قضايا أخلاقيات علم الحياة في منظور اللاهوت الأرثوذكسي

الميتروبوليت ييروثيوس فلاخوس

نقلته إلى العربية الخورية جولي عطيه

1. مدخل

لقد بحثتُ لسنواتٍ عديدةٍ في مسائل أخلاقيّات علم الحياة، والَّتي بَرزَتْ مِن قضايا عِلمِ الوراثة المتعلّقة ببداية الحياة البيولوجيّة، وتمديدها، ونهايتها. وقد نتجَ عن هذا العمل كتابٌ عنوانه “أخلاقيّات علم الحياة ولاهوت علم الحياة” (Bioethics and Biotheology)، والذي نُشرَ باليونانيَّة (فقط حتَّى الآن). يحاولُ هذا الكتاب أن يقدِّمَ عرضًا مقتضَبًا للمشاكلِ المختصَّةِ بِعلْمِ الوِراثةِ مِن وجهةِ نظرِ البيولوجيا الجُزَيئيَّة (molecular biology) والهندسة الوراثيَّة (genetic engineering)، ويعرضُ في نهايةِ كلِّ فصلٍ النَّظرة اللاَّهوتيَّة للكنيسةِ الأرثوذكسيَّة إلى كلِّ موضوعٍ باختصار.

يجمعُ النَّصُّ التَّالي النَّبذات التي تلخّصُ نظرةَ الكنيسةِ الأرثوذكسيّةِ إلى قضايا أخلاقيّات علمِ الحياة، كما وَرَدتْ في الكتابِ المذكورِ أعلاه.

2. بداية الحياة

أ) رسم خريطة الجينوم البشري

1) بشكلٍ عامٍّ، لا ترفضُ الكنيسةُ الأرثوذكسيّةُ الاكتشافاتِ العلميَّة. إنَّها تقبلُ بنتائجِها التي قد يكونُ لها أثرٌ إيجابيٌّ ونافعٌ للبشر. وبالطبع، كما يعلّمُ آباءُ الكنيسة، لا تَضارُبَ بينَ اللاَّهوتِ والعِلم، إذ إنَّ لكلٍّ منهُما أهدافًا ووظائفَ مختلفة. فالعِلمُ يحاولُ تحسينَ ظروفِ حياةِ الإنسان، لأنَّ البَشرَ بعدَ السُّقوطِ لَبسوا “الأقمِصةَ الجِلديَّة”، أقمصةَ الفسادِ وقابليَّةِ المَوت. أمَّا اللاَّهوت، فيَقودُ الناسَ إلى الشَّركةِ معَ الله والتألُّه.

أَضِفْ إلى ذلك أنَّ ثمَّةَ علماءٌ يدركون حضورَ الله في الطبيعة. على سبيلِ المثال، قال أريس باترينوس، منسِّقُ مشروع الجينوم البشريّ في الولايات المتّحدة، في أحد أحاديثه:

“نحن الَّذين شاركنا في مشروع الجينوم البشريّ اعتبرنا جميعًا أنَّ هذا النجاحَ هو بمثابة ملامسةِ الله. وحتَّى أولئكَ الذينَ سبقَ أن قالوا إنَّهم ملحدون، شعروا بالرَّهبةِ حين اقتربنا كثيرًا من إلقاءِ النَّظرة الأولى على كتابِ الحياةِ الَّذي كُتبَ بلُغةٍ يعرفُها الله وحده حتَّى الآن. ورغمَ أنَّنا نملكُ هذا الكتاب، وقد نعرفُ بعضَ كلماتِه أو ربَّما بعضَ أحرُفِه، ليست لدينا بعدُ معرفةٌ جيّدةٌ بما يقوله، والأمرُ سيأخذُ عقودًا. وربّما سنَجِدُ أنفسَنا أقربَ إلى الله عبرَ هذا النَّجاح”.

إلى هذا، يشعرُ بعضُ العلماءِ أنَّه كلَّما تقدَّمتِ الأبحاثُ تزايدتِ الأسئلة. أريس باترينوس، الذي ذكرناهُ سابقًا، يقولُ بتميُّزٍ في مقابلةٍ معَ مجلَّةِ “العلم الشائع” (Popular Science) الدوريَّة، إنّه كلَّما زادتْ معرفتُنا لعلمِ الحياة “ازدادَ جهلُنا”. إنَّ وظيفةَ الحياةِ معقَّدةٌ إلى درجة أنَّنا ربَّما سنفشلُ في جعلِها حتميَّة. وثمَّةَ عنصرٌ هائلٌ لن نستطيعَ تخطّيه مهما حقَّقنا مِن تقدُّم. إنّ النظريَّاتِ العلميَّةَ تتطوَّرُ وتتغيَّرُ باستمرار. ولهذا السَّبب، تضعُ الكنيسةُ من جهةٍ المبادئَ اللاهوتيَّةَ الأساسيَّةَ للبشريَّة، ولكنَّها، مِن جهةٍ أخرى، تتابعُ التقدُّمَ العلميَّ بهدوءٍ وتكتُّمٍ وتأنٍّ، لأنَّ اكتشافاتِ اليومَ قَد تنقلبُ.

2) إنَّ قوى الله المانحةَ الوجودِ والواهبةَ الحياة، والتي يُسمّيها اللاهوتُ الآبائيُّ “المبادئَ الداخليَّة” (logoi)، موجودةٌ ضمنَ الخليقة، وبالتَّالي داخلَ الحمضِ النوويّ. هذه هيَ المبادئُ الداخليَّةُ للكائنات. بحسب القدّيس غريغوريوس بالاماس، تشتركُ الخليقةُ كلُّها في قوى الله المانحةِ الوجود: فالحيواناتُ والنباتاتُ تشتركُ في قواه الواهبةِ الحياةِ كما في قواه المانحةِ الوجود؛ ولا يشتركُ البشر في القوى المذكورة فحسب، بل أيضًا في قواه التي تلقّنُ الحكمة؛ ويشتركُ القدّيسون والملائكةُ فوق هذا في قوى الله المؤلِّهة. إن الله يوجِّهُ التاريخَ والخليقةَ نحوَ هدفٍ محدَّدٍ، ويتعاونُ البشرُ معهُ في هذهِ العمليَّةِ بِطَرائقَ مختلفةٍ. هذا ما تعنيهِ عبارةُ “التَّعاضد” (synergy) في اللُّغة اللاَّهوتيَّة. وعليه، إذا كان البشرُ قادرينَ على إنجازِ أمرٍ ما في الخليقةِ وتطويرِ المعرفةِ العلميَّة، فذلكَ بسببِ قوى الله المانحةِ الوجودِ والواهبةِ الحياةِ والملقّنةِ الحكمة. على أيّة حال، لا يمكنُ للبشرِ أن يَخلُقوا شيئًا من العَدم.

3) وفقًا للمعلومات المتوفّرة حتَّى الآن، من البارز ظهور فرقٍ صغيرٍ بين عدد الجينات لدى الإنسان والكائنات غير العاقلة. منذ عقودٍ، وقبل دراسةِ الجيناتِ بوقتٍ طويل، اعتبرَ تقليدُنا أنَّ ما يحدِّدُ الكائنَ البشريَّ هو كونهُ على صورةِ الله ويتقدّمُ نحو شبهه. هذا يُسمَّى المبدأَ الأقنوميّ. ما يمنحُ الإنسانِ قيمةً هي النَّفسُ التي تحرّكُ الجسدَ المرتبطَ بها. ليست الجيناتُ سببَ الفروقاتِ بينَ البشرِ وباقي الخليقة، وبينَ إنسانٍ وآخر، بل يعودُ الفرقُ إلى الذّهن (النُّوس) والإرادةِ الحرَّة.

