الشموسية في رسائل القديس أغناطيوس الأنطاكي

الشموسية في رسائل القديس أغناطيوس الأنطاكي
أنستاسيوس د. سالاباتاس
تعريب الأب أنطوان ملكي

مدخل

القديس أغناطيوس هو وجه استثنائي في المسيحية، “رجل جزيل الورع”[1]، عاش وخدم أسقفيته في سنوات ما يُعرَف بالكنيسة الأولى. لم يحفظ التاريخ الكنسي إلا بعض العناصر المتعلّقة بسيرته الذاتية وأغلبها يأتي من كتاباته هو. لكن رسائله ليست نصوصاً تاريخية ولا تُعنى بسيرته، لهذا هي لا تحتوي إلاّ تفاصيل قليلة جداً عنه.

مما نعرفه هو أن أغناطيوس كان الأسقف الثاني على أنطاكية وبدأت أسقفيته حوالي العام 70 بعد الميلاد. من الأكيد أنه التقى بعض الرسل. من الممكن أن البيئة الاجتماعية التي نشأ فيه كانت يونانية، أو على الأقل متأثرة بالثقافة اليونانية (هذا استنتاج نصل إليه بدراسة كتاباته). خلال أيام الاضطهاد الروماني على يد تراجان أُوقِف أغناطيوس وأُحضِر إلى روما ليتلقّى الشهادة. النظرة الشائعة اليوم هي أنه قُتل في الملعب المدرج الروماني المعروف بالكولوسيوم (Colosseum) [2]، ما بين العامين 107 و117.

لقد سمّى نفسه المتوشح بالله (Θεοφόρος، Theophorus)[3]، وهو لقب مميز جداً عند المسيحيين ويعني حامل الله. يشير اللقب إلى العلاقة الروحية الجوهرية التي كانت له مع المسيح. يُقام تذكاره في الكنيسة الأرثوذكسية في العشرين من كانون الأول وفي الكنيسة الرومانية في أول آب.

في أيامه الأخيرة كتب سبع رسائل قبل موته، وهي التالية: إلى أهل أفسس، أهل مغنيسية، أهل تراليا، أهل روما، أهل فيلادلفيا، أهل إزمير وإلى بوليكاربوس. الرسائل الأربع الأولى كُتبت من إزمير والباقيات من تروا في آسيا الصغرى[4].

إن رسائل إغناطيوس المكتوبة في وقت مبكر نسبياً “لعبت دوراً مهماً في فكر الكنيسة اللاهوتي وهي تمثّل نقطة مركزية في الخلاف في المناقشات العلمية للأصول المسيحية”[5]. إن أهمية الرسائل كبيرة جداً لأن فيها نجد، بشكل أساسي، أول إشارة واضحة ومباشرة إلى الخدمة المثلثة الدرجات وتوطيد السلطة الكنسية التي مركزها الأسقف[6]. إن هذه النصوص بالغة الأهمية للمسيحية جمعاء لأن بسببها عُرف إغناطيوس “أول لاهوتي كبير في مرحلة ما بعد الرسل وأول أب ومعلم للكنيسة”[7].

غاية الإشارات المختلفة إلى الشموسية في رسائل إغناطيوس

من الصحيح أن رسائل القديس إغناطيوس مليئة بالإشارات إلى الشمّاس والوظيفة الشماسية في كنيسة الفترة الأولى، لكنه أيضاً صحيح أن هذه الإشارات لا تشكّل الفكرة الرئيسية في أي من الرسائل. موضوع الشموسية يظهر في هذه النصوص كجزء من المناقشة الأوسع المتعلقة بالسلطة الكنسية والخدمة الثلاثية الدرجات. يمكن إيجاد الإشارات إلى الشموسية في كل الرسائل ما عدا الموجّهة إلى أهل روما. لأول مرة في تاريخ الكنيسة يُشار إلى درجات الكهنوت الثلاث بوضوح[8] وبنفس الترتيب الذي نعرفه اليوم. فالشماس (Diakonos) يأتي في المرتبة الدنيا أو الأولى من الخدمة المسيحية بينما الكاهن (Presbyteros) يأتي في الثانية، فيما يأتي الأسقف (Episkopos) في الثالثة التي هي حكماً الأعلى.

