الانتباه والثقافة الرقمية

المتقدم في الكهنة جورج كوستاندوبولوس

نقلها إلى العربية أسرة التراث الأرثوذكسي

الحياة المشتتة

وعدتنا ثقافتنا السيبرانية الاقتحامية الواسعة الانتشار بطوباوية تكنولوجية، فإذ بها بالمقابل قد قذفت بأزمة روحية تشظّت فيها التجربة الإنسانية بشكل منهجي، وضاعفت من تهديد تماسك البشر الذاتي كثيراً. إذ نعيش في ثقافة الانحرافات المنظمة، فإن أفكارنا المعزولة والمتقطعة تمنعنا من رؤية كمال الحياة واختباره. إن الارتباك والتهشّم لهما عواقب سلبية على تنظيم المعرفة؛ إذ يمنعاننا من إشراك عمقنا الروحي ويجعلانا غير قادرين على إشراك عمق الآخرين الروحي، لأننا نكون قد فقدنا الاتصال بشخصيتنا ولا يمكننا أن نأخذ شخصية الآخر ولا شخصية الله.

ابتداءً من العام 2009، نشرت صحيفة نيويورك تايمز سلسلة من المقالات تحت عنوان “مُقادون إلى التلهّي”، فيها تقارير عن الحوادث والوفيات التي قام بها سائقون متلهّون. ثم توسّعت السلسلة لتشمل “الأطباء المتلهّون”، حيث تحدّثت عن عدد كبير من الجراحين الذين يجرون مكالمات شخصية خلال الجراحة؛ وعن فنيين طبيين يرسلون رسائل نصية أثناء تشغيل آلات المَجَازَة القَلْبِيَة الرِئَوِيّة؛ وأطباء تخدير يتسوّقون عبر الإنترنت لشراء تذاكر الطيران…

“… العالم وراء رأسك”، هذا الوضع أشار إليه ماثيو كروفورد معتبراً أنه “أزمة ملكية ذاتية”، بحجة أننا نعيش الآن في “اقتصاد انتباهي” مناقشاً أن اهتمامنا ببساطة ليس موجهاً إلى حيث نريد، معتبراً أن “الجهد لنكون حاضرين بشكل كامل” هو جهاد مستعصٍ… وفقاً لكروفورد ، لقد أصبحنا “لا أدريين” بشأن ما يجب الانتباه له مما يعني أننا لم نعد نعرف ما الذي ينبغي تقديره. ونتيجة لذلك، أصبحت حياتنا الداخلية “من دون شكل”، وأصبحنا سريعي التأثّر بما يُقدَّم لنا من قوى تجارية قادرة حلّت محل السلطات الثقافية التقليدية.

من ناحية أخرى، أن نكون منتبهين هي الخطوة الأولى لادّعاء إنسانيتنا وقوّتنا وتصميمنا كبشر. نحن نختار ما ننتبه له، وهذا، بالمعنى الحقيقي يحدد ما هو حقيقي بالنسبة لنا؛ أي ما هو موجود واقعياً في وعينا. وعلى النقيض من ذلك، فإن الارتباك والتهشّم يكشفان عن فراغ أخلاقي في مركز وجودنا، مما دفع كروفورد إلى الدعوة إلى “أخلاق” و”نساك” الانتباه للوقت الضائع، مرتكزاً على اعتبار واقعي للعقل البشري.

أن نكون منتبهين

من دون أي رغبة بالتقليل من أهمية العمل اليدوي (الذي طالما مارسه ودعمه الجبل المقدس عِبر تاريخه الطويل)، أود أن أركّز على اللحظة نفسها التي بحسب المنطق تسبق “الإنتباه”، بغض النظر عن وجود أي نشاط قد يُعتبر ضرورياً أو مفيداً (وقد يتبع بحسب المنطق). كما سوف نرى، فإن الانتباه يقدّم لنا استجابة عميقة وفعالة لثقافتنا الحديثة القائمة على التشوشات المنظمة. من المؤكد أن “أخلاق ونساك الاهتمام” اللذين يسعى إليهما كروفورد هما أمر أساسي للأنثروبولوجيا الأرثوذكسية وعلم النفس الأخلاقي الأرثوذكسي، وهما: ممارسة “الانتباه” (προσοχή) أو “مراقبة” النفس أو “الاهتمام” بها (προσέχειν σεαυτώ).

هذه العبارة، وهي على ذات صلة سطحية فقط بالنصيحة السقراطية “اعرفْ نفسك” (γνώθι σαυτόν) ترِد بأشكال مختلفة في العهد الجديد، ولكنها في الحقيقة مستمدة من كتاب سفر التثنية (العهد القديم) 4: 9: ” انما احترز و احفظ نفسك جدا لئلا تنسى الامور التي ابصرت عيناك و لئلا تزول من قلبك ” (πρόσεχε σεαυτώ και φύλαξον τήν ψυχήν συν)، أو بشكل آخر، من سفر التثنية 15: 9 ” احترز من ان يكون في قلبك كلام لئيم” (πρόσεχε σεαυτώ μή γένηται ρήμα κρυπτόν έν τή καρδία σου ανόμημα). هذه العبارة، التي هي حتمية أخلاقية، لها تاريخ طويل وغني، يمكن من خلاله الاستشهاد هنا ببضعة أمثلة فقط.

“بالرغم من أن حياة القديس أنطونيوس لا تصف ممارسة الانتباه بأي تفصيل، فإن القديس باسيليوس الكبير يصفها بشكل مطوّل. بعيداً عن “مراقبة الذات” المحض خارجية، ومن دون أي علاقة بأي شكل من أشكال امتصاص الذات الأنانية، فإن الانتباه شامل بمداه فيما هو في نفس الوقت:

(1) أيقاظ المبادئ العقلانية التي وضعها الله في النفس

(2) الإشراف اليَقِظ على تحركات الفكر، التي تسيطر على حركات الجسد والمجتمع ككل

(3) الوعي لأولوية الفكر (أو النفس) على الجسد، وأولوية جمال الله على اللذة الحسية

(4) الارتباط بالحقيقة ورفض الأوهام العقلية

(5) فحص الذات ورفض التطفل على شؤون الآخرين

(6) وأقله، معرفة الله بذاتها، بقدر ما تكون “الذات” صورة الله، وصِلَة معها. يختصر القديس باسيليوس عظته “انتبه إذاً لنفسك حتى تنتبه لله (πρόσεχε ούν σεαυτώ, ίνα προσέχης Θεώ)”.

إن ممارسة الانتباه إلى الذات، التي تأسست بثبات في القرن الرابع، بقيت رئيسية للأنثروبولوجيا والأخلاق المسيحية. الأجيال اللاحقة من الكتّاب والممارسين طوروا المفهوم، إجمالاً محاذين الانتباه بالممارسة القريبة كالهدوء (ησυχία) واليقظة (νήψις). في هذا الشكل الأكثر شمولية، الذي اقترحه القديس باسيليوس أصلاً، أعطي دور تأسيسي لليقظة في الحياة المسيحية، واعتُبر في النهاية قرينة ضرورية وشرطاً مسبقاً للخلاص.

من الضروري شرح التشديد الاستثنائي على اليقظة ليس لأن الفكر البشري معرّض للتشتت وحسب، بل لأن تحلل حياتنا الداخلية يبدأ بالتحديد بالسقوط، عندما فصلت البشرية نفسها عن الله. من وجهة النظر هذه، يمكن القول بأن القول بأن “الذهول (Distraction)” هو “مصدر خطيئة الذهن الأصلية” هو كلام حق.

(Source: Orthodox Heritage)