الكنيسة كمركز علاجي: مرض الروح

الكنيسة كمركز علاجي: مرض الروح

الميتروبوليت ييروثيوس فلاخوس

عندما نتحدث عن مرض الروح، فإننا نعني في الدرجة الأولى فقدان النعمة الإلهية، التي لها تداعياتها على الجسد أيضاً ما يجعل الشخص كلَّه مريضاً. قد لا يكون هناك وجود لمرض جسدي ولكن بدون نعمة الله لا توجد صحة.

من أجل فهم أفضل لسقوط الإنسان، من الضروري أن نبدأ بما يقوله الآباء القديسون عن أن النفس نوسية وعقلية، أي أن الروح تحتوي على كل من النوس والعقل وهما يتحركان بالتوازي. يتميز النوس عن العقل في أنه هو عين الروح، مركز الانتباه، في حين أن العقل لفظي بلاغي يصوغ الأفكار من خلال الدماغ. وهكذا، إذا تحرّك النوس بحسب الطبيعة، مما يعني أنه بصحة جيدة، يكون العقل أيضًا بصحة جيدة والروح التي هي المحبة تكون صحيحة أيضًا. إذا كان النوس غير صحيح، يكون الإنسان معتلّاً في عقله وفي محبته. إن الخلل في عمل هاتين القوتين، النوس والعقل، يسبّب المرض.

قبل السقوط ، عاش آدم في حالة طبيعية. كان نوسه موجّهاً إلى الله ويحصل على النعمة منه، في حين كان العقل خاضعاً للنوس الممتلئ نعمة، وبالتالي يعمل بشكل طبيعي.

السقوط الذي يشكّل المرض الحقيقي هو في الواقع ظلام النوس. فقد أظلم النوس إذ فقد نعمة الله ونشر الظلمة في الإنسان بأكمله. في التقليد الأرثوذكسي، نعني بسقوط الإنسان ثلاثة أمور: أولاً ، أظلم النوس وتوقّف عن العمل بشكل طبيعي. ثانياً، صار النوس محدداً بالعقل وصار العقل مركز الإنسان. ثالثًا، استعبدت المشاعرُ والظروفُ الخارجية النوسَ. هذا كان الموت الروحي للإنسان. وكما هو الحال عندما تتأذى عين الإنسان ويصبح الجسم كله مظلماً، أي عندما تعمى عين النفس فإن الكائن الروحي بأكمله يصير مريضاً ويقع في الظلام العميق. قال المسيح: “إِنْ كَانَ النُّورُ الَّذِي فِيكَ ظَلاَمًا فَالظَّلاَمُ كَمْ يَكُونُ؟” (متى 6: 23).

ظلام النوس يخلق تشوّهات فظيعة في حياة الإنسان. إنه يؤدي إلى انهيار مدمّر في تكوينه الروحي بأكمله. من بين أمور أخرى، يصنع الإنسان صنماً من الله، لأن الله يصبح خليقة المنطق. يستغلّ الإنسان إخوته من البشر من أجل المتعة والطموح والجشع، وينظر إلى العالم كمقلعٍ يجب إخضاعه لحاجاته الشخصية الخاصة.

إذاً هكذا ندرك أن جميع المشاكل الاجتماعية والعلائقية بين الأشخاص على حد سواء، هي من داخل الإنسان وهي تشير إلى مرض الروح وفقدان النعمة الإلهية. عندما لا تعمل قوة الإنسان النوسية بشكل جيد، نلاحظ العديد من الشواذات. كل الأهواء تتمرد، ويستغلّ الإنسان الله وإخوته لتعزيز أمنه الشخصي وسعادته. ومن ثمّ يصير باستمرار تحت الضغط معتقداً أنه في السجن.

نتائج سقوط الإنسان

يرتبط تعليم الكنيسة الصحوي (neptic)، الذي يشير إلى العالم الداخلي، ارتباطًا وثيقًا بالتعليم الاجتماعي. قد يفترض البعض أن حياة الكنيسة النسكيّة لا علاقة لها بالواقع. في الحقيقة، العكس هو الصحيح. فقط من خلال هذا التحليل للسقوط يمكننا حلّ المشاكل الناشئة في حياتنا. لقد رأينا بعض النتائج سابقاً. سوف نعرض الآن العواقب المأساوية لمغادرة الإنسان لله والتي تُظهِر أن اللاهوت الأرثوذكسي هو العمل الأكثر أصالة وحداثة.

إن فقدان النعمة الإلهية يشكّل المرض الحقيقي للإنسان ويجلب الموت الروحي والجسدي. الموت الروحي هو رحيل الإنسان عن الله، والموت الجسدي هو انفصال النفس عن الجسد. لم يخلق الله الإنسان ليموت لكن الموت الجسدي جاء نتيجة للسقوط.

