تشكّل الشعب في الجماعة ولها

تشكّل الشعب في الجماعة ولها

البروفسور قسطنطين سكوتيريس

تعريب الأب أنطوان ملكي

 

إن مسألة تشكّل الشعب ليست سؤالاً حديثاً بل هي بالواقع قد سادت عبر السياق الطويل للتقليد المسيحي. من خلال مسعاها التعليمي وإنتاجها اللاهوتي الغني لتربية شعب الله، اهتمت الكنيسة بشكل ثابت بأن تعلن بشكل موثوق به الرسالةَ المسيحية وتنقل إلى كل إنسان الحقيقة الأصلية والجوهرية. في الكنيسة، نحن نشكّل خليقة جديدة، شركة فريدة مع المسيح، حيث كل إنسان يتجاوز فردانيته ووحدته ويصبح عضواً حيّاً في جسد المسيح. إن تشكّل الشعب وتوجيهه كان الاتجاه الثابت لتعليم الكنيسة ورسالتها حتى منذ بداية التاريخ المسيحي.

يوجد اليوم[1] ما يتحدانا لإعادة التفكير بمسألة تشكّل الشعب (laos) ولإعادة النظر في لاهوتنا الكلاسيكي وطرقنا التقليدية الرعائية الهادفة لإعلان رسالة الله وسد حاجات شعبه. إذ نحيا في عالم من التشنجات، ليس فقط الاجتماعية والاقتصادية منها بل أيضاً الاكليسيولوجية واللاهوتية، علينا أن ندرك أننا بحاجة إلى نوع من إصلاح لغتنا اللاهوتية وعملنا الرعائي حتى نستجيب لحاجات الإنسان المعاصر الوجودية. اللاهوت والعمل الرعائي يأخذان جدياً بعين الاعتبار أن مهمتهما هي خدمة العالم. هذا يتضمّن مقاربة منتبهة إلى حاجات العالم وفي الوقت نفسه قناعة قوية بأن المسيح أتى “ليجلب ناراً إلى الأرض” (لوقا 49:12). هذا يتضمّن أيضاً أن اللاهوت المسيحي يخدم من أجل العالم ولكن ليس من العالم (يوحنا 18:15). إن خدمته واهتمامها هما بالضبط تحويل العالم. عندما يتخطى اللاهوت والخدمة المسيحيان هذا الأمر أو يهملانه يفقدان الاتصال بجوهرهما الحقيقي. إذا كان اللاهوت ومعه الخدمة قائم على إعلان المسيح ويتبعه، وإذا كان العالم قد تغيّر بالمسيح، إذاً هدف اللاهوت المطلق هو تقديس العالم وتحويله.

هدف هذه المداخلة القصيرة ليس مناقشة كل أوجه مسألة تشكّل الشعب بل بالأحرى لمناقشة ثلاث مواضيع كانت دائماً، وما تزال، مهمةً لحياة الكنيسة وجوهرية لرسالتنا المعاصرة. من ثمّ سوف أظهر كيف ولأي حد، نحن كمسيحيين نواجه بداية الألفية المسيحية الثالثة، نستطيع الاستجابة لحاجات عالمنا المسيحي.

1. يكوّن الشعب وحدة فريدة من الأشخاص. عندما نتأمّل بمعطيات العهد الجديد والجماعات المسيحية في الفترة الأولى، نجد أنفسنا في حضرة حياة جديدة مشعّة. لا يوجد ما يقدّم شيئاً موازياً بالحقيقة لهذه الحياة اللافتة للنظر في العلاقة البشرية. يقدّم العهد الجديد أن الشركة الكنسية هي، بالشكل الأكثر جوهرية، إلغاء كل شركة بشرية عابرة وتأسيس علاقة جديدة مليئة بالقوة والنشاط. هذا موجود في كلمات المسيح نفسه: “جئتُ لألقي ناراً على الأرض. فماذا أريد لو اضطرمت. ولي صبغة اصطبغها وكيف انحصر حتى تُكمَل. أتظنون أني جئت لأعطي سلاماً على الأرض. كلاّ أقول لكم بل انقساماً. لأنه يكون من الآن خمسة في بيت واحد منقسمين ثلاثة على اثنين واثنان على ثلاثة. ينقسم الأب على الابن والابن على الأب. والأم على البنت والبنت على الأم. والحماة على كنّتها والكنّة على حماتها” (لوقا 49:12-53).

