بين الأرثوذكس والأقباط: الالتباس اللاهوتي وامتداده الرعائي

بين الأرثوذكس والأقباط: الالتباس اللاهوتي وامتداده الرعائي

الأب أنطوان ملكي

إن العلاقة بين الأرثوذكس وغير الخلقيدونيين ملتبسة منذ ثمانينيات القرن الماضي، وقد عملت دوائر حوارية عديدة في الكنيسة الأرثوذكسية الجامعة على تسخيف الخلاف العقائدي الخريستولوجي الذي دام خمسة عشر قرن، ببثّ الاعتقاد بأنّ الخلاف مع غير الخلقيدونيين هو خلاف لفظي وحسب. لطالما شكّل هذا الكلام التباساً يأخذ بعداً أكبر في أيامنا هذه، خاصةً مع الفوضى الناتجة عن سهولة النشر والتواصل الإلكترونيين.

في مكتبتنا العربية دراسة، هي الأهمّ في العالم الأرثوذكسي، حول الفرق اللاهوتي بين الأرثوذكس وغير الخلقيدونيين، كتبها العلّامة الآبائي جان كلود لارشيه، نقلها إلى العربية الأب الدكتور يوحنا اللاطي، راجعها ودقق فيها الأرشمندريت توما بيطار، هي في الأصل مقال منشور في Le Messager Orthodoxe العدد 134 منشورات ACER في باريس، وقد صدرت بالعربية عن عائلة الثالوث القدوس، أوراق ديرية 7، سنة 2004، بعنوان المسألة المسيحيانية في شأن مشروع اتّحاد الكنيسة الأرثوذكسية والكنائس غير الخلقيدونية: مشكلات لاهوتية وكنائسانية معلّقة“. يؤكّد الكاتب في خاتمته: “ليس الحوار بين الكنيسة الأرثوذكسية والكنائس اللاخلقيدونية بجديد… أنشئت مشاريع اتحاد عدة على مرّ القرون إلى أيامنا هذه. يبيّن التاريخ لسوء الحظ أن المناهضين لخلقيدونيا (باستثناء الكنيسة الأرمنية) ما غيّروا قط في مواقفهم، وأن كل الخطوات إلى الأمام باتجاههم قامت بها الكنيسة الأرثوذكسية، الأمر الذي أدّى في حالات كثيرة إلى أن يقترب عدد ليس بقليل من رؤساء الكهنة من الهرطقة…”

إن حجم الدراسات والمواقف الأرثوذكسية الرزينة والمستندة إلى الآباء القديسين كبير، لكنه لا يحظى بالدعم السياسيالكافي لنشره بين المؤمنين وتحصينهم ضد العواطفية التي تجعلهم يعتقدون بإمكانية الوحدة أو التقارب من دون العقيدة والحق. يزيد هذا الواقع من الالتباس في هذه العلاقة، خاصةً عندما ينتقل الالتباس من المستوى اللاهوتي إلى المستوى الرعائي، فيتحوّل الالتباس خطراً. وما يزيد الخطر هو تمسّك غير الخلقيدونيين بمواقفهم التاريخية بمقابل التراخي الأرثوذكسي.

كمثال على أن الأقباط لم يتزحزحوا عن تعاليمهم عدد من الفيديوات المنتشرة للبابا شنودة وغيره يشرحون فيها عقيدتهم. في واحد منها بعنوان شرح مجمع خلقيدونية وطبيعة السيد المسيح، 1989″ يشرح شنودة تعليم الأقباط عن الطبيعة المركّبة مستعملاً عبارات تخالف بشكل لا لبس فيه تعليم الأرثوذكسية عن الطبيعتين فيقول: ” لا نستطيع من بعد الاتحاد أن نتكلّم عن طبيعتين. إنما طبيعة واحدة بعد الاتحاد… لما اكتمل الجنين اصبح طبيعة واحدة…” [1] هذا الكلام يردّ عليه حرفياً تعليم القديس يوحنا الدمشقي لا سبيل للكلام عن طبيعة واحدة في ربنا يسوع المسيح… فإننا نقول بأن الاتحاد صائر من طبيعتين كاملتين…” (المئة مقالة في الإيمان الأرثوذكسي، منشورات المكتبة البولسية، ص. 156).

عليه، سوف نتطرّق إلى موضوع هذا الالتباس عبر ملاحظات رعائية نضعها تحت ثلاثة عناوين: 1) أثر شبكات التواصل الاجتماعي، 2) مساعي التقارب المستمرّة، و3) الحوارات الشعبية.