النتيجة الأولى للسقوط كانت ظلام النوس. يقول القديس غريغوريوس بالاماس: “إذا غادر النوس الله، يصبح إما وحشياً أو شيطانياً“. عندما يغادر نوس الإنسان الله ويصير مظلماً، لا يمكن تفادي تشوّه كل قوى الروح والجسد الداخلية. بعد أن يفقد النوس حركته الطبيعية التي هي حركة نحو الله، تتحوّل رغبته نحو أشياء غريبة ويصير إشباع جشعه غيرَ ممكن. إنه ينغمس في الملذات الجسدية دون أن يعرف أيَّ حد لهذه الملذات. وفي حين أنه يهين نفسه بأفعاله، يصرّ على أن يكّرمه الجميع. إنه يريد من الجميع أن يتملّقوه ويوافقوه ويتعاونوا معه، وعندما لا يتمّ ذلك يمتلىء من الغضب. إن غضبه وغيظه ضد إخوته البشر كالثعبان. من ثمّ الإنسان، الذي خُلِق على صورة الله وشبهه، يتحوّل إلى قاتل ويتشبّه بالشيطان قاتل الإنسان. إن ابتعاد النوس عن الله يجعل الإنسان وحشياً أو شيطانيًا، اي أنه يصير وحشًا أو شيطاناً. لذلك، مع ظلام النوس تتأجج الأهواء.

نتيجة ثانية لسقوط الإنسان هي أن النفس ومجمل الإنسان يتحرّكون بعكس الطبيعة. يعلّم اﻵباء القديسون أن هناك ثلاث حركات للنوس: بحسب الطبيعة، فوق الطبيعة، وضد الطبيعة. تتمّ حركة النوس بعكس الطبيعة عندما لا يرى تدبير الله وعدالته في ما يجري في حياته، بل باﻷحرى يؤمن بأنّ اﻵخرين ليسوا عادلين معه ويثور ضدهم. إن حركة النوس بحسب الطبيعة تظهر عندما يعتبر الإنسان نفسه هو والأفكار الشريرة مسؤولين عن مصاعبه. أما حركة قوى النفس فوق الطبيعة فتتمّ عندما يتحرّك النوس نحو الله ويجد ثمار الروح الكلي قدسه ويعاين مجد الله. في هذه المرحلة يصير النوس متناسقاً (amorphous ) ولا شكل له؛ أي أنه يتحرر من الصور والتخيلات والأفكار الشيطانية. في مرض النوس، نجد كل النتائج المريعة والمشوِّهة للعمل والحركة بعكس الطبيعة.

نتيجة ثالثة للسقوط هي تهيّج المخيّلة. بحسب تعليم اﻵباء القديسين، الخيال، اي الصور والتشبيهات، هي نتيجة السقوط. الله والملائكة ليس عندهم مخيلة. الشياطين والبشر الساقطون عندهم مخيلة مريضة. يقول اﻵباء أن المخيلة هي سلّم النوس الذي يغطّي الجزء العقلي من النوس؛ إنها الجسر بين البشر والشياطين. يملك الإنسان الصحيح المخيلة لكن لا التخيلات. كمثالٍ، يمكننا القول أن المخيلة عند إنسان متقدّس هي كمثل تلفاز مطفأ. فالجهاز موجود لكن لا الصور. بهذا المعنى نقول أن القديسين لا مخيلة لهم.

هذه نقطة فائقة الأهمية إذ طالما الإنسان مريض فهو واقع تحت سيطرة صور كثيرة ينتجها الجزء التخيلي من النفس. إن ما يسمّى بالمشاكل النفسية هي بالغالب نتاج الشك والأفكار المنطقية إذ تنمو في جو التخيّل. اليوم، إنها لحقيقة ملحوظة أنه بقدر ما يكون المرء مريضاً نفسياً يزداد تهيّج مخيلته.

النتيجة الرابعة لسقوط الإنسان هي مرض عالمه العاطفي. الشخص السليم روحياً متوازن في جميع أنشطته. في مختلف أحداث حياته، إنه لا يتحرك نفسياً وعاطفياً وحسب بل عنده شراكة حقيقية مع الله. لذلك ، لا يتحرك عاطفيًا بالطبيعة وجمالها، بل يراها روحياً، لأنه يرى قوة الله فيها. إن الفرح النفسي عديم الخبرة، الذي يمسه الخيال، مختلف عن الفرح الروحي الذي هو نتاج الروح القدس. في اﻹنسان المريض،تختلط العاطفة مع أهواء تبرير الذات.

في الكنيسة، بجهادنا وفوق كل شيء بحصولنا على نعمة الله، نقوم بتحويل كل العواطف وكل الحالات المرضية. هذا يتحقق بالتوبة. من ثمّ تتحوّل كل الأحداث النفسية إلى حالات روحية. إن تعابير الإنسان المريض نفسياً لا تُلاحَظ في الإنسان التائب.

ولذلك، مرض الروح الذي يظهر في المقام الأول في نوس الإنسان، له عواقب وخيمة على الكائن الحي بأكمله. الإنسان المريض يصير متلهفًا ومحباً لذاته، مبرراً لها، ولهذا تداعيات على المجتمع كله. نقول في الكنيسة الأرثوذكسية أنه من الممكن أن يتمتع إنسان ما بصحة جسدية ونفسية متوازنة بسبب ذكائه وعقله القوي فلا يحتاج إلى طبيب نفسي، ومع ذلك يبقى مريضًا من دون نعمة الله. إن ظلام النوس هو أعظم مرض للإنسان.