هذه الشركة الجديدة، المخلوقة والمحققة في المسيح ومن خلاله، هي بالحقيقة تكافل، سكنى لله بين البشر. في الشركة المسيحية، لا يعمل الله في التاريخ البشري كعامل خارجي، لكنه هو نفسه يدخل في مشهد الحقيقة البشرية ويصبح الشخص الأساسي فيها. هذا معنى كلام يوحنا: “والكلمة صار جسداً وحلّ فينا، وقد رأينا مجده” (يوحنا 14:1). الله الكلمة تجاوز سموه محققاً خروجاً يشمله وجودياً في المصير البشري. إن شخص الكلمة المتجسد يكشف الشخص البشري الأصيل ويجعل كل كائن بشري شخصاً فريداً في شركة مع الآخرين. هذا يعني أن أساس وحدة شعب الله الجديد لا يمكن إيجادها خارج الشركة الشخصية.

إذاً، يجب أن لا تُفهم فرادة شعب العهد الجديد من خلال اتفاق بشري خارجي، أو تصرف أخلاقي مشترك، ولا حتى من خلال معتَقَد ما ورائي، بل بالواقع أن هذا الشعب هو شركة أشخاص. بالنسبة لنا، هذا يعني أنه كي نربّي شعب الله ونعمل نحو تنشئته، علينا أن نحمل في فكرنا بصدق أن هذا الشعب ليس كثرة ولا هو جمهوراً، بل هو شركة من الأشخاص الأحرار حيث لكل منهم هويته وتاريخه. إن لكل منهم طريق مفتوح نحو خلق تاريخ شخصي له. إن الجماعة الكنسية سليمة ولا تقلل من قيمة النظرة الشخصية للكائن البشري ولا هي تحطمها أو تذريها. على أي مسعى مسكوني ضمن الشركة الكنسية أن يأخذ بعين الاعتبار بشكل جدي حقيقة حرية وكمال كل شخص.

2. الكهنوت كخدمة ضمن الجماعة الكنسية ولها. ينبغي الإيضاح أنه بحسب العهد الجديد وتقليد الكنيسة في القرون الأولى، ينتمي الإكليروس والعلمانيون إلى الجسد نفسه. الإكليروس والعلمانيون هم شعب الله. الكهنة والشعب بالواقع يشكّلون “جنساً مختاراً كهنوتاً ملوكياً وأمة مقدسة” (1بطرس 9:2). ليس الكهنوت بأي شكل من الأشكال وظيفة تدخِل التفرقة أو التصنيف إلى الجسم الكنسي. لا يوجد تمييز قانوني بين الكاهن والعلماني، بل بالضبط ما يمكننا تسميته توزيعاً للمواهب. كما نقرأ في 1كورنثوس (4:12-6): “فأنواع مواهب موجودة ولكن الروح واحد. وأنواع خدم موجودة ولكن الرب واحد. وأنواع أعمال موجودة ولكن الله واحد الذي يعمل الكل في الكل”.

هذا يعني أن من خلال تعيين الخدمة، يُفرَز عضو من الكنيسة لا لكي يعمل حصرياً كمسؤول إداري، بل لكي يخدم سر الوحدة الكنسية. في التقليد الآبائي، لا يُفهَم الكهنوت أبداً كرتبة مؤسسة على علامة مطبوعة على نفس الشخص المُسام، لكن بالدرجة الأولى كهبة كنسية وكشعور ملموس بالدعوة بهدف تقديس جسد المسيح. لقد قيل بحق أن الكهنوت يتخطى كل تحديد وجودي أو وظيفي. لا يمكن اعتبار الدعوة الكهنوتية والخدمة بحد ذاتهما ولذاتهما، بل كحقيقة علائقية. بكلام آخر، الطريقة الوحيدة لفهم الموهبة الكهنوتية بشكل كافٍ هي في النظر إليها من بعدها الأنافوري (التقديمي) وبربطها بالشركة الكنسية.

لتحقيق فهم شامل لموقع الكهنوت في الجماعة المسيحية ولتقدير دوره في الوحدة الكنسية، من الضروري التشديد على أساسه الخريستولوجي والروحي. إن أي محاولة لمقاربة الدعوة الكهنوتية من وجهة نظر رهبانية، أي كخدمة مستقلة وظائفية يقود إلى التفاسير السكولاستيكية المتغيرة الغريبة عن التقليد المسيحي.