4) يأملُ العلمُ أن يشفيَ في المستقبلِ الأمراضَ المختلفةَ عبر علاجِ الجينات، ولكنَّه لا يستطيعُ أن يغلبَ الموتَ بشكلٍ دائمٍ عبر الوسائلِ البشريَّة. فسوفَ يأتي وقتٌ يموتُ فيه الكائنُ البشريّ. هذا يعني أنَّهُ مِن لحظةِ تكوُّنِ الكائناتِ البشريَّةِ تتكوَّنُ فيهم جيناتُ الموتِ والشَّيخوخة. إذًا، الموتُ هو مرضٌ بالطبيعة.

5) هناك تفاعلٌ متبادَلٌ بين الجينات والبيئة. تتأثَّرُ الجيناتُ بالبيئة، والبيئةُ تتأثَّرُ بالكائناتِ البشريَّةِ الَّتي تحدِّدُ شكلَها أيضًا. في الوقتِ عينه، تؤثّرُ فينا وتحدّدُ شكلَنا الثقافةُ وقدواتُنا ومُثُلُنا العليا، وفوقَ كلِّ شيءٍ نعمةُ الله. ليسَ البشرُ ضحايا الحتميَّةِ والضَّرورةِ والطُّغيان. إنّهم يملكونَ الحريَّةَ ويمكنُهم أن يتصرَّفوا إيجابيًّا أو سلبيًّا.

6) قبلَ السُّقوط، عاشَ الكائنان البشريَّان الأوّلان كالملائكة. وبعد سقوطِهما وفسادِهما وقابليّتهما للموت، دخلا ضمنَ الجنسِ البشريّ. هكذا يفسّرُ الآباءُ ارتداءَ آدم وحوَّاء للأقمصةِ الجلديَّة. ثمَّ اتَّخذَ المسيحُ، بتجسِّدِه، قابليَّةَ الطبيعةِ البشريَّةِ للموتِ والألم، لكي يغلبَ الخطيئةَ والموت. وبعد قيامته، ألَّهَ الطبيعةَ البشريَّة، وكانَ جسدُهُ القائمُ منَ الموتِ غيرَ قابلٍ للفساد. وعليه، فالبَشرُ، مِن خلالِ أسرارِ الكنيسة، يتلقَّون جسدَ المسيحِ المتألِّهِ ويتخطّونَ قوانينَ الفسادِ وعدمِ الموت، والخوفَ منَ الموت، وتصيرُ أجسادُهم مسكِنًا للرُّوحِ القدس. في داخلِ المسيحيّين، وبواسطةِ الرُّوح القدس، يوجدُ حمضٌ نوويٌّ روحيٌّ يُلغي إلى حدٍّ كبيرٍ الآثارَ القسريَّةَ للحمضِ النوويِّ البيولوجيّ.

7) بحسبِ التَّقليدِ الأرثوذكسيّ، الحياةُ هي هبةُ الله للإنسان. إلاَّ أنَّ ما يهمُّ هو كيفَ يستفيدُ الإنسانُ من هذهِ الهِبَة، وبالأخصِّ أيَّ معنىً يعطي لحياتهِ البيولوجيَّة. لا يحيا البشرُ لكي ينغمسوا في اللَّذَّةِ ويتمتَّعوا بحياتهم البيولوجيَّة بشتّى الطرائق فقط، بل لكي يتَّحدوا بالمسيح، ويشتركوا في قوى الله المطهِّرة والمنيرة والمؤلِّهة، ويغلبوا الموت، ويحيوا إلى الأبدِ مع الإلهِ الثالوثيّ.

8) إنَّ تفكيكَ الحمضِ النوويّ قد يطرحُ مشكلةً أخلاقيّةً أخرى في المستقبل. إذا تقدَّمتْ أبحاثُ الطبّ الحيويّ (biomedical) على نحوٍ كبير، فسوفَ يتيسَّرُ التنبُّؤ ببعضِ الأمراضِ الَّتي قد تصيبُ الأطفالَ قبلَ الولادةِ وبعدَها. وسوفَ يُحدِثُ هذا الأمرُ مُعضلاتٍ على مستوى أخلاقيَّاتِ علمِ الحياة، إذ إنَّهُ سيطرحُ إشكاليَّةَ قتلِ الطفلِ الحديثِ الولادة أو غيرِ المولود، إذا كانت هذه الأمراضُ طبعًا غير قابلةٍ للشِّفاء. إن حَصلَ هذا، تدخُلُ البشريَّةُ في عصرِ تحسينِ النَّسلِ (eugenics) والقتلِ الرَّحيم (euthanasia)، حيثُ يتكوَّنُ المجتمعُ من أشخاصٍ أصحَّاء فقط. وهذا الأمرُ غيرُ مقبولٍ بالنّسبةِ للكنيسةِ الأرثوذكسيَّة.

9) في اليومِ الَّذي أُعلِنَ فيهِ هذا الاكتشافُ العظيم، أي رسمُ خريطةِ الجينوم البشريّ، كتبتْ إحدى الصُّحفِ كلامًا ذا معنًى عميق: “لقد وُجِدَتْ هويَّةُ الحياة، والبحثُ عن المعنى جارٍ”. يحتاجُ البشرُ اليوم إلى معرفةِ معنى الحياة، إجابةً على سؤال لماذا يَحيَون وما هو هدفُ الحياة. إذا لم تتمَّ الإجابةُ على هذا السؤال، فمهما زادتْ سنواتٌ كثيرةٌ على حياتهم البيولوجيَّة، سوف يكون الوجودُ مأساويًّا.

بطبيعته، يحاربُ العلمُ الطبّيّ ضدَّ الموت، لكن من دون أن يتخطَّاه. لذلك، فإنَّ أيَّ نجاحٍ في علم الطبّ، رغم إمكانيّته على إراحةِ الناس وتحريرهم مِنَ العذابِ ومختلفِ أنواع البؤس، يكشِفُ عجزَه عن تخطِّي عدوَّ البشرِ الأعظمَ الذي هو الموت. كما نعرفُ جيّدًا، يُغلَبُ الموتُ بنعمةِ الله التي تُمنَحُ بوفرةٍ ضِمنَ الكنيسة. ورفاتُ القدِّيسين تُظهرُ هذا التَّخطِّي للموت.

10) بالنَّتيجة، نحن نرحِّبُ بالاكتشافِ الجديد، أي رسم خريطة الجينوم البشريّ، على أمل أن يُفيدَ الجنسَ البشريَّ عبر إمكانيّةِ إيجادِ الكثير مِنَ الأشفيةِ الجديدة. إلاَّ أنَّنا نؤمنُ في النهاية بأنَّ “دواءَ عدمِ الموت” هوَ المسيح، القادرُ على إعطاءِ معنًى للحياةِ البيولوجيَّةِ والمرضِ والعذاب، وحتَّى للموتِ البيولوجيّ.

ب) الاستنساخ

تتعاطى الكنيسةُ الأرثوذكسيَّةُ مع مسألةِ الاستنساخِ مِن منظورِها اللاهوتيّ والكنسيّ والأنثروبولوجيّ الخاصّ. في أيّة حال، اللاهوتُ الأرثوذكسيُّ بسيطٌ وعظيمٌ في آنٍ واحد؛ لهُ أهدافٌ عاليةٌ ويستعملُ وسائلَ بسيطةً لتحقيقها، بقوَّةِ الله ومعاضدةِ الإنسان. هذه الأفكارُ اللاهوتيَّةُ البسيطةُ هي التالية:

1) ثمَّةَ فرقٌ بين المخلوق وغير المخلوق. الله غيرُ مخلوق، والبشر، على غرارِ الكائناتِ كلِّها، مخلوقون. كلُّ ما هو غير مخلوقٍ ومخلوق يملكُ قوى، إذ لا يمكنُ تصوُّرَ وجودٍ مِن دون قوى. إلاَّ أنَّ الفرق هو أنَّ قوى الأشياءِ غيرِ المخلوقةٍ هيَ غيرُ مخلوقة، وقوى الأشياءِ المخلوقةِ هي مخلوقةٌ.

