهلونه إلى اليوم فيما عليهم أن يؤسسوا شخصياتهم ويخلقوا هويتهم الخاصة!

التربية هي مؤسسة تهدف إلى تنمية الفرد كشخص، لتطوير قيمه الروحية واستكمال شخصيته. لقد كان الفيلسوف اليوناني القديم أفلاطون يقول: “كل المعرفة عند فصلها عن العدالة والفضيلة تصير مكراً وليس حكمة” (Plato Collected Dialogues: Menexenus: p 196, 246e-247a). إذا كان أسلافنا قد اعتقدوا بأن المعرفة تنمّي الروح من خلال الفضيلة، وأن هذا ليس اقتناءً خارجياً، كيف يفترض بنا التعامل معها، ونحن لسنا مسيحيين أرثوذكسيين وحسب، بل أيضاً أحفاد الفلاسفة الإغريق القدماء، كما أحفاد الرسل و آباء كنيستنا العظماء؟

ترتبط التربية ارتباطاً لا رجعة فيه بتاريخ كلّ بلد وثقافته وتقاليده. في جزيرتنا، قبرص، كانت الأرثوذكسية النموذج الذي ارتكزت عليه التربية، لأنها كانت عاملاً في مشكّلاً ومانحاً للحياة، وليس فقط للتعليم بل ولكل المؤسسات الأخرى أيضاً.

بعد الحكم البريطاني الذي دام ما يقرب من قرن من الزمن، دخلت العناصر الأجنبية في تقاليدنا الأرثوذكسية. خصوصاً بعد حركة أيار 1968″، التي بدأت في فرنسا وأثرت على النسيج الأخلاقي والاجتماعي لمجتمعنا مع ما يسمى بالتحرر الجنسي، ورفض المؤسسات والبُنى الاجتماعية والدين، تغيرت التربية وتبعت اتجاهات العصر ومطالبه. لقد امتثلت التربية لنظرية المنفعة وركّزت على إنتاج خريجين ينتجون، يستهلكون، يطورون ويكسبون المال. وبعبارة أخرى، لقد شجّعت التقدم الاقتصادي والتكنولوجي بطريقة غريبة. وهكذا لم تعد التربية تلبّي احتياجات الشخص الوجودية، كما أنها لا تعالج القضايا الأخلاقية أو تنمّي الفضيلة؛ إنها غير مبالية بالدين ولا ترغب في أن تُعرّف على أنها أرثوذكسية“.

لقد فهمنا اليوم أن نظامنا التعليمي، للأسف، على المستويات الثلاثة، لا يسهم في تشكيل شخص مسؤول، متطور، شخص حقيقي، أي القبرصي التقليدي الأرثوذكسي. وحتى في المرحلة الابتدائية هناك محاولة لقطع التلاميذ عن جذورهم التقليدية. وعلاوة على ذلك، يرغب كثير من المثقفين في تحديث الكنيسة والعلمانية وإزالة الإيمان المسيحي من الدولة؛ أي أنهم يرغبون في أن تتفق الكنيسة مع هذا العالم” (رومية 12، 2) من أجل تحديثها على ما يبدو. هذه الأمور تسبب الضيق والكثير من الألم للمؤمنين ولأولئك الذين يحبون بلدنا. صلّوا، أين تحدث كل هذه؟ أنها تجري في قبرص، الجزيرة الأرثوذكسية أساسا وثقافيا، جزيرة القديسين.

يبدو أن نظامنا التربوي هو نتاج الانفجار التكنولوجي الحديث الذي يفصل الجسد عن الروح ويقسّم الإنسان ويوجهه نحو المادية. إنه يحرمه من القدرة على أن يترجّى بإخلاص، وأن يكون صادقاً في معاملاته وضميره وأن يبقى حراً في داخله. إنه بالغالب يدعم قدرته على التحرك بحرية في الأوساط العلمية، وبالنهاية تغذيته بالمعرفة والتثقيف الجافين، وهو ما ينفخ” (كورنثوس 8، 1) بحسب قول القديس بولس. أي أن هذا يجعله فخوراً، أنانياً، محباً لذاته وبشكل عام ممتلئاً من الأهواء. إن الهدف الأساسي للذين يذهبون إلى الثانويات والجامعات هو إيجاد وظيفة. بالطبع هذا ما يجب أن يهدفوا إليه، ولكن لا ينبغي أن يكون طموحهم الوحيد.

