محاربة العزلة في عالم غير شخصي

محاربة العزلة في عالم غير شخصي

آريك هايد

نقلها إلى العربية بتصرّف الأب أنطوان ملكي

إذا سبق لك أن وقفت في غرفة مزدحمة وأحسست بأنك وحيد بشكل كليّ إذاً انت تفهم أن العزلة ليست هي نفسها أن تكون وحيداً. بالنسبة لشخص منعزل، الجموع تضخم وحدته ولا تنقصها.

الطبية النفسية فريدا فرومريتشمان وهي باحثة بارزة في ظاهرة الوحدة أواخر الخمسينيات، عبّرت عن الأمر بشكل بسيط:”العزلة هي انعدام الإلفة“.

بحسب دراساتي وخبرتي أوافق بشكل مطلَق على هذا الكلام. لا علاقة لأن يكون الإنسان وحيداً بالعزلة. العزلة هي علامة على أن أمراً ما لا يعمل في عالم الإلفة عند هذا الإنسان؛ اي أن اتصاله بالآخرين مقطوع بشكل عميق وعلى مستوى أولي، إنه انقطاع الاتصال عن نفسه.

على الأكيد، مجتمعنا المعاصر لا يساعد. نحن معطوبون من فوق إلى أسفل بالعلاقات الاصطناعية. بالنسبة لكثيرين، كل يوم هو مغامرة جديدة في وجود مُقَلَّد يبدأ بصفارةِ منبّه رقمي، وفطور مصنّع، وسيارة بلاستيك تقودنا عبر أدغال الباطون والزجاج إلى مكان عمل أو مدرسة حيث يخضع كل لقاء اجتماعي لقوانين ارتباط لامتناهية مختَلَقة، وينتهي بالأقنعة المهنيةالتي تخفي كل أثر للشخص خلف العيون. من السخرية أن الكثيرين منّا خلال النهار كله يشعرون بومضة من ذواتنا الحقيقية عبر تفاعلاتنا المفتعلة باهتمام على مواقع التواصل الاجتماعي حيث نحن محميين من الآخربشاشتين رقميتين وقمر اصطناعي.

يبدو الأمر رهيباً. يبدو أن العزلة لها اليد العليا إلى حد أنّ المبارزة يمكن استمرارها فقط من خلال آلية استلحاق قوامها الهروب، سواء كانت بعض أشكال الإدمان أو شكلاً عمومياً من العصاب.

لكن الأمل موجود. يمكن للإنسان أن يتغلّب على العزلة في عالم مختَرَق بالسطحية، بطريقة بسيطة جداً إلى درجة تجعلها أحد أكثر الأشياء صعوبة. قد يجد المرء تقنياتلا تنتهي لمحاربة العزلة في كتابات علم النفس، والبعض منها لا بأس به. بعض المفضّلات لدي: أ) إعادة تشكيل الوحدة كإشارة لتغيير طرق الإنسان مقابل الاستسلام لليأس، ب) (ب) إعادة توجيه تركيز الإنسان من الوحدة المزمنة إلى نقاط القوة والاهتمامات حيث يمكن استخدام بعض الاختيار المعرفي في تغيير تصورات الحياة، ج) التأمل في مفارقة الوحدة، أي كما ناقشنا أعلاه، والفروقات بين أن تكون وحيدًا وأن تكون منعزلاً، ود) إيجاد فرص للتفاعل مع الطبيعة الصافية بالقيام بنزهة في الحديقة وصيد الأسماك والتخييم والتحديق في النجوم وما شابه.

لكن التقنيات ليست فناً كاملاً أبداً. تماماً كما أن تعلّم تقنية أو اثنتين في الملاكمة لا يحوّل الإنسان إلى محمد علي، كذلك تعلّم تقنية أو اثنتين لحلّ مشكلة نفسية حادة لا يجعل أحداً سيّد نفسه.

إذا كان الإنسان يتصارع فعلاً مع الوحدة فليس هناك علاجات سهلة وبلا مجهود. العلاج هو مشروع جادّ من الإلفة مع الذات.

ولئلا يتهمني أحد بتخطّي أهم مقاييس الإلفة، أي إلفة الإنسان مع الله، فإني أذكّر القارئ بكلمات المسيح: “إن ملكوت الله هو في داخلكم“. لا يكسب الإنسان الإلفة مع الله إذا كان يتعاطى باحتيال مع نفسه. إذا كان ملكوت الله في الداخل فإن دخول الملكوت يتطلّب طلب الذات الحقيقية بين طبقات خداع الذات. إن الجزء الأكبر من الصراع النسكي، الذي الكلّ مدعوون إليه بغض النظر عن الانشغالات، هو تخليص أنفسنا من الأهواء التي تغرق إيماننا بسهولة. كما يقول القديس مرقس الناسك من القرن الخامس: “ينبغي أن تتوافق حياتنا الخارجية مع تقدمنا الداخلي، وصلواتنا إلى الله مع حياتنا“.

الانعزال هو بالحقيقة إشارة إلى أن شيئاً في حياة الإنسان النفسية الروحية غير متوازن، والسبيل الوحيد لبلوغ قعره هو مراقبة الذات عن كثب وبأمانة. في أي حال، مراقبة الذات لا تعني الاستقلال في المسلك، أي مغارمةً إضافية في الشخصانية، التي هي نفس الوحش الذي أمسك بنا في هذه الفوضى من البداية.

بخبرتي أن الغالبية الكبرى من الناس تطلب المساعدة من شخص آخر في هذا العمل. لهذه الحقيقة معنى كبير، إذ إذا كان الانعزال ضمنياً مرتبطاً بتعطّل الإلفة فعملية الشفاء سوف تستدعي المعونة من علاقة بشرية. هذه العلاقة ممكن إيجادها في عدد من الأماكن: الشريك (الزوج أو الزوجة)، صديق صدوق، مرشد ، راعٍ، أو غيره. أنا من المحظوظين القلائل إذ لدي زوجة حكيمة، أصدقاء رائعون، وكاهن من الله يساعدونني في رحلتي. ولكن حتى ولو لم يكن لدى الإنسان أحد من المذكورين يمكنه دائماً أن يجد مرشداً مجرّباً يدعمه في حربه.

ملاحظة أخيرة: إن التغلب على العزلة لا يتطلب أن يتخطّى الإنسان عالمه المركّب مادياً، كأن ينسحب إلى البرية ليتّحد بالطبيعة. لو كان الأمر كذلك لما كان لغالبيتنا أي فرصة. إن غلبة العزلة تتطلب تخطّي الانعزال الذي يفرضه الإنسان على ذاته بذاته. هذه المعركة بسيطة بقدر ما هي صعبة، بسيطة في المفهوم لكن فائقة الصعوبة في التنفيذ.

لقد حاولت بقدر ما يسمح مقال قصير أن أصوّر المشكلة الأساسية وأشير بالإصبع إلى الوجهة الصحيحة للمساعدة. ما تبقى هو أن الصراع قضية ذاتية شخصية، هذا الصراع الذي متى انخرط فيه الإنسان بأمانة يكتسب منه تربيةً على طول الطريق.