إنَّ قوى الله غيرَ المخلوقة موجودةٌ في الخليقة، حتَّى في الحمضِ النوويّ. هذا يعني أنَّ قوى الله المانحةَ الوجودِ والواهبةَ الحياةِ هي في داخل الخلايا. مَهما تطوَّرَ العلمُ، فلن يستطيعَ إزالةَ الفرق بين المخلوق وغير المخلوق. ومهما أحرزَ العلماءُ من تقدُّمٍ في المعرفةِ البشريَّة، فلن يكونوا مثلَ الله غيرِ المخلوق، لأنَّ العلماءَ يعالجون المادَّةَ الوراثيَّةَ الموجودة، ولا يستطيعونَ أن يخلقوا مادَّةً وراثيّةً جديدة. لقد خلقَ الله العالمَ منَ العدم، بينما يخلقُ الإنسانُ الأشياءَ مِن موادّ موجودة.

2) قد يُنجبُ زوجان أولادًا كثيرين، ولكن تكونُ لكلٍّ منهم شخصيُّته وطباعُه الخاصَّة. وقد يتمكّنُ العلماءُ من خلقِ أشخاصٍ يُشبهون بعضَهم خارجيًّا، عبر استعمالِ الموادّ الوراثيَّةِ ذاتها، ولكن سيَملكُ كلٌّ منهم شخصيَّته الخاصَّة. في الواقع، إذا كبروا في بيئاتٍ مختلفةٍ وتقاليدَ متباينة، سيكوِّنون شخصيّاتٍ وطِباعًا مختلفةً بعضها عن بعض، لأنّهم سيتأثَّرون بالثقافة التي سيعيشون فيها، وسيتأثَّرونَ بالتقاليدِ والمُثلِ العليا التي سيُصادفونها. وحتَّى عندما يترعرعُ الناسُ في المحيطِ نفسه، سيُنمّي كلٌّ منهم شخصيَّته الخاصَّة، كما يحدثُ في حالةِ التوأمِ المطابِق.

3) يطرحُ استنساخُ البشرِ مسائلَ لاهوتيَّةً مهمَّة. يجب التَّشديد هنا على أنّه، رغم قدرة العلماءِ، عبر التدخُّلِ في الخلايا، على شفاءِ بعض الأمراضِ باستعمالِ العلاج الجينيّ (gene therapy) والعلاج الخَلَويّ (cell therapy)، وحتَّى لو أنَّ ذلكَ لم يُحرزْ حتَّى الآن النَّجاحَ المطلوب، يبقى مِنَ المستحيل أن تُحلَّ بشكلٍ نهائيّ مسألةُ قابليَّةِ الإنسانِ للموتِ والفساد. سيأتي وقتٌ يموت فيه الإنسان. قد يكونُ ممكنًا تمديدُ الحياةِ وتأجيلُ الموت، ولكنَّ الموتَ سيأتي يومًا ما. فمنذُ لحظةِ الحبلِ بنا بواسطة سائلِ أبينا المنويّ وبُويضةِ أمّنا، نرثُ الموتَ والفساد. بالتَّالي، لا تكمنُ المشكلةُ في كيفيَّةِ العيشِ لمدَّةٍ أطول وتأجيلِ ساعةِ الموت، بل في كيفيَّةِ غلبةِ الموت. هذه هي مشكلةُ البشريَّةِ الأكثرُ جوهريَّة. والغلبةُ هذه تتمُّ بواسطة حياةِ الكنيسةِ الأسراريَّة، الَّتي نتَّحدُ عبرَها بالمسيح، الَّذي هو دواء عدمِ الموت.

4) يقولُ مجمعُ كنيسةِ اليونانِ المقدَّسُ في بيانٍ صُحفيّ له حول هذا الموضوع (في 17 آب 2000):

“معرفتنا بعواقبِ الاستنساخ محدودةٌ جدًّا، وإمكانيَّاتُ قدرتنا على تقييمِ أفعالنا مسبَقًا هي أكثرُ محدوديَّة. ولهذا السَّبب، كلُّ قرارٍ حولَ تطبيقِ الاستنساخ وإجراءِ الاختباراتِ حولَه يجبُ أن يُتَّخذَ بحذرٍ كبيرٍ، وتوافقٍ مشتركٍ، واحترامٍ عظيمٍ للقيَمِ الإنسانيَّة. ثمَّةَ خطرٌ واضحٌ في تحويلِ البشر إلى أشياء واستعمالهم كأدوات.

إلى هذا، قد يقودُ الاستنساخُ إلى موقفٍ اقتصاديّ إزاءَ البشر، يتلاعبُ بهم ويجعلُهم مأجورين على نحوٍ سائب. وقد يُسلَّمُ القدرُ والكرامةُ ومستقبلُ البشر إلى الحكوماتِ أو الشركاتِ ذات الأهدافِ غير الأخلاقيَّة والأنانيَّة، أو إلى استعمالٍ متهوِّرٍ وتافه.

مَن يمكنه أن يؤكِّدَ لنا أنَّ المجتمعَ الذي يُشرّعُ اليوم – وهذا هو القانون الحاليّ – ما مَنَعَهُ في الأمس، لن يشرّعَ غدًا ما يمنعُه اليوم؟ مَن يمكنهُ أن يحمينا مِن خطرِ تحوُّلِ الاستنساخِ “العلاجيّ” إلى الخطوةِ الوَسيطةِ نحو الاستنساخ “التوالديّ” للبشر؟”

5) إنّ الهدفَ العميقَ للكنيسةِ اليوم هو مساعدةُ الناسِ على حلِّ أسئلتهم الوجوديّة حول ماهيَّة الحياة والموت. هذا أمرٌ لا يمكنُ أن يقدّمهُ التقدُّم العلميُّ أو الفلسفيّ. والأمرُ الأكثرُ إحزانًا هوَ أنَّهُ كلَّما تقدَّمت التكنولوجيا والأبحاث، ازداد ضغطُ هذه الأسئلةِ الوجوديَّة. يجبُ أن تجعلَ الكنيسةُ هذا أولويَّتها، بدلاً مِن أن تَصُبَّ تركيزها كلَّه على المستوى الاجتماعيّ والبيولوجيّ.

6) إذا سمحَ الله باستنساخ إنسانٍ، فنحنُ لا نعلمُ تمامًا ماذا ستكونُ النتيجة. ولكن لا شكَّ في أنَّها في حالةٍ كهذه، ستكونُ كائنًا مخلوقًا قابلاً للفساد.

نحنُ في الكنيسةِ نتكلَّمُ على نوعٍ آخر من “الاستنساخ” لا يمكنُ للعلم توفيره. عبر تجسُّد المسيح، اتَّحدَ المخلوقُ بغير المخلوق، فأُعطيَ كلُّ إنسانٍ إمكانيَّةَ اختبارِ اتّحادِ طبيعته المخلوقة بقوى الله غير المخلوقةِ في يسوع المسيح، بحسبِ النعمة. لقد اختبرَ القديسُّون خبرةَ التحوُّل إلى آلهةٍ بحسب النعمة، إذ قد دخلَ فيهم اللاَّمخلوق وعدم الموت، واختبروا الحياةَ الأبديَّةَ مُنذُ هذهِ الحياةِ البيولوجيَّة. ليست المشكلةُ إذًا “أن ننقلَ نواة خليَّةٍ جسديَّةٍ somatic cell”، ولكن أن يدخلَ الله فينا. اختبارٌ كهذا يعطي حياة الإنسان معنًى.