التعليم كمقياس للجودة يجب أن تسعى إلى تجديد قلب المرء وتحويل نفسه. يجب ألا تسعى إلى الإنتاجية أو تلبية احتياجات الدولة. بل أن تكون مستقلة عن هؤلاء لكي تنتج أشخاص أحراراً، سيتوجّهون نحو إدراك الذات ومعرفة الله، ولكي توفّر لهم تعليماً شاملاً يحوّلهم. يجب أن لا تشوههم بمدّهم بالمعرفة الجافة أو جعلهم يطاردون العلامات، محرّضة إياهم على التعلّق بالمادية العابرة.

ينبغي على المعلمين ومسؤولي وزارة التربية أن يهدفوا إلى توفير التعليم المناسب للشباب، أي التعليم في المسيح. يجب أن يحتملوا مخاض الولادة حتى يتشكّل المسيحفي قلوبهم بحسب قول القديس بولس (غلاطية 4، 19). يجب أن تصير المدرسة والجامعة أرحام روحية حيث الشخص، الرجل في المسيح، يستطيع النمو والنضوج روحياً. على المدرسة أن تزرع أشخاصاً حقيقيين أبديين بالنعمة، والتي سوف تكتمل في صورة الشخص الحقيقي الوحيد الأبدي، أي المسيح. يمكن تحقيق ذلك بالتعاون مع الكنيسة. فقط في الكنيسة الأرثوذكسية بتمّ اختبار المسيح والحياة الروحية. ليست الكنيسة هيئة إدارية أو مؤسسة إنسانية، بل مؤسسة الإله الإنسان؛ إنها جسد المسيح.

لن يحقق المراهقون والشباب جودة عالية في الحياة من خلال ترقية الوسائل التعليم الخارجية وتجديدها. لأن هذا النوع من الحياة هو سطوع أداء شخص نامٍ داخلياً بالروح القدس. إنه نوع الحياة الذي يتحقق بالتماهي مع الناس الذين يتركون بصماتهم على حياة الشباب ووعيهم. في أي حال، لسنا هنا لتوجيه اللوم بل لتوعية قلوب الناس.

لا ينبغي على التلاميذ والطلاب حصر تفكيرهم بالعمل لصالحهم. ولا ينبغي بهم أن يختاروا مهنة لإشباع فخرهم ومصلحتهم الشخصية بغض النظر عما إذا كانت ستقوّضهم كأشخاص. في الأيام الخوالي، كان المرء أن يختار مهنته وفقاً لمهاراته وقدراته، وتحديداً لأهليته. في هذه الأيام، لسوء الحظ يعتمد الاختيار على الوضع الاجتماعي المتوقّع من المهنة أو آفاقها الاقتصادية. وهكذا، تأتي قدرة المرء في المرتبة الثانية. وما يزيد من حدة هذا التوجّه هو البطالة وعجز الشباب عن متابعة المهنة التي تحلو لهم. هذا الوضع يحوّل الوظيفة في كثير من الأحيان إلى عبودية.

عند اختيار مهنته، يجب على المؤمن، أن يأخذ بعين الاعتبار أيضا آفاق تطوره الشخصي وتأوّجه بالمسيح، وهي مهمة مسيحية رئيسية. (القديس غريغوريوس النيسسي: ما هو اسم المسيحي أو مهنته؟) لا ينبغي النظر إلى المهنة بشكل مستقلّ بل يجب أن تشكّل وسيلة لتقدّم حياة المرء في المسيح. المسيحي مدعو إلى الاضطلاع بواجباته المهنية كَمَا لِلرَّبِّ لَيْسَ لِلنَّاسِ” (كولوسي: 23:3).

جميع المهن جيدة من تنظيف الطريق إلى التعليم الجامعيطالما أنها تُمارَس بأمانة وبضمير وبدقة. لقد وضع الرب أجدادنا في الجنة لِيَعْمَلَهَا وَيَحْفَظَهَا” (تكوين 15:2). حتى المسيح، في حياته على الأرض، عمل كنجّار. القديس باسيليوس، الكبير، يقول إن بين أعضاء الكنيسة صيادين وبنّائين ومزارعين ورعاة ورياضيين وجنود؛ على كل واحد منهم أن يؤدي واجباته بضمير. (القديس باسيليوس: عظة انتبه لنفسك“). فالمهن المختلفة لا ينبغي أن تلبّي احتياجات الشخص فحسب بل أن تفيد الآخرين أيضاً. يحثّ القديس بولس كل واحد من أهل أفسس على أن يَتْعَبُ عَامِلاً الصَّالِحَ بِيَدَيْهِ، لِيَكُونَ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ مَنْ لَهُ احْتِيَاجٌ.” (أفسس 28:4).

