الإدارة الكنسية وأشكال تقهقرها

الإدارة الكنسية وأشكال تقهقرها

الأب أنطوان ملكي

قد يكون الكلام سهلاً في التوصيف والتحليل والتشخيص لما يجري في أي مجتمع أو جماعة أو مجموعة على طريق الاندثار. لكن الصدق في المسعى يلزِم المرء توخي الحذر، خاصةً إذا كانت الجماعة المعنية كنيسة. إن السمة الإلهية البشرية للكنيسة لا تحرمها ولا تحميها من الخضوع لعلوم العالم خاصةً في بعض أوجه التقييم.

قد تسود العقلية الدهرية في الكنيسة. فقد تزدهر المؤسسات وتكثر، ويزيد رواد الطقوس خاصةً في الأعياد. لكن هذا كله لا يشير بالضرورة إلى الصحة. على سبيل المثال لا الحصر، التزايد المضطرد في عدد المرتلين قد يكون صحياً وعنصر جذب للمؤمنين إلى الخدم، لكنه يفقد تقديره وإنجازه حين يصير المرتلون أنفسهم مؤدّين لهذه التراتيل في المطاعم والمسارح والشوارع والباصات، أي عندما يتمّ فصل الترتيل عن الصلاة. تفقد المعرفة الموسيقية دورها حين تفقد حس التقوى فتستحيل تجديفاً.

أمام الواقع الدهري يصعب التقييم. فبحسب الأعداد ومقاييس الدهر الوضع أفضل، بينما بحسب التقليد والتقوى الوضع خطير وإن دلّ فعلى تراجع روح الصلاة. هذا كلام عامّ ينطبق على كل الجماعات المسيحية. في حالة الأرثوذكس يصير الأمر أكثر صعوبة لعدم توفر المعلومات الدقيقة، خاصةً في الشرق. لكن هذا لا يعني أن ما ورد لا ينطبق.

ففي الكنيسة الأرثوذكسية اليوم حالات أخرى يمكن مقاربتها بنفس المنطق، كرسم الأيقونات وانتشار الجداريات في الكنائس. أن تكون رعية قادرة على رصد مبالغ كبيرة لرسم جدران الكنيسةهي عشرات أضعاف ما ترصده للمساعدات المَرَضية والاجتماعية والتربوية، فهذا ايضاً تجديف ودليل تقهقر. أن يكون عشرات الكهنة مهتمّين بالتسويق للسياحة الدينية وغير الدينية، فيما هم لا يجرؤون على إلزام رعيتهم بتغطية عملية جراحية لمريض أو تأمين دواء لطفل، فمنتهى التقهقر يكون هنا.

هناك الكثير من الدراسات عن ظواهر سقوط الجماعات الدينية، لكن غالبيتها لا تنطبق على الكنيسة الأرثوذذكسية لأنها تتعاطى مع الجماعة البشرية من دون إعطاء الطابع الإلهي حجمه الذي يستحيل قياسه أصلاً. من هنا تصير مقاربتنا لهذا الموضوع أكثر صعوبة. فالتقهقر واضح وظواهره متعددة. إنّما ينبغي تحديدها بشكل واضح يقدر مَن يحكي عنه أن يدافع عن كلامه. فإن قلنا أن المشكلة هي في الرعاية، وجب علينا أن نحدد أين: فهل هي رعاية الأساقفة للكهنة؟ أم الكهنة للمؤمنين؟ أم المؤمنين للإكليروس؟ أم هي غياب هذا التفاعل الحيّ بين هذه المكونات الثلاثة؟ وما سبب غياب هذا التفاعل؟ أهو الكبرياء أو الاستهتار أو الجهل أو المزيج القاتل من هذه جميعاً؟ وقد يأتي مَن يقول أن مَن يطرح هذه الأسئلة يعرف الجواب ويتلافى ذكره، وفي هذا إدانة لمَن يقوله لأنه يعني أنه يعرف الجواب ولا يعمل شيئاً للإصلاح.

أن مؤشرات وملامح سقوط وانهيار واندثار الجماعات يبدأ من خلال بروز عدد من الظواهر التي تكوّن الأسباب الرئيسية للسقوط. تختلف آراء الدارسين في تحديدها لكن المشترَك بين الغالبية القصوى منهم هي ثلاثة عوامل: أولاً، شيوع فساد القضاء. ثانياً، شيوع خيانة الأمانة الوظيفية المسؤولة، وثالثاً، شيوع تعاطي النفاق والرياء بين المتقدمين.

لو أردنا تطبيق هذه العوامل على الكنيسة الأرثوذكسية، في أي مكان من العالم، لوجدنا أنها تطال الطبقة العليا بالدرجة الأولى، أي المجمع. فالمجمع هو القضاء، وهو القاطع باستقامة في مراقبة تنفيذ الوظائف من أصغرها، كالمرتل مثلاً، إلى أكبرها كالأسقف نفسه. والمجمع هو أصلاً مجموعة المتقدمين.

إذاً، إذا أرادت كنيسة أرثوذكسية من الكنائس الستة عشرة، أن تستشرف مستقبلها عليها أولاً أن تقيّم أداء مجمعها. وأن نقول بتقييم أداء المجمع يعني أن يبادر المجمع بنفسه إلى هذا التقييم لأنه هو السلطة ولا سلطة لأحد عليه. فإذا عجز المجمع عن ذلك على الجماعة المؤمنة أن تبادر إلى هذا التقييم. فإذا عجزت الجماعة، كهنة وعلمانيين، عن ذلك يعني أن لا داعي للتقييم لأن النتيجة واضحة بأن هذه الكنيسة هي في الحضيض ولا يقيمها إلا الذي نزل إلى الجحيم وأقام المائتين منذ الدهر. لكن في هذه الحالة ما العمل؟ أيتفرجّ المهتمّون؟ الجواب هو نفسه أولاً وأخيراً. العمل هو استدعاء الرب ليأتي ويتعهد الكرم الذي غرسته يمينه ولا يترك الأجراء كائناً مَن كانوا على سجيتهم في العمل. إذا كان تقييم الكنيسة إيجابياً فعلى المؤمنين أن يستدعوا الرب ليبقى في كنيسته. وإذا كان سلبياً فعليهم أن يستدعوه ليقيمها. لكن ماذا إذا كان المؤمنون غير مهتمين؟