ج) أبحاث الخلايا الجذعيَّة (Stem Cell)

1) كما شدَّدنا سابقًا، لا يبتغي اللاَّهوتُ الأرثوذكسيُّ وضعَ عوائقَ في طريقِ البحثِ العلميّ الذي يهدفُ إلى إفادةِ البشرية. فكلُّ النَّجاحات العلميَّة التي أسهمَتْ في صحَّة البشرِ بدأتْ بسنينَ عديدةٍ من الأبحاث. إلاَّ أنَّ العلمَ نفسَهُ ينبغي أن يضعَ حدودًا وإطارًا يسيرُ ضمنه البحثُ العلمي. ويقوم علمُ أخلاقيَّات علم الحياة بهذه المهمَّة.

2) لا مشكلة في الأبحاثِ في الخلايا الجذعيَّةِ التي تُؤخَذُ منَ البالغين، من أجل إفادة المرضى. فالتجدُّدُ الفيزيولوجيُّ للكثير مِنَ الأنسجةِ الجسديَّة مثلَ البشرة والخلايا الدمويَّة وما إلى ذلك يعتمدُ على الخلايا الجذعيَّة.

3) يطرحُ البحثُ في الخلايا الجذعيَّة الجنينيَّة (embryonic stem cells) أسئلةً رعائيَّةً جدِّيَّةً ومعضلاتٍ أخلاقيَّةً أبعدَ منها. فالمشاكلُ اللاهوتيَّةُ تنبعُ من أنَّه من أجل الحصول على خلايا جذعيَّةٍ جنينيَّة، يُدمِّرُ العلماءُ الكَيسة الأُرَيْميَّة blastocyst، وبالتَّالي يقتلون البُويْضة المُلقَّحَة ovum أي الجنين، في الأيَّام الأولى مِن نموّه، قبل أن تتمايز الخلايا الجذعيَّة. وهذا يُسبّبُ مشكلةً لاهوتيَّةً جدّيَّة، لأنَّه وفقًا للاَّهوت الأرثوذكسيّ، النفس موجودةٌ منذ بدءِ الحبل – وهي عقيدة “وجود كيانٍ بشريّ قائمٍ من أجل ذاته منذُ اللَّحظة الأولى للحبل”، بحسب التَّعليم الخريستولوجيّ. لا تقبلُ الكنيسةُ الأرثوذكسيَّةُ بنظريَّة “عمليَّة تلقّي الرُّوح”. وهذا هو سبب وجود أعيادٍ مختصَّةٍ بالحبل، مثل عيد الحبل بالقدّيس يوحنَّا المعمدان (23 أيلول)، عيد الحبل بوالدة الإله (9 كانون الأول)، وعيد بشارة العذراء الذي يَحتفلُ بالحبل بالمسيح (25 آذار). لا يمكنُ للكنيسة الأرثوذكسيَّة أن تقبلَ بالرأي القائل إنَّه يمكنُ القيام بأبحاثٍ على البُويضة المُلقَّحة، خلال أوَّل أربعة عشر يوم بعد الحبل والتدخُّل فيها بحرّيَّة، ما يُنتج تدمُّر الكَيْسة الأُرَيميَّة التي هي نفس.

لمَّا كانَ بعضُ النَّاس يشيرُ إلى “مادَّةٍ وراثيَّة” بعد التلقيح، تجدرُ الإشارةُ إلى أنَّ المصطلحَ العلميَّ نفسه يشيرُ إلى جنينٍ (embryo) أو جنينٍ حيّ (foetus)؛ والفرقُ الوحيدُ بين الاثنين هو أنَّ الجنين يكونُ في المرحلة المبكرة جدًّا، بينما يكونُ الجنينُ الحيُّ أكثر نموًّا. ردَّ جيرهارت، أحدُ روَّاد البحثِ في الخلايا الجذعيَّة الجنينيَّة، على بعض النَّاس الذين يرون أنَّ نتيجةَ الاستنساخ ليست جنينًا بل بُويضة (مادَّة وراثيَّة)، قائلاً: “أؤكّدُ على أنَّه جنينٌ، لا أظنُّ أنَّ أحدًا يعتقدُ بأنَّه مجرَّدُ بُويْضة”.

يقول المجمع المقدّس لكنيسة اليونان حول هذا الموضوع، في بيانه الصُّحفي الصَّادر في 17 آب 2000: “تُعبّر كنيستنا عن معارضتها القاطعة إجراءَ الاختبارات على الخلايا البشريَّة الجنينيَّة. فاختباراتٌ كهذه تستتبعُ تدميرًا لا لخلايا جنينيَّة بل لأَجنَّةٍ بشريَّة.”

إنَّ الرأيَ القائلَ إنَّ الإنسانَ يبدأ بالتكوُّن ابتداءً من اليوم الرابع عشر بعد الحَبَل، قد يمنحُ عذرًا للعلماء البريطانيّين، ولكنَّه، كونه سكولاستيكيَّ الأصل وغير قائمٍ على أساسٍ علميّ، يشكّلُ معتقدًا غيرَ موضوعي، ورأيًا اعتباطيًّا. فالوعيُ الكنسيُّ والمسيحيُّ يقبلُ الإنسانَ كشخصٍ له جانبٌ أبديٌّ وخالدٌ منذُ لحظةِ الحَبَل به.

إنَّ التمييزَ بين النَّاسِ يتزايدُ على نحوٍ مُتواصِل. يدلُّ كلُّ شيء على أنَّ مجتماعاتنا اليوم على العلن عنصريةٌ تهدفُ إلى تحسين النسل. إلاَّ أنَّ محاولة تحسين الحياة لا يمكنها أن تستتبعَ قتل ملايين البشر في المرحلة الجنينيَّة.

4) إلى ذلك، إنَّ محاولة الأطباء أن يمايزوا (differentiation) الخلايا الجذعيَّة الجنينيَّة بما يوافقُ أفضليَّاتهم، تطرحُ مشكلةً لاهوتيَّة، لأنَّهم يُدمّرون الكَيسة الأُريْميَّة blastocyst. وتجب مقاربة هذا الأمر من منظور أنَّ البشرَ لا يمكنُ أن يُحسَبوا حيوانات مختبر منذ الحبل بهم، ولا ورشات عمل من أجل تأمين “أجزاء احتياطيَّةٍ حيَّة” لمنفعة بعض الناس، عادةً أغنياء، الذين يريدون العيشَ لمدَّةٍ أطوَل.

عندما تُؤخذُ الخلايا السَّلَفيَّة (progenitor cells) مِن الحَبْل السرّيّ أو مِن البالغين، فهذه حالةٌ أخرى، بشرط ألاَّ يتمّ ذلك عمدًا (إجهاض) أو يتمَّ استغلاله تجاريًّا.

يحاولُ العلماء اليوم أن يتجنَّبوا الإشكاليَّات الأخلاقيَّة التي تنتجُ عن تدمير الكَيْسة الأُريْميَّة، عبر ابتداع طرائق أخرى لإنتاج الخلايا الجذعيَّة الجنينيَّة. وإذ إنَّ الجهود لا تزال في مرحلةٍ مُبكرة، يمكنُ للكنيسة أن تنتظر حتَّى تكتملَ الأبحاث. يبدو أنَّ الوسائلَ الحديثة لا تؤدّي إلى نشوء الإشكاليَّاتِ الأخلاقيَّةِ الجدّيَّة ذاتها، لكنَّنا لا نستبعدُ نشوءَ مشكلاتٍ أخلاقيَّةٍ جديدةٍ.