القديس إغناطيوس واضح جداً في ما يختص بالخدمة الكنسية وهو يساهم بشكل كبير في التاريخ الكنسي عن طريق:

1.     تقديم أسماء هذه الخدمات الثلاث[9]

2.     تقديم وظائف هذه الخِدمات، الليتورجية منها والرعائية، بالشكل الذي كانت عليه في أيامه[10]

3.     توضيح أن هذه الخِدمات كانت مختلفة فيما بينها وفي وظائفها[11]

4.     تفسير خدمة الكنيسة الثلاثية على أنها الخدمة الأرضية المنظورة التي تشابه المثال الأول السماوي[12]

5.     التشديد على فكرة الوحدة في الكنيسة بما يتطابق مع الوحدة التي يختبرها الثالوث[13].

يؤمن القديس إغناطيوس بشكل ثابت بأن الشمامسة والكهنة والأساقفة هم “معيَّنون بحسب إرادة يسوع المسيح”[14]. إنه يدعم النظرة بأن الشمامسة والكهنة والأساقفة هم بلا ريب فئة مفروزة من الناس مدعوة لخدمة المؤمنين. بصوته النبوي[15]، يدعو القديس إغناطيوس الشعب إلى الاهتمام بهم[16].

وهكذا يتّضح أن الإشارات إلى الشموسية في كتابات هذا القديس هي جزء من نظريته حول السلطة في الكنيسة والخدمة المسيحية.

العلاقة بين الأسقف والشماس بحسب القديس إغناطيوس

يوجد الكثير من المقاطع المثيرة للاهتمام في رسائل إغناطيوس حيث يشير إلى العلاقة الروحية وحتى الرعائية والليتورجية بين الأسقف والشماس. بعض هذه الإشارات رمزي والبعض الآخر واقعي.

الأسقف إغناطيوس يدعو الشماس “عبده”[17] وهذه بالتأكيد عبارة رمزية مهمة جداً تُظهر مدى احترام الشمامسة لأسقفهم. إن كلمة “عبده συνδουλος” تعني أنهما، الأسقف والشماس، يتبعان الطريق الروحية نفسها، ويؤمنان بالمسيح نفسه ويتبعانه وهما مسؤولان روحياً أمامه. الشماس “يخضع للأسقف”[18]. يمكن فتح مناقشة كبيرة هنا، لكننا نفضّل أن نشير فقط إلى بعض الأسئلة. ما هي المجالات التي يخضع فيها الشماس للأسقف؟ أهي على المستوى الإداري؟ أهي على ارتباط بالعمل الرعائي والمسؤولية التي قد يتحمّلها الشماس؟ أم هي مرتبطة بالوظيفة الليتورجية للشماس؟

الحقيقة الفعلية هي أن الشماس، في كل الكتابات الأغناطية، يبدو كمساعد للأسقف[19]. إنه يتمّم إرادة الأسقف كما تمّم يسوع إرادة أبيه[20]. في الوقت نفسه يعتبر إغناطيوس أن الشماس هو “الأغلى لديه”[21]، وهو الذي أوكلت إليه خدمة يسوع المسيح”[22]. بحسب W.R. Schoedel “هناك رباط قوي بين الأسقف والشماس عند أغناطيوس”[23]. إنه يفسّر هذه العلاقة باقتراح أنها “قد تعكس مرحلة أبكر في تطور هذه الخدمة عندما لم تكن هاتان الرتبتان قد اندمجتا بالكهنوت. لكن قد يكون هناك عوامل أخرى كافية لشرح هذا الاهتمام الخاص الذي يُعطيه إغناطيوس للشمامسة: دورهم الفعّال في الأمور العملية وبخاصة خدمتهم لإغناطيوس شخصياً، واهتمام خاص من جهة إغناطيوس بدعم أولئك الذين يضعهم موقعهم أحياناً في‘أوضاع صعبة‘”[24].

يوجد في كتابات القديس إغناطيوس إشارة واحدة إلى علاقة الشماس بالكهنة[25] حيث ظهر الشماس مسؤولاً أمام الكاهن[26]. هذه العلاقة غير محددة جيداً “ربما لأنها ليست علامة أساسية لهذه الوظيفة”[27].