يكون التلميذ أو الطالب أو العامل متناغماً في وظيفته، كما في علاقته مع الآخرين والرب، إذا كان يدرك المعنى الحقيقي لحياته. بتعبير آخر، بلوغ قداسته الشخصية وتألّهه، التي هي الهدف النهائي لخلق الإنسان.

لهذا السبب يشدد الشيخ يوستينوس بوبوفيتش الصربي ويؤكد أن كل إنسان مدعو إلى التقدّس. وهكذا، يصبح العالِم عالِماً قديساً، الفيلسوف فيلسوفاً قديساً، المزارع مزارعاً قديساً، الغني رجلاً غنياً قديساً، الفقير فقيراً قديساً، الطالب طالباً قديساً والتلميذ تلميذاً قديساً. (يوستينوس بوبوفيتش: الإنسان والإلهالإنسان)

هذا يعني أن رسالة القداسة الإنجيلية يمكن أن يطبّقها أي إنسان، من أي مكانة اجتماعية وفي أي سنّ. الجهاد لتحقيق القداسة يعطي الحياة معناها الحقيقي. هذا الجهاد، وإن كان صعباً، هو أيضاً حلو ومليء بالفرح، لأن النعمة الإلهية تسير إلى جنب المقاتل. يتقدّس الإنسان بالمشاركة في القوى الإلهية غير المخلوقة، بصرف النظر عما إذا كان في المرحلة التي يجاهد فيها لتطهير نفسه من الأهواء أو قد بلغ الاستنارة أو وصل إلى مرحلة التألّه النهائية. إن مَن يحاول أن يصير قديساً يسعى باستمرار للازدياد، للتقدم روحياً، لملامسة اللاهوى وتذوقه. اللاهوى بحسب القديس يوحنا السلمي هو كمالٌ لا نهاية له” (القديس يوحنا السلمي، السلم، المقالة 19). مَن يختبر اللاهوى، أي القداسة، يختبر حالة روحية فاعلة ودائمة. هذه الحالة، التي هي اختبار النعمة الإلهية، لا يمكن مقارنتها بأي فرح أو خبرة على الأرض.

لكي يكون الشباب في وضع أفضل من جهة التعليم وأكثر قدرة على اختيار المهنة المناسبة بحيث لا تضعِف التربية التعليمَ وتتحوّل إلى مركبةِ بحثٍ عن الوظيفة، فعليهم أن يتخلّوا عن السعي إلى المعرفة الدنيوية وأن يسعوا جاهدين لتحقيق المعرفة الروحية كما وصفها القديس بولس. عليهم أن لا يسعوا إلى استرضاء مصالحهم الأنانية والموجَّهة نحو المال متجاهلين احتياجاتهم الروحية ومهملين إياها. من ناحية أخرى، على الأهل أن يدركوا أنهم لا يملكون أبناءهم بل أن الأبناء هم أشخاص مستقلّون وفريدون. إن العادة هي أنّ الأهل في محاولتهم لتحقيق تطلعاتهم ومشاريعهم الخاصة من خلال أبنائهم، يعذّبون ذريتهم.

وأخيراً، يجب على المربّين – معلمي المدارس وأساتذة الجامعات الاعتراف بأن التعليم الحقيقي يشكّل الأشخاص الذين سيقدمون أنفسهم ومهاراتهم لخدمة الآخرين. وإذا ما أردنا تحقيق ذلك، ينبغي على المربّين أن يظهِروا رعاية صادقة وحقيقية في تعليمهم، وليس مجرد أداءٍ لواجب مهني مجرّدٍ هدفه النهائي هو كسب المال. يجب أن يكونوا أصحاب ضمير عميق، ناضجين فكرياً وروحياً وأن يكونوا مستعدين للتضحية بأنفسهم؛ بالإضافة إلى هذا، يجب أن يسلكوا في حياة طاهرة بنزاهة وضمير أرثوذكسي، وأن يكتسبوا الإيمان الصادق بالمسيح. يجب على كل من المعلمين والتلاميذ أن يتعلموا في المدرسة العظيمة التي تسمى الكنيسة.