5) ممَّا سبقَ وتقدَّم، يتَّضحُ أنَّ ظاهرةَالنفعية تسودُ ويتمُّ زرعها على نحوٍ مُتزايد، عبر الترويج لتكنولوجيا الإنجاب، التلقيح الصناعي، ليس بهدف مساعدة الأزواج الذين لا أطفال لهم على الإنجاب، بقدر تمكين العلماء من أخذ البُويْضة المُلقَّحة الإضافيَّة، التي ستوضَعُ في الثلاَّجة من أجل أبحاثهم.

6) إنَّالخطرَ الجوهريَّ الذي يعنينا هو احتمال أن يُنمّي العلماء إنسانًا في مختبراتهم. مِنَ المُمكن أن يكون الكائنُ الذي أُنتِجَ كِمِّيرًا (كائن خرافي مؤلَّف من حيواناتٍ عدّة)، أو هَجينًا (مثلاً إنسان-حيوان)، مع عواقب مُخيفة.

لا أعرفُ إذا ما كان الله سيسمَحُ، عبرَ الاستنساخ البشريّ في مختبرٍ، بإنتاجِ كائنٍ ذي جسدٍ بشريّ بلا نفس. هذا لا يحصلُ الآن لأنَّ حياة الإنسان مرتبطةٌ بنفسهِ على نحوٍ سرّيّ. إلاّ أنَّ النفس والجسدَ يدينان بوجودِهما إلى قوَّة الله الخالقة، بمؤازرة الأهل (الأب جون رومانيدس). وبحسب القدّيس مكسيموس المُعترف، يأتي الجسدُ والنفس إلى الوجود بأساليبَ مُتعدِّدة – مع أنّ هذا يحصلُ في الوقتِ ذاته في لحظةِ الحَبَل – إذ إنَّ النفس تتشكلُّ على نحوٍ لا يوصفُ من النَّفخةِ الإلهيَّةِ الواهبةِ الحياة، ويتكوَّنُ الجسدُ مِنَ المادَّةِ الجَسَديَّةِ الموجودة. ولهذه الأسباب، إن سمحَ الله، من أجل تأديبنا، بفصلٍ بين النفس والحياة، وخلق كِمّير أو هَجين، فالحالةُ تبدو مأساوية.

هذه كلُّها مُعضلاتٌ لاهوتيَّةٌ جدّيَّة، يجب أن تسبّبَ قلقًا بليغًا لدى العلماء والنَّاس بِعامَّة.

د) تقنيات الإنجاب

1) استنادًا إلى تعاليم آباءِ الكنيسةِ القدّيسين، ليسَ الحبلُ بالإنسان مِن عملِ الطبيعةِ على وجهِ الحَصْر، بل عملُ عناية الله بواسطةِ البشر. ينطبقُ هنا المبدأُ اللاهوتيُّ للتآزر: الله يفعلُ والبشرُ يتعاونون.

2) يجب البحث، من المنظور الرعائيّ، عن السَّببِ الذي يَدفعُ بِزوجين إلى الرَّغبةِ في إنجابِ الأولاد بأيَّةِ وسيلةٍ أو طريقةٍ. في أغلبِ الحالات، فيما خلا بعض الاستثناءات، يرتبطُ هذا الأمرُ بعَدَمِ شعورهِم بالأمانِ في الحياة، وغياب المعنى، والفشل في تحقيق هدفِهِم اللاهوتيّ كما حدَّدتهُ الكنيسة.

3) يمكنُ للمرءِ أن يستخدمَ الإنجازاتِ العلميَّةَ إلى حدٍّ مُعيَّن من أجلِ إنجابِ الأولادِ. وتعني عبارةُ “إلى حدٍّ معيَّن” أنَّ الكرامةَ الإنسانيَّةَ ينبغي أن تُحفظَ، وأنَّ حياة الإنسان ينبغي أن تتماشى مع مشيئة الله. على سبيل المثال، لا يمكنُ أن تقبلَ الكنيسةُ الأرثوذكسيَّةُ بالأمّ البديلة، أو باستعمالِ السائلِ المَنَويّ أو البُويْضة مِن متبرّع/ة (أي التلقيح الأجنبيّ heterologous fertilization)، أو باستعمال السائل المَنَويّ بعد موتِ زوجِ المرأةِ أو شريكها، وما إلى ذلك، لأنَّ مبدأ “الغاية تبرّر الوسيلة” يجب ألاّ يسود، ولأنَّ ذلكَ سيُنتجُ العديدَ من المشاكلِ اللاهوتيَّةِ والرّعائيَّةِ والقانونيَّةِ. إذًا، يمكنُ للكنيسةِ الأرثوذكسيَّة أن تقبلَ فقط “تدبيريًّا” بأن يلجأ أعضاؤها إلى الإخصابِ من الزَّوج (homologous insemination) والتلقيحِ مِنَ الزَّوج (homologous fertilisation)، واللذَّين لا يخلّفان جنينًا إضافيًّا، ولا يَصحبهما اختزالٌ انتقائيٌّ للأجنَّة داخل الرَّحم.

4) من الواضحِ أنَّ الإخصابَ الاصطناعيَّ (طفل الأنبوب) يطرحُ مشكلةً جديّةً بحسبِ وجهة النَّظر الأرثوذكسيَّة. فباستخدامِ وسيلةِ “الإنجابِ بمُساعدةٍ طبيَّة”، يتمُّ تلقيحُ بويضاتٍ عدَّة وإنتاجُ أجنَّةٍ عدَّة. يُزرعُ بعضُها في رَحمِ الأمّ، ويوضعُ ما تبقَّى مِنها مُجلَّدًا في خزائنَ مُخصَّصةٍ لذلك، مِن أجل إعطائها لأمَّهاتٍ أخرياتٍ يرغَبنَ في إنجابِ الأطفال، أو تُستعملُ لأهدافٍ بحثيَّة، أو تُقتل. والأجنَّةُ التي تُزرعُ في الرَّحم تُختزلُ هيَ أيضًا انتقائيًّا. يتلازمُ مع هذا كلّه خطرُ تحسينِ النَّسل، أي بكلامٍ آخر، انتقاءُ أفضل بويضاتٍ مًلقَّحَةٍ واختيارُ جِنسها. هذه الأمورٌ كلُّها غيرٌ مقبولةٍ بالنّسبة للاَّهوت الأرثوذكسيّ.

5) تَقفُ الكنيسةُ الأرثوذكسيَّةُ ضدَّ التدخُّلِ الصّناعيّ في الخصوبة (أي الإجهاض). وسوفَ نبحثُ في هذه النقطةِ لاحقًا. أضِفْ إلى ذلكَ أنَّ فحوصاتِ قبلَ الولادة، رغمَ حلّها بعضَ المَشاكل، تخلقُ أيضًا مُعضلاتٍ لاهوتيَّةً وأخلاقيّة، لأنَّ بعضَ الأمراضِ الَّتي تُكشفُ لا يمكنُ علاجُها، على الأقلّ إلى يومنا هذا (رَغم إمكانيَّة القيام ببعضِ التدخُّلات داخلَ الرَّحم). بالتَّالي، تؤدّي الفحوصاتُ السَّابقةُ للولادة في أكثريَّة هذه الحالات، إلى اختيار الزَّوجين للإجهاض، الأمر الذي ترفُضهُ الكنيسةُ الأرثوذكسيَّة. نستثني الحالات التي تؤهِّلُ فيها الفحوصاتُ الخبراءَ في الطبّ أن يعالجوا هذهِ المشاكلَ حينَ يولدُ الطفل.

