نظرة أرثوذكسية إلى الأسقفية

نظرة أرثوذكسية إلى الأسقفية
مختارات من محاضرات الأب يوحنا رومانيدس
تعريب الأب أنطوان ملكي

 

في زمن العهد الجديد لا نجد أساقفة ملكيين. الأسقف (proestos) هو مركز الوحدة المنظورة في الكنيسة. القديس أغناطيوس، مشيراً إلى الدرجات الثلاثة من الكهنة، يقول أنهم عُيّنوا بحسب فكر يسوع المسيح وقد عيّنهم كضمان، بحسب إرادته وبروحه القدس. بما أن الإفخارستيا المقدسة هي طب عدم الموت فالوحدة مع المؤتمَنين على الممارسة الليتورجية الصحيحة والتعليم المختص بالأسرار هي ضرورة مطلقة للخلاص. وهكذا، يوجد علاقة لا تنفك بين الأسقف والإفخارستيا. بحسب إكليسيولوجيا القديس إغناطيوس، تُصان وحدة الكنيسة في الإفخارستيا المقدسة التي يؤمّها الكهنة. وعليه، يقول القديس إغناطيوس: “اتحدوا مع أسقفكم ورؤسائكم وليكن اتحادكم رمزاً وأمثولة للخلود” (مغنيسية 6). “أرجو أن تفعلوا كل شيء تحت رئاسة أسقفكم كرمز لله والكهنة كرمز لمجمع الرسل والشمامسة الذين أحبهم كمؤتَمَنين على خدمة يسوع المسيح” (مغنيسية 4، 6، 7 ويوليكربوس 6).

لكن المؤمنين لا يخلصون من خلال الأسقف لأنه شخص ذو قوى سحرية. فالكنيسة، جسد المسيح الخاص، يفعّل الله فيها الخلاص بالمسيح بواسطة روحه في الأسرار المشتركة. بالنسبة للقديس إغناطيوس، الأساقفة هم صورة المسيح والكهنة هم صورة الرسل. هنا يستعير القديس إغناطيوس مفهوم الأسقف كصورة للمسيح من ممارسة الكنيسة الليتورجة: أسقف واحد لمركز إفخارستي واحد. لا يشير إغناطيوس أبداً إلى الكهنة كصورة للمسيح أو في مكان الله، ولو كانوا كذلك لكان أشار بدون شك، مع أنهم في الجماعات التي بدون أسقف هو مقيمو الأسرار الحقيقيين والقانونيين.

لا ترِد في رسائل القديس إغناطيوس فكرة أن الأسقف هو ما كان عليه الرسل في الماضي. إن الكهنة هم المقارَنين بالرسل دائماً. فالرسل كانوا يأمرون بشكل عام أمّا الأسقف فسلطته محددة في جماعة واحدة. الرسول كان شخصاً متنقلاً في كل مكان مؤسّساً الكنائس. عندما عينت بعض جماعات القرى كهنة بدل الأساقفة انخفض عدد الأساقفة في المدينة الواحدة إلى واحد مع ازدياد في سلطته. عندما انتشر هذا الأمر، خسر أساقفة القرى الباقين سلطة السيامة. في آخر الأمر، تطورت فكرة أن الأسقف المحلي هو مركز الإفخارستيا وتطابقت الأسقفية مع البنية السياسية للإمبراطورية. ومع الوقت لم يعد هناك حاجة لأسقفة القرى لأن حياة الجماعات انتظمت بشكل جيد مع الكهنة.

الكهنة الأرثوذكسيون هم ما كان عليه أساقفة القرى في الماضي، فهم يعملون من دون الحق بالسيامة، وهي الفرق الوحيد بين الكهنة والأساقفة في الأرثوذكسية. في بادئ الأمر، كان لكل مركز ليتورجي في مدينة الإسكندرية أسقف. في روما، كان الكهنة يُعيّنون للمراكز اللتورجية المختلفة ولكنهم في الأصل لم يكونوا مُخوّلين بإقامة الإفخارستيا، بل كان يُرسَل جزء من قُدُسات القداس الذي يقيمه الأسقف إلى المؤمنين المجتمعين في المراكز الأصغر حجماً. عندما حصل الكهنة في نهاية الأمر على الإذن بإقامة الليتورجيا، استمر أسقف روما بإرسال جزء من قُدُسات ليتورجيته لتُوضع في كؤوس المراكز الليتورجية الصغيرة. هذه الممارسة استمرّت في روما إلى القرن الرابع عشر ولم تختفِ كلياً إلى العام 1870. وهكذا، منذ وقت مبكر، قد أدخلت الكنائس في روما فكرة أن قداس الأسقف هو احتفالي وأن القُدُسات التي يقدّسها الأسقف هي أرفع مقاماً من تلك التي يقدّسها الكهنة.