1) أثر شبكات التواصل الاجتماعي

تنتشر عظات وأقوال الأنبا شنودة وغيره من اﻷنبايات كالنار في الهشيم. وما يشير إلى الخطر الرعائي أن العديد من الكهنة الأرثوذكسيين يساهمون بقوة في نشرها. ففيما تظهِر الإحصائيات ضعف المشاركة في المنشورات الإلكترونية ذات المصدر الأرثوذكسي، تظهِر تفوقاً كبيراً في المشاركة في المنشورات ذات المصدر القبطي. إن قواعد الاتصال الجماهيري (mass communication) تؤكّد خطأ هذه الممارسةحيث أن مشاركة تعاليم من مصادر غير أرثوذكسية تشرّع هذه المصادر. فعلى سبيل المثال، إذا شارك أحد الكهنة مع رعيته فيديو لكاهن غير أرثوذكسي يتحدّث صواباً عن موضوع ما، ولم يرفِق مشاركتَه بتعليم واضح حول صحة الكلام الوارد في الفيديو حصراً من دون أن يشرّع مصدره، فإن أبناء الرعية، أو أقلّه بعضهم، سوف يشاركون فيديوات أخرى من المصدر نفسه لأنه صار محسوباً مصدراً شرعياً. كمثالٍ نورد خبراً من إحدى الرعايا، حيث شارك كاهنها رعيتَه فيديو لكاهن قبطي يتحدّث بدقّة عن موضوع أخلاقي، فأُعجب بعض أبناء رعية هذا الأب بالكاهن القبطي الذي كان متحدثاً لبقاً وصاروا من الزوار الثابتين لموقعه، وبعد فترة صاروا يتكلّمون لغة الأقباط حول طبيعتي المسيح.

فيما تمثّل هذه القصة خفّةً غير مقصودة في التعاطي إلا إن الخفّة بشكل عام تجرّح كنيستنا على أكثر من مستوى. كمثال وفي إطار مشابه، عندما يرى المؤمنون أنّ مطارنة يشاركون في صلوات مشتركة بملابس الخدمة الكهنوتية، فإنهم يعتبرون أن المشاركة مع غير الأرثوذكس شرعية، فلا يتوانون عنها.

2) مساعي التقارب المستمرّة

يقوم اليوم مسعى للتقارب مع الأقباط غير متّضح الملامح بعد. فعلى موقع حركة الشبية الأرثوذكسية بعنوان التقارب بين الكنيسة القبطية وكنيسة الروم الأرثوذكس خطة الاتحاد العالمي المسيحي للطلبة، بتاريخ 24 أيلول 2018، يرد الخبر التالي: <بدعوةٍ من الاتّحاد العالمي المسيحيّ للطلَبة في الشرق الأوسط، وتحت عنوان “الكنيسة والتربية: تحدّيات معاصرة (منطلقات من فكر كوستي بندلي المفكّر الكبير)”، أُقيمت 3 ندوات في مصر حاضر فيها الأخ الدكتور نقولا لوقا وذلك في 20، 21 و22 أيلول في خطوة تقارب بين الكنيسة القبطيّة والكنيسة الأرثوذكسيّة> [2]. هذا الخبر يطرح مجموعة من التساؤلات: مَن يأخذ قرار التقارب، أهو المجمع الأنطاكي أم الاتّحاد العالمي المسيحيّ للطلَبة في الشرق الأوسط؟ هل وافق المجمع على هذا التقارب؟ ما هو الأساس العقائدي لهذا التقارب؟ ما هو الثمر الرعائي الذي سوف ينتج عن هذا التقارب؟ إذا كان هناك مشكلات لاهوتية وكنائسانية معلّقة بين الكنيستين، هل يكون علاجها وتخطيها بالحوار التربوي وبفكر كوستي بندلي أم بحوار لاهوتي دقيق يقوم به لاهوتيون مُنتَدَبون؟

هذه المجموعة من الأسئلة، وطبعاً هناك غيرها، إنّما تظهِر عدم الوضوح والالتباس في العلاقة.

3) الحوارات الشعبية

فيما الحوارات الشعبية قد تقرّب الناس من بعضها إلى أنها متى تطرّقت إلى الأمور اللاهوتية تعمّق الالتباس المذكور أعلاه. نورد الحَدَث التالي لتأكيد ضرورة أن يكون الموقف الأرثوذكسي ثابتاً في أرثوذكسيته، وإلا فإن أصحابه يساهمون من حيث لا يدرون في انتشار الخطأ.