6) في مواجهةِ هذهِ الظروف، لا يمكنُنا أن ننأى بأنفسنا عَن هدفنا الأساس، كما حدّدتهُ الكنيسة، والذي هوَ التقدُّم مِن أن نكونَ صورةَ الله إلى أن نصيرَ على مثالِه، أي بكلامٍ آخر، التألُّه. لا يمكنُ لأيّ إنجازٍ أو نجاحٍ بَشريّ أن يَحلَّ مَحلَّ هدفَ الإنسانِ الأعمقَ هذا.

ه) تطوّر الجنين والإجهاض

1) يتلقَّى الإنسانُ نفساً مباشرةً خلالَ التلقيح؛ تكونُ النفس موجودةً “منذُ اللَّحظة الأولى للحبل”. لا توجدُ النفس مِن دونِ الجسد، ولا يوجدُ الجسدُ مِن دونِ النفس. في لحظة التلقيح، يخلقُ الله النفس. لا تحدّدُ الكنيسةُ الأرثوذكسيَّةُ مدَّةَ أربعة عشر يومًا أو بضعة أسابيع وأشهر، من أجل تبرير التَّدخُّلاتِ في الكَيسَة الأُرَيْميَّة أو غيرها من التدخُّلاتِ في الأجنَّة قبل ذلك.

يحصلُ الحبلُ بواسطة قوّة الله وتآزر الإنسان. يكتبُ القدّيس يوحنَّا الذهبيّ الفم قائلاً إنَّ الحبلَ ليسَ نتاجَ الطبيعةِ والعلاقةِ الجسديّة، بل عنايةُ الله. يكتبُ قائلاً: “الحمْلُ بالأطفال مصدره مِنَ العلى، بعناية الله، ولا تكفي إطلاقًا طبيعةُ المرأة أو الجماعُ أو أيُّ أمرٍ آخر من أجل إحداثه”.

سرٌّ هو الحبلُ بإنسانٍ والاتّحادُ بينَ النفس والجسد. يوبّخُ القدّيس غريغوريوس اللاهوتيّ الذينَ يظنُّونَ أنَّه يمكنهم فهمَ الله بعقلهم، قائلاً إنّه محالٌ علينا أن نفهمَ منطقيًّا جوهرَ الله أو كيفيَّةَ كينونة أقانيمه، ويستحيل علينا بخاصّةٍ أن نفهمَ كيف تتّحدُ روحُ الإنسانِ بجسده. يقولُ إنَّهُ أمرٌ مثيرٌ للإعجاب كيفَ أنَّنا في البدءِ نُجبلُ ونتكوَّنُ بعملِ الطبيعة، وكيف نتشكَّلُ ونتكمَّلُ في النهاية، وكيف نطلبُ الطعامَ ونتغذَّى. يسألُ مَن الذي قادَنا غريزيًّا نحوَ الينابيعِ الأولى، التي هي ثديَي الأمّ، ومصدر الحياة. يُدهَشُ القدّيس غريغوريوس حينَ يستعرضُ بناءَهُ الذاتيَّ وبناءَ الجنسِ البشريّ بأسره، فيما يخصُّ العناصرَ التي نتكوَّنُ منها، وكيف نتحرّك، وكيف يمتزجُ غيرُ المائتِ بالمائت، وكيفَ ننجرفُ إلى أسفل وفي الوقت عينه نُرفعُ إلى أعلى، وكيف تُحصَرُ الرُّوحُ في الجسد، وكيفَ تُعطي الرُّوحُ الحياةَ للجسدِ وفي الوقتِ ذاتهِ تُشاركهُ ألمَه، وكيف أنَّ العقلَ محدودٌ وغيرُ محدود، وكيفَ لا ينفكُّ يتأمَّلُ في كلِّ شيءِ بسرعةٍ ويُسرٍ رغمَ بقائهِ في داخلنا. ويُدهشُ أيضًا حينَ يدرسُ أعضاءَ الجسدِ والتَّناغمَ بينها.

2) تُجِلُّ المرأةُ المسيحيَّةُ الحاملُ الجنينَ الذي في داخلها باحترامٍ كبير. تَشعرُ بأنَّهُ عطيَّةٌ لها مِنَ الله. تنتظرُ بتلهُّفٍ أن يُولد. تُصلّي لهُ منذُ لحظةِ الحَبَل، وتَحيا في الكنيسة. بهذه الطريقة، تبدأُ التَّربيةُ المَسيحيَّةُ للطفلِ منذُ المَرحلةِ الجنينيَّة.

3) إنَّالإجهاض، استنادًا إلى تعليمِ الكنيسة، هو قتلٌ، وأيضًا قتلٌ لكائنٍ بشريّ أعزل. يملكُ الجنينُ روحًا تُظهرُ طاقتها حينَ ينمو جَسدُ الجَنين وأعضاؤه. لقد وَضعَ آباءُ الكنيسةِ قوانينَ تُحرّم الإجهاض. يكتبُ القدّيس باسيليوس الكبير في قانونه الثَّاني قائلاً: “إنَّ المرأة التي أجهضتْ عمدًا تَخضعُ لعقوبةِ القتل”. ويُكملُ قائلاً إنّه لا تمييزَ عندنا بين جنينٍ مُتكوّنٍ وجنينٍ غير مُتكوّن. ويكتبُ أيضًا قائلاً إنّه حينَ يحصلُ الأجهاض، لا تقتصرُ عواقبُه على الجنين الذي كان سيولدُ فحسب، بل على المرأة التي فكّرتْ في ذلك وآذت نفسَها، لأنَّ العديدَ من النساءِ يموتون خلال عمليَّاتٍ كهذه.

4) يجبُ أن يواجهَ الزوجان أيَّةَ ظروفٍ صعبةٍ تطرأُ خلال مدَّةِ الحملِ بإيمانٍ بعناية الله، وبصلاةٍ، وبالتحدُّث مع أبٍ روحيّ مختبِر وقادرٍ على التمييز. ثمَّةَ والدون يتجنَّبون الخضوعَ لفحوصاتِ قبل الولادة، لأنَّها تخلقُ مُعضلاتٍ أخلاقيَّةً وروحيَّةً تَصعبُ عليهم مواجهتُها، إلاَّ إذا حدَّدَ اختصاصيٌّ مسيحيٌّ سببًا محدَّدًا لفحْص كهذا. في أيَّة حال، ثمَّةَ إمكانيَّةٌ للعلاج عبرَ تدخُّلٍ جراحيّ في الرَّحم، كما ذكرنا سابقًا، أو قد يمكنُ تشخيصُ مرضٍ وإجراءُ التحضيراتِ اللاَّزمةِ مُسبَقًا من أجلِ اتّخاذِ الإجراءاتِ المناسبةِ بعدَ الولادة. في هذه الحالات، تكونُ الفحوصاتُ الدَّوريةُ قبل الولادة ضروريَّة.

أخيرًا، مهما حصلَ في هذا الصَّدد، ينبغي أن تواجهَ المرأةُ المسيحيَّةُ الحاملُ الوضعَ بالصَّلاة والإيمان بالله. نعلمُ طبعًا أنّه متى اتُّخذَ خيارٌ غيرُ مناسبٍ وارتُكبتْ خطيئة، فَرَحمةُ الله ومحبَّته تُعيدان كلَّ شيءٍ إلى مكانه بواسطة التَّوبة الصادقة والاعتراف. الكنيسةُ هي مستشفى روحيّ والكهنةُ هم أطباءٌ روحيُّون يعالجون الناسَ بقدرة الله وقوَّته.