عندنا في الأرثوذكسية مجمع (collegiality) الكهنة يترأسه الأسقف. العلامة المميِّزة للأسقف ومجمعه من الكهنة ليست أنهم مخوَّلون إقامة الأسرار كوسطاء بين الله والناس، فهم ليسوا سوى جزءاً من كامل جماعة جسد المسيح التي فيها عمل الله بنفسه الخلاص في الأسرار المشتركة. ما ميّز الإكليروس هو مسؤوليتهم في الحفاظ على الجسد متحداً في محبة المسيح وإبقاء قوى الشيطان والانقسامات خارج الكنيسة.

ليس الإكليروس فوق الجسد المحلي بل هم أعضاء فيه أُعطُوا نعمة خاصةً ليكونوا مركز الوحدة والقوة الضابطة التي تحمي حياة المحبة المشتركة في المسيح وتنمّيها. وظيفة الأسقف كانت ولم تزل أنه معلم بإمتياز والمشرف على حياة الجماعة المحلية. الأسقف، أقله في الممارسة الليتورجية الأرثوذكسية، كان ولم يزل أيقونة الراعي الحقيقي وصورته لأنه يحمل على كتفيه ثِقل الجماعة كلها.

من الناحية القانونية، أعطت الكنائس بعض الأساقفة سلطات إضافية لأصلها الرسولي: كورنثوس، أفسس، أنطاكية، الإسكندرية، أورشليم، القسطنطينية، روما وغيرها. بما أن روما كانت الكرسي الرسولي الوحيد في الغرب، فقد برزت كثيراً خاصةً في القرون الوسطى. كما يشير القانون الثامن والعشرون من المجمع المسكوني الرابع، إن تقدّم روما والقسطنطينية لم يكن لأسباب دينية بل سياسية. انتقلت العاصمة إلى القسطنطينية ومعها أولية الشرف التي لأسقفها، وصار الثاني في التسلسل احتراماً لروما القديمة. الصراع كان لأسباب سياسية واقتصادية واجتماعية أكثر منها دينية. لم نزل نعترف بأولية شرف لروما والقسطنطينية ولكن لا نعترف بسلطة عالمية لهما.

يُفهَم مصدر التشديد الآبائي على المساواة بين الأساقفة (القديس كبريانوس) من خلال الافتراضات:

1.     الحياة الإفخارستية المشتركة الظاهرة محلياً هي غاية بذاتها

2.     الجماعات الفردية مرتبطة ببعضها البعض من خلال هويتها الموجودة في المسيح

3.     ملء المسيح يقيم في المؤمنين الذين يجتمعون في الحياة في المسيح

4.     الأسقفية هي جزء غير منفصل عن هذه الحياة المحلية.

الأساقفة متساوون لأن الجماعات متساوية. لا يمكن أن يكون تجلياً محلياً لجسد المسيح أعلى أو أقل مقاماً من تجلٍ آخر. بطريقة مماثلة، صورة المسيح الحيّة، أي الأسقف، لا يستطيع أن يكون صورة المسيح بدرجة أقل من غيره، لأن المسيح، الذي صورته الأساقفة، هو واحد على نحو متطابق.

من وجهة نظر أرثوذكسية، لا نستطيع الكلام عن مجمعية (collegiality) الأساقفة والبابا كوكيل ورئيس لكل الأساقفة. كما أشرنا، يمكن الكلام عن مجمعية الكهنة مع الأسقف مترئساً. في أي حال، نسخة المجمعية التي يقدمها الفاتيكان الثاني وفيها أسقف روما هو الرأس وبالتالي هو رأس معصوم في كنيسته الكاثوليكة فيما كل الأساقفة يترأسهم أسقف روما هم معصومون في الكنيسة كلها هو طريقة أخرى لفَرض البابوية على المسيحية. وجه مهم آخر لهذا الموضوع الذي لا ينفد هو التسلسل الرسولي.

للتسلسل الرسولي في الأرثوذكسية وجهان: 1) تاريخي أي بوضع الأيدي و2) نقل الإيمان الرسولي الصحيح. تكون السيامة شرعية فقط عندما تشترك الجماعة. تقول الصلاة: “بانتخاب الشعب، إكليروس وعلمانيين، يُسام المرشح إلى الأسقفية”. في الشرق نتحدث عن خمسة كراسٍ وفي الغرب عن ملكية واحدة (monarchy). تسلسل السلطة الشرفي هو كالتالي: روما، القسطنطينية، الإسكندرية، أنطاكية وأورشليم. تطوّر التسلسل التراتبي عبر الملاءمة السياسية من خلال النظام المدني لللإمبراطورية الرومانية وليس من خلال الممارسة الدينية في اليهودية.

كل الأساقفة متساوون. مع هذا، نعترف بمتقدم بين متساويين، أسقف روما أو أسقف القسطنطينية، وذلك للترتيب. إنه يرأس الاجتماعات والخِدَم لكن قوة سلطته لا تمتد إلى أقاصي الأرض.

Leave a comment