حتى الدراسة السريعة للعهد الجديد تُظهر حقيقة أن كل الألقاب المرتبطة بالخدمة والكهنوت تعود للمسيح نفسه. فالمسيح هو “رسول ورئيس كهنة” (عبرانيين 1:3)، وهو “كاهن” (عبرانيين 4:8)، وهو “معلم” و”سيد” (متى 7:23-8)، وهو “نبي وأفضل من نبي” (متى 9:11)، وهو “راعي نفوسنا وأسقفها” (1بطرس 25:2)، و”رئيس الرعاة” (1بطرس 4:5)، “وهو “بيننا كالذي يخدم” (لوقا 27:22)، وهو “خادم” (رومية 8:15). المسيح في خدمته الكهنوتية “أسلم نفسه لأجلنا قرباناً وذبيحة لله رائحة طيبة” (أفسس 2:5). وهكذا من كتّاب العهد الجديد أنفسهم يمكن لنا أن نشهد أن الكهنوت المسيحي مرتبط مباشرة بخدمة المسيح. إنه مندمج وجودياً ومحدد بخدمة المسيح.

إن الفهم الخريستولوجي للكهنوت يقود بوضوح إلى أساسه الروحي على أساس “ليس أحد يقدر أن يقول يسوع رب إلا بالروح القدس” (1كورنثوس 3:12). من خلال الروح القدس يبقى كهنوت المسيح حاضراً في “هنا” و”الآن” الحياة الكنسية. ومن خلال الروح القدس يرتبط الكهنوت في تجليه التاريخي بكهنوت المسيح. فالكهنوت المسيحي وكهنوت المسيح ينتسبان معاً ويجب عدم مقاربتهما منفصلين على اعتبار أن الروح القدس يملأ الكنيسة بحضوره ويُظهر المسيح للجميع. من خلال الروح القدس يتحقق الكهنوت كخدمة لها نتائجها الجامعة وهي تخدم في اللقاء الإفخارستي كقوة تحوّل الجماعة كلها إلى “بيت روحي كهنوت مقدس لتقديم ذبائح روحية مقبولة عند الله بيسوع المسيح” (1بطرس 5:2). ولكن برغم أن الكهنوت يرفع الجماعة إلى مستوى “كهنوت ملوكي، أمة مقدسة” (ابطرس 9:2)، إن الجماعة هي مَن كانت دوماً أساس الكهنوت الدائم والفعّال. وهكذا يكون الكهنوت خدمة ضمن الجماعة الكنسية ولها.

3. ينبغي أن يكون تكوّن الشعب (laos) مفتوحاً للإنجازات الثقافية، ولكن في الوقت نفسه مطيعاً لحقيقة يسوع المسيح ومكرّساً لها. إن على اللاهوت والتربية المسيحيين مهمة التغلغل في أعماق التاريخ البشري، هذا يعني الانهماك في حوار مع الفكر البشري. هذا لا يعني أبداً نسبية للإنجيل أو تكييفاً له مع كل إنجاز ثقافي معاصر. الثقافة ليست حسنة بدون شروط ولا هي سيئة بالمطلق. قد تكون حسنة أو عطية إلهية حقيقية، ولكنها قد تكون شراً وقوة شيطانية أو نير. قد تكون طريقاً يقود نحو فهم الإنجيل المسيحي، ولكنها قد تكون حاجزاً فعلياً في وجه وصول الرسالة المسيحية.

نحن نعيش في فترة من التاريخ حيث يُنظر فيها إلى الإنجازات البشرية على أنها مطلَقة لا بل هي تؤلّه.  إنه زمن الوثنية الجديدة حيث، في كثير من الأوقات، قد يُعتَبَر الإنسان القليل الثقافة كائناً دونياً. أؤمن أن هذا مشكلة ليس فقط لمجتمعاتنا الدهرية بل أيضاً لكنائسنا المتدهرنة. الكثير من المشاكل التي تواجهها كنائسنا مرتبطة بشدة بعقلية تضع الثقافة في رأس الاهتمامات. غالباً ما ينسى المسيحيون أن الثقافة قادرة على أن تكون وسيلة للفهم المسيحي ليس إلاّ، ولكنها لا تستطيع أن تقوم مقام الرسالة المسيحية. إن مواجهة مسألة الثقافة بمسؤولية وإدراك حدودها هما واجبنا المسيحي.