3. تمديد الحياة البيولوجيَّة

أ) نقل الدم

1) إنَّ نفْسَ الإنسان هيَ العنصرُ الرُّوحيُّ لوُجودهِ، وهيَ تشكّلُ معَ الجسدِ، الكائنَ البشريَّ بكليَّته. أمَّا الدَّم فَهُو جزءٌ منَ الجسد، ولا يرتبطُ بالنَّفس طبعًا. بحسب القدّيس غريغوريوس بالاماس، “النفسُ هيَ في كلّ مكانٍ في الجسد”. كجوهرٍ، هيَ في القلب كما لو أنَّها داخلَ عضو؛ وكطاقةٍ، هيَ في الجسدِ كلّه. في الكتاب المقدَّس، تُستعمل كلمةُ “نفْس” بمعانٍ عدَّة. فهيَ أحيانًا تدلُّ على العُنصر الرُّوحيّ للوجود البشريّ، وأحيانًا أخرى تَصِفُ الكائنَ البشريّ، وفي بعض الأحيان، تعني الحياة. لذلكَ مكتوبٌ في بعض المواضع أنَّ الحيوانات لديها نفسٌ هيَ أيضًا، أي بكلامٍ آخر، لديها حياة. لدى الكائنات البشريَّة، تملكُ النفسُ جوهرًا (النُّوس والإرادة الحرَّة) وطاقة، بينما لدى الحيوانات، تملكُ طاقةً فقط، ولهذا تسلكُ الحيواناتُ وفقًا لمشاعرها وغريزتها. ثمَّة مقاطعٌ في العهد القديم تتساوى فيها النفْسُ بالدَّم، مثلاً ” لأنَّ نفْسَ الجسد هيَ في الدَّم” (لاويين 17: 11)، وأيضًا “لكن احترزْ أن لا تأكلَ الدَّم، لأنَّ الدَّمَ هوَ النفْس” (تثنية 12: 23). هنا، لفظة “نفْس” تعني الحياة (وتُترجَم “حياة” في التَّرجمات الإنكليزيَّة للعهد القديم)، لأنَّ الدَّم هوَ العنصرُ الأساسُ الذي يشكّلُ الحياة ويحفظُها.

2) لا تعتبرُ الكنيسةُ نقلَ الدَّمِ مُشكلةً، بشرطِ أن يتمَّ بموافقة المتبرّع الحرَّة، وأيضًا بنوايا مُحسِنةٍ منهُ تجاه المُتلقّي.

3) يجبُ ألاَّ يحصلَ نقلُ الدَّم لأهدافٍ أنانيَّةٍ أو على أساسٍ تجاريّ.

ب) وهب الأعضاء

جرتْ مُناقشاتٌ كثيرةٌ ما زالتْ مستمرَّةً حتّى الآن، وبخاصَّةٍ في الكنيسة، حولَ وهب الأعضاء، لأنَّها تنتجُ إشكاليَّاتٍ أخلاقيّةً ولاهوتيّةً عديدة. والآراءُ الأساسيَّةُ حول هذا الموضوع هيَ كالتالي:

1) لا ترفضُ الكنيسةُ الأرثوذكسيَّةُ العلمَ ولا تخاصمُه، بشرط أن تكونَ نتائجُ الأبحاثِ مفيدةً للبشر، وأن يُنشئَ العلمُ نفسُه حواجزًا لتفادي الأبحاث المُتهوّرة والمُؤذية. في أيّة حال، للكنيسة والعلم أهدافٌ متباينة. لا يمكن للعلم أن يحلَّ مكان الكنيسة ولاهوتها أو أن يكون بديلاً عنها. وزراعة الأعضاء تُساعدُ على تمديد حياة الإنسان وتحسين ما يُسمَّى بـ”نوعيَّة” الحياة البيولوجيَّة.

وبالطبع، يحقُّ للكنيسة أن ترفضَ بعضَ إنجازات البحث العلميّ الذي لا يوافق لاهوتَها، والمسيحيُّون أحرارٌ في عدم استخدام كافَّة الإنجازات العلميَّة. فإذا كانوا أحرارًا في رفضِ طاعة مشيئة الله، فهُم أحرارٌ أكثر في رفض التطوُّرات العلميَّة على المستوى الشخصيّ.

2) بحسب التقليد الآبائيّ، تفيد الأنثروبولوجيا الأرثوذكسيّة بأنَّ النفسَ العقلانيَّة والنوسية تفعلُ بجوهرها في القلب، الذي لا يُعدُّ إناءً يحتوي النفس، بل عضوَها. تتمركزُ طاقة النفس في الدماغ وفي كافّة أنحاء الجسد. تفعلُ أو تتجلّى فيما ينمو الجسد، بحسب كلام المعلّق على سلَّم القديس يوحنَّا السُّلَّمي: “النفسُ حينها تكون فعَّالةً مثل الجسد. فيما ينمو الجسد، تُظهر النفسُ طاقاتها”.

ليست النفسُ ببساطةٍ في داخل الجسد، بل تحتوي الجسدَ وتُمسكه، وتمنحهُ الحياة وتجعلهُ متَّحدًا بعضه ببعض. حين يمرضُ عضوٌ في الجسد لأسبابٍ مختلفةٍ أو يتوقَّفُ عن العمل، فهذا لا يعني ضياعَ النَّفس أو تجزيئها.

يبدو جليًّا في التقليد الآبائيّ أنَّ النفسَ تملكُ فضلاً عن الملَكة العقليَّة (أي المنطق، الفكر)، ملَكةً نوسيّة (نوس). حين لا تعمل الملَكةُ العقليَّةُ لعدم وجود عضوٍ ملائمٍ لذلك، كما في حال الأجنَّة، وحديثي الولادة، وحديثي الولادة الذين لا دماغ لهم، والناس الذين في حالة موت دماغي، فمع ذلك، تكونُ الملَكةُ الذهنيَّةُ موجودةً وتعملُ مثلَ الطاقاتِ الأخرى. إنَّ وعيَ الإنسان وعلاقته بالله لا يُحدَّدان فقط وفقًا للملَكة العقليَّة للنفس، بل أوّلاً عبر طاقتها الذهنيَّة.

يُعرّفُ القدّيس يوحنَّا الدمشقيّ النفسَ كما يلي:

“النفسُ جوهرٌ حيّ، بسيط، غيرُ جسديّ، غيرُ مرئيّ للعيون الجسديَّة بحسب طبيعته، عقلانيٌّ وذهنيّ، لا شكلَ له، يستعملُ الجسدَ عضوًا له ويعطيه الحياة والنموّ والحسّ والتوليد. ليس النوس مستقلاًّ عن النفس، بل جزؤها الأنقى (إذ إنَّ النوسَ بالنسبة إلى النفس هو مثل العين للجسد). النفسُ حرّة، تتحلّى بالإرادة والقدرة على العمل، وهي معرَّضةٌ للتغيُّر، أي أنَّها متغيّرةٌ لأنّها مخلوقة. لقد تلقَّت هذه الصّفاتِ كلَّها بحسب الطبيعة مِن نعمة خالقها، ومن نعمته أيضًا تلقَّتْ وجودَها وكونَها كما هي بشكل طبيعي كما هي”.

وفقًا للقدّيس مكسيموس المُعترف، تملكُ النفسُ البشريَّة ثلاث طاقات: طاقة الاغتذاء والنموّ، طاقة الخيال والغريزة، وطاقة العقل والنوس.