الشماس صورة للمسيح

يوجد في بعض نصوص القديس أغناطيوس إشارات إلى أن الشماس هو صورة للمسيح نفسه[28]. واضح جداً أنه يحب شمامسته ويحترمهم كثيراً. الشماس، الذي يعمل جنباً إلى جنب مع أسقفه “محترَم”[29] مثل يسوع المسيح إذ “أُوكِلَت إليه خدمة يسوع المسيح”[30]. بحسب القديس أغناطيوس، الأسقف موضوع فوق الشعب “في مكان الله”[31]، وهو “رمز للآب”[32]. أيضاً هو يماثل الكهنة بالرسل[33].

في كل الإشارات المتعلقة بالموضوع يظهر الشماس نموذجاً أو رمزاً[34] أو حتى صورة[35] للمسيح. تبدو الفكرة مستندة إلى العهد الجديد. ربنا، في كلامه عن نفسه وعن خدمته على الأرض يقول “ابن الإنسان لم يأتِ ليُخدَم (διακονηθήναι) بل ليخدُم (διακονήσαι)”[36]. وهكذا فهو يرى نفسه كشماس للكنيسة وللشعب مقدماً بذلك للكنيسة نموذجاً أصلياً (prototype) للشموسية.

يمكننا أن نفترض أيضاً أن الشماس كصورة كنسية تمثل المسيح، بحسب القديس إغناطيوس، يظهر أكثر أهمية من الكاهن، أقلّه في كنيسة أنطاكية، بالرغم من أنه (الشماس) يأتي بالتأكيد في المرتبة الثالثة[37] من التراتبية الكنسية. من المثير للاهتمام أن نلاحظ أن النظرة الأغناطية للشماس كصورة ليسوع المسيح، موجودة أيضاً في بعض الكتابات المسيحية المبكرة، كرسالة بوليكربوس إلى أهل فيليبي[38]، تعاليم (ديداكية) الرسل[39] والقوانين الرسولية[40].

صار الشماس في مرحلة لاحقة صورة لملاك بفعل التطور الليتورجي للخدمة. القديس يوحنا الذهبي الفم[41] وثيوذوروس الموبسيويستي في العظات[42] يعلنان بوضوح أن الشماس عند لباسه زناره (orarion) خلال الخدمة في الكنيسة هو كملاك طائر. إنه يتحرّك ايضاً “بين الإلهي والأرضي حاملاً الرسائل”[43] مثل الملاك.

استنتاجات

إغناطيوس المتوشح بالله، أسقف أنطاكية، هو شخصية مهمة في الكنيسة المسيحية في عصورها الأولى. إنه أول اللاهوتيين الفائقي الأهمية بعد الرسل. يجد الدارس المعاصر في رسائله تفاصيل كثيرة تتعلّق بواقع حياة الكنيسة في زمانه. من أهم المواضيع في الفكر المكتوب لهذا القديس هي السلطة الكنسية ودرجات الكهنوت المسيحي الثلاث. ترد الشموسية، التي هي المرتبة الأولى والأصغر من الكهنوت، في نصوص هذا القديس دون أن تكون موضوعه المركزي.

يعتبر هذا الكاتب الإلهي أن للشماس ولخدمته الشموسية قيمة كبيرة لكنيسة أنطاكية وغيرها. وهو، كأسقف أنطاكية، متعاون بقوة مع شمامسته ليؤمّن أفضل رعاية ممكنة لرعيته. بحسب كتاباته، إنه مرتبط روحياً بالشمامسة بالطريقة نفسها التي يرتبط بها الآب بيسوع المسيح. وهكذا، يعتبر الشماس صورة للمسيح الذي كان بحسب العهد الجديد أول شماس للكنيسة.

يتبع الشماس دائماً أوامر أسقفه كونه مسؤول أمامه. لكن لا يوجد أي إشارة واضحة في نصوص القديس إغناطيوس إلى وظائف الشماس الفعلية الرعائية والليتورجية أو غيرها. ختاماً، لا يوجد أي إشارة مباشرة إلى الشماسات.

From: A. Salapatas, “A short essay on Early Church History”, Theologia, vol. 70, issue 2-3, Athens 1999 (pp. 513-520).

[1] Henry Chadwick, The Early Church, Penguin Books, London 1988, p.30.