نشرت مجموعة محبو كوستي بندليعلى صفحتها في 1 أيلول 2018، القول التالي للأستاذ بندلي، مأخوذاً من فتات من نور“: <ما يؤكد هذا الخفر الإلهي، الذي رأينا أنه سمة أساسية في تعاطي الله مع الكون، هو أنه، لما انحدر اليه، لم يتّخذ شكلاً فائقاً، بل شكل إنسان كسائر الناس، آخذا صورة عبد ، صائراً بشبه البشر، وكأنه أفرغ ذاتهمن ألوهته (فيليبي 7:2). هكذا تواجد لديه أقصى الحضور، نتيجة حبه للكون، وأقصى التواري، نتيجة الحب عينه> ومن ضمن مساهمات القرّاء الطبيعية، جرَت المحادثة التالية حيث كتب أحد المشاركين واسمه مارتن رأفت: “افرغ ذاته من الوهته.. الكلمة دي صعبةفردّ المسؤول عن الصفحة: “لهذا من الضروري أن نقرأها مع كلمة كأنهالتي أثبتها الكاتب قبل هذه العبارة ونصِلها بالفكرة السابقة آخذا صورة عبد‘…فكان رد مارتن رأفت: “يعني فالحقيقه هو لم يفرغ ذاته“. بنتيجة هذا الحوار، حذف المسؤول عن الصفحة المحادثة، لكن يمكن الوصول إليها من محفوظات فايسبوك. جدير بالذكر أن زيارة صفحة مارتن رأفت تظهِر أنه قبطي ملتزِم.

ما معنى هذه المحادثة؟ يعبّر بندلي عن التعليم الأرثوذكسي حول إفراغ السيّد لذاته واتّخاذه الطبيعة البشرية، استناداً إلى تعليم الرسول بولس في الآية المذكورة التي تقول حرفياً: “لكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ“. زيادة كلمة كأنهغير الواردة في الآية أصلاً هي خطأ. إن كانت هذه الزيادة مقصودة نستنتج أن بندلي يعلّم غير ما تعلّمه الكنيسة. وإن كانت هذه الزيادة هفوة لغوية، فيعني أنه يفتقد للدقة في أمور حساسة لا تتحمّل الهفوات.

لا يهدف هذا المقال إلى مناقشة فكر بندلي بل الأكيد هو أن فكر بندلي، أو غيره، لا يمكن أن يكون مادة للتقارب في اللاهوت إلا إذا اعتمده وجدان الكنيسة الجامعة مرجعاً. أما في الأمور الأخرى، كالتربية وعلم النفس وغيره، فالحكم هو لأصحاب الاختصاص، مع التشديد على أن لا مجلس الكنائس ولا اتحاد الطلبة المسيحيين ولا حركة الشبيبة الأرثوذكسية، ولا أي كاهن أو علماني يتبرّع للمساهمة في هذا التقارب منفرداً هو مَن يختار.

من جهة أخرى، تظهِر المحادثة أن الأقباط متمسّكون بنظرتهم المسيحانية التي تخالف التعليم الأرثوذكسي وهم يعلّمون أجيالهم هذا التعليم، بما يؤكّد أن القول بأن الخلاف بين الأقباط والأرثوذكس هو خلاف لفظي غير صحيح. فوق هذا، إن عملية الحذف عن فايسبوك تؤكّد خطورة أن يتعاطى الحوار اللاهوتي مَن هو غير مؤهّل ومتدرّب لذلك. واضح أن عبارة وكأنهتعني أن الأمر فعلياً لم يحدث، وهذا ما وجد فيه القبطي دعماً لنظرته، وما وجد فيه القائم على الصفحة إحراجاً واتّهاماً لكوستي بندلي بالافتقاد إلى التعبير الدقيق عن العقيدة الأرثوذكسية فلجأ إلى الحذف. لكن مَن يعرِف كم من الناس قرأ هذا الحوار قبل حذفه؟

في الختام، نعيش في أنطاكيا فوضى لاهوتية سببها الأساسي عدم الاهتمام باللاهوت من جهة وغياب المجمعية من جهة أخرى. لا لجان تدرس ولا أساقفة تراقب ولا معاهد تبحث ولا أديار تسهر، فيما شبكات التواصل الاجتماعي تفتح شهية الجميع على اتّخاذ دور التعليم بغضّ النظر عن النوايا. من جهة أخرى، انفتاح بعض الأنطاكيين على المؤسسات الكونية التي يهمها تسجيل اللقاءات بين الكنائس على أنها إنجازات في سِيرِها، يزيد من قابلية التأثّر والإصابة في الكنيسة. يُضاف إلى هذه التوهّمُ الذي يعيشه البعض، ومنهم من الرؤساء، بأن الوحدة المسيحية الشكليّة تزيد من مناعتهم في الوضع السياسي والاجتماعي القائم.

[1] https://youtu.be/ZUzzqdRj0hY ابتداءً من الثانية 2:50

[2] http://mjoa.org/archives/30004