أنا لا أنوي من كل هذا الكلام أن أحرّم الثقافة كما أني لا أنوي استعادة ما يسمّى بالتشاؤم الثقافي. ما أرغب في قوله فعلاً هو أنه ينبغي بنا كمسيحيين أن نرى حقيقة الثقافة على ضوء الإنجيل المسيحي. هذا يعني أن مقاربتنا للثقافة يجب أن تكون مقاربة كنسية المحور. بالواقع، ضمن الجماعة المسيحية، يستطيع المسيحيون ممارسة دعوتهم بحثاً عن القيمة الحقيقية للحضارة وحدودها.

الكنيسة، كجسد المسيح المحفوظة في كمالها بوجوده المستمر، مهمتها ومسؤوليتها كشف ما هو مخلص لحقيقة الإنجيل وما هو لا، ما يقدّس الجسد وما يُدخِل النزاع إليه. فقط ضمن هذه الواقع الكنسي يستطيع المرء أن ينضج ويفهم بكل صحيح ما يلائم للرسالة المسيحية وما لا يلائم، أو حتى ما يخالفها. “وأمّا الطعام القوي فللبالغين الذين بسبب التمرّن قد صارت لهم الحواس مدربة على التمييز بين الخير والشر” (عبرانيين 14:5). الكنيسة، وقد يكون اليوم أكثر من أي يوم مضى، عليها أن تبقى أمينة إلى ندائها المزدوج: أولاً، من خلال قدرتها الروحية لتمييز الفروقات بين الخير والشر ورؤيتها، وثانياً لترجمة المبادئ المسيحية الأساسية بشكل مسؤول لمواجهة تحديات محيطنا التاريخي الدائم التطور. لقد مارست الكنيسة هذه الرسالة المزدوجة خلال تاريخها وهي مضطرة، اليوم كما دائماً، لأن تكون مخلِصة لدعوتها.

بديهي أننا نعيش في تعددية حضارية ونحتاج لمعايير مواهبية أي كنسية “لتمييز الأرواح” (1 كورنثوس 10:12). بخلاف ذلك، كنائسنا سوف تتبع مجاري العالم وسوف تتكيّف مع رغباته وعاداته. إذا قبلت الكنيسة، بطيش وبدون اهتمام،  التيارات الثقافية والاجتماعية المعاصرة، من البديهي أن تنشأ الانقسامات في جسدها.

لقد أشار دوروثي ماكراي مكماهون بحق إلى أن “نشوء الشعب يبدأ، ليس مع التعليم والتدريب بل بتحوّل جذري في فهم مَن نكون بيسوع المسيح ومَن نكون في العلاقة مع الأعضاء الأخرى في جسد المسيح”. كلنا بحاجة إلى تغيير فكر (metanoia) جذري كامل ووجودي لكي نواجه حاجات شعب الله. تغيير الذهن ليس فقط الندامة على أخطائنا الماضية بل هو بالأحرى إنجاز روحي فيه وعبره نفتكر في أنفسنا وفي كيف نفهم الآخرين ونعاملهم. عندما نتكلّم عن تغيير الفكر، لا نفترض حالة تقوية شخصية أو نوعاً من التمزق في الشخصية البشرية. يظهر تغيير الفكر في جودة داخلية روحية. إنه قوة وجودية خلاّقة، شفاء وتوجيه جديد لكامل الشخص البشري نحو الحياة الإلهية. تغيير الفكر هو بالواقع موقف مسيحي عميق من خلاله تتجلّى أعمال محبتنا لتشكّل الشعب، أي من خلاله تكون أعمال محبة لله ولصوره، الكائنات البشرية.

[1]   هذه المحاضرة هي ضمن سلسلة محاضرات في أحد المؤتمرات وفي النص الأصلي يشير البروفسور سكوتيريس إلى محاضرة ألقاها Dorothy McRae Mc Mahon حول موضوع تاريخ تشكّل شعب الله. التصرف في الترجمة العربية هو بإذن من الملّف (المترجم).

Leave a comment