[2] Στυλ. Παπαδόπουλου, Πατρολογία, vol.Ι, Athens 1982, p.178. E. W. Βarnes (in The Rise of Christianity, London 1948, p.261) believes that “the story of the martyrdom of Ignatius is edifying legend, not contemporary histoιy”, suggesting that this is “the invention of a hagiographer”, because “of Ignatius himself little is known”.

[3] Παν.Χρήστου, «Ιγνάτιος», in Θρησκευτική και Ηθική Εγκυκλοπαίδεια, vol. 6, Athens 1965, col. 705.

[4] Μ.W. Holmes (ed.), The Apostolic Fathers Apollos-Leicester 1989, p.80.

[5] W. R. Schoedel, Ignatius of Antioch: A Commentary on the Letters, Philadelphia 1985, p.1.

[6] Δημ. Μπαλάνου, Πατρολογία, Athens 1930, p.43ff.

[7] Στυλ. Παπαδόπουλου, op. cit., p. 178.

[8] A.D. Salapatas, “The Diaconate in the Eastern Orthodox Church” in Diaconal Ministry, Past, Present & Future, edited by Peyton G. Craighill, Rhode Island 1994, p.41.

[9] Trall. 3,1; Trall.7,2; Smyrn. 8,1; Polyc. 6,1.

[10] Ιακ. Πηλίλη, Η Χριστιανική Ιερωσύνη, Athens 1988, pp. 289-294.

[11] Μεθ. Φούγια, Γένεσις και Ανάπτυξις της Χριστιανικής Ιερωσύνης, Athens 1972, p.79.

[12] Magn. 6,1; Trall. 2 & 3,1. J. Pelilis, op. cit., p. 265.

[13] According to Hans von Campenhausen, “Just as Christ was united to his Father, so must Christians be subject to their presbyters and deacons and all of them to the bishop…”. (Ecclesiastical Authority and Spiritual Power in the Church of the First Three Centuries London, p. 100).

[14]  J.R. Wright , “The Emergence of the Diaconate”, in Liturgy (Journal of the Liturgical Conference), vol.2, No 4, Washington D.C. 1982, p.20.

[15] L. Goppelt , Apostolic and Post-Apostolic Times, London 1970, p. 193.

[16] Philad. 7,1.

[17] «σύνδουλος», in Ephes. 2,1; Magn.2; Philad. 4; Smyrn 12,2. Βιβλιοθήκη Ελλήνων Πατέρων και Εκκλησιαστικών Συγγραφέων, «Ιγνάτιος ο Αντιοχείας», vol. 2, Athens 1955, p. 261ff.

[18] Μagn.2.

[19] James Μ. Βarnett, The Diaconate -A Full and Equal Order, New York 1981, p. 50.

[20] Μagn. 6,1; Trall. 3,1.

[21] «των εμοί γλυκυτάτων», in Magn. 6,1.

[22] Magn. 6,1.

[23] W.R. Schoedel, op.cit., p.46.

[24] Ibid.

[25] Magn 2.

[26] The particular term used here by Ignatius is “presbytery” not “presbyters”, although this does not seem to have any great significance.

[27] J.V. Collins, Diakonia: Re-interpreting the Ancient Sources, New York-Oxford 1990, p. 240.

[28] W.R. Schoedel, op.cit, pp. 113-4.

[29] Trall. 3,1.

[30] Μagn. 6,1.

[31] Ibid.

[32] Μagn. 13,2; Trall. 3,1; Smyrn. 8,1

[33] Trall. 2,2 & 3,1; Philad 5,1; Smyrn. 8,1.

[34] J.M. Barnett, op.cit., pp. 50-1.

[35] Ibid.

[36] Matt.20,28; Mark 10,45.

[37] Smyrn. 8,1; Polyc. 6,1.

[38] Polyc. Phil. 5,3.

[39] R.N.Connoly, Didascalia Apostolorum, Oxford 1929, p.88.

[40] Apostolic Constitutions 2,26,5.

[41] Παντ.Χανόγλου, Διaκovικόν, Edessa 1989, p.214.

[42] A.Μingana (ed.), Commentary of Theodore of Mopsuestia on the Lord’s Prayer and on the Sacraments of Baptism and the Eucharist, Cambridge 1933, p. 84.

[43] R.F.Grein, The Renewal of the Diaconate and the Ministry of the Laos, Rhode lsland 1991, p. 9.

Leave a comment