بالتالي، يجدر البحثُ في سؤال متى تخرجُ النفس من الجسد من منظور ماهيَّة النفس. وهذا ليس سكولاستيكيَّة. أضفْ إلى ذلك أنَّ مغادرة النفس للجسد تحدثُ بمشيئة الله، لأنَّ “المشيئة الإلهيَّة تقطعُ أكثر روابط القرابة طبيعيّة، ويزولُ كلُّ إنسانٍ”.

بالطبع، ترفضُ العلومُ الطبيَّةُ اليوم في معظم الحالات وجهةَ النظر الأرثوذكسيَّة الأنثروبولوجيَّة المذكورة. مع ذلك، نحن كأرثوذكسيّين، يجب ألاَّ ننبذها ونرفضها بسهولةٍ. فهذا سيؤدّي بنا إلى الموافقة على أنَّ الجنين لا يملكُ نفْسًا في أوّل أربعة عشر يومٍ بعد الحبل به، لأنَّ العلوم الطبيَّة تؤكّدُ أنَّ الخلايا الجذعيَّة لا تكونُ قد تمايزتْ، وأنَّ أسسَ النسيج العصبيّ لا تكون قد بدأت بالتشكُّل، وأنَّ الأجنَّة لا تملكُ نفوسًا. وسيؤدّي أيضًا بنا إلى أن نقبلَ أنَّ أولئك الذين في غيبوبةٍ عميقةٍ وغائبين عن الوعي، ليست لهم نفوس.

3) تواجهُ الكنيسة الأرثوذكسيَّة المسائلَ كلَّها، بما فيها وهب الأعضاء، من وجهة نظرٍ رعائيَّة. من هذا المنظور، يقتضي الأمرُ التزامَ نهجٍ رعائيّ إزاء الواهب والمتلقّي وفريق الزراعة الذي يحصد الأعضاء ويزرعها. تستوضحُ الكنيسةُ عن سبب وهب العضو وكيفيّته، وسبب قبول المتلقّي وكيفيّته، وسبب عمل الفريق وكيفيّته.

4) من وجهة نظرٍ لاهوتيَّة، يجب التحرّي في ما إذا كانت الأعضاء التي ستُوهَب قد أُخذت من واهبين أحياء أو واهبين “جُثّيّين” ( مِن جُثّيّ cadaveric). نستعملُ عبارة واهبين “جُثّيّين” بتحفُّظ، لأنَّ ثمَّة مشكلة جدّيّة حول هذه النقطة، كما ذكرنا سابقًا. ففي الأساس، مَن يخضع “للموت الدماغيّ” ليس ميتًا بالنسبة للاَّهوت الأرثوذكسيّ. حين يهَبُ أحدُهم عضوًا يملكُ اثنين منه، من دون أن يؤدّي ذلكَ إلى موته، فهذا يُعدُّ إيثارًا (تفضيلاً للآخرين على الذات – المترجم)، وتضحيةً ومحبَّةً. أمَّا حين يقتضي أخذُ الأعضاء موتَ الواهب، فهذا يطرحُ أسئلةً عديدة.

5) تستندُ مسألة وهب الأعضاء “الجُثّيّة” بكليّتها إلى ماهيَّة الموت الدماغيّ: أي إذا ما كان الموتُ الدماغيُّ يساوي الموتَ البيولوجيّ، ومتى تغادرُ النفسُ الجسد. ثمَّة وجهاتُ نظرٍ عديدةٌ في هذه القضايا. إنَّ التأكيدَ على أنَّ الموتَ الدماغيَّ يساوي حتمًا الموتَ البيولوجيَّ يطرحُ مشكلةً رئيسةً من وجهة نظر اللاَّهوت الأرثوذكسيّ. فواقع أنَّ القلبَ يعمل، ولو بواسطة تنفُّسٍ مساعَدٍ ميكانيكيًّا، وأنَّ الوظائفَ الأخرى تعمل، يعنيان أنَّ الإنسانَ ما زال حيًّا، وأنَّ النفسَ إذًا ما زالتْ موجودة. والأمر نفسه ينطبقُ على الجنين في مراحل نموّه الأولى، حين تكونُ الحياةُ والنفسُ موجودتين، رغم عدم تشكُّل الدماغ وعدم عمله. إنَّ الموتَ الدماغيَّ ظاهرةٌ علاجيَّةُ المنشأ iatrogenic، أي بكلامٍ آخر، أمرٌ يَنتجُ عن التنفُّس المساعَد ميكانيكيًّا. بحسب اللاَّهوت الأرثوذكسيّ، الموتُ سرٌّ، وبالتالي، تعريفُ الموت على أنَّه موتٌ دماغيٌّ هو أمرٌ مشكوكٌ فيه من الناحيَتين الفلسفيَّة واللاهوتيَّة.

6) تقبلُ الكنيسة بوهب الأعضاء التي يمكنُ استئصالها من دون التسبُّب بوفاة الواهب. في حالاتٍ أخرى، ينبغي توخّي حذر كبير وإجراء تحرٍّ عميقٍ استنادًا إلى المعايير الأنثروبولوجيَّة اللاَّهوتيَّة والآبائيَّة. فمسألة وَهْب الأعضاء قد تُحلُّ من منظور التضحية بالذات بوعيٍ وحرّية، والوهب الطوعيّ، ضمن إطارٍ مسيحيّ، الأمر الذي يختلفُ عن الانتحار والقتل الرحيم. ولكن، حتَّى هذا الأمر جدليٌّ بالنسبة لبعضهم، لأنَّ خاصيَّة الهديَّة “تتغيَّر” بعد الموت، إذ بعدَ الموت “تصبحُ الهديَّةُ مستقلَّةً عن الواهب” (مانتزاريدس).

بالتالي، من أجل استئصال الأعضاء، من الضروريّ من ناحيةٍ أن نتأكَّدَ من موافقة الواهب الحرَّة الخطيَّة حين يكون واعيًا، لأنَّنا لا نقبلُ بما يُسمَّى بـ”الموافقة المفترَضة”. ومن ناحيةٍ أخرى، يجبُ أن تُؤخذَ تدابيرٌ احتياطيَّةٌ من أجل تفادي تحوُّل الأعضاء الموهوبة طوعيًّا إلى صفقاتٍ تجاريَّة مِن قِبل الواهب، أو الأقارب، أو المتلقّين، أو الفريق الطبيّ، أو الشركات،… ولسوء الحظّ، هذا ليس أمرًا مسلَّمًا به. يُذكر أنَّ أوساطًا لاهوتيَّةً وطبيَّةً متنوّعةً تشكُّ حتَّى في صحَّة الموافقة الخطّيَّة الحرَّة.

7) لن نرفضَ على الأرجح نقلَ الأعضاء بين الكائنات الحيَّة xenotransplants (أي من الحيوانات)، بشرط أن تحكمَ العلومُ الطبيَّة بسلامتها، إذ ثمَّة تخوُّفٌ من نقل الفيروسات من الحيوانات إلى البشر، والإخلال بالتوازن الموجود في الطبيعة. إلاَّ أنَّه لا يمكنُ للكنيسة أن توافقَ على إمكانيَّة خلق أنسجةٍ من أجل الزراعة، عبر زرع cultivation الخلايا الجنينيَّة البشريَّة، لأنَّه خلال عمليَّة الحصول على هذه الخلايا، يتمُّ تدمير الكَيسة الأُريْميَّة blastocyst وبالتالي الجنين. فبحسب اللاَّهوت الأرثوذكسي، النفسُ موجودةٌ في الجنين منذُ لحظة الحبل. تختلفُ الحالةُ حين تُستعملُ الخلايا السَّلَفيَّة المأخوذةُ من البالغين والخلايا السَّلَفيَّة الجنينيَّة (الخلايا الجذعيَّة) من الحبْل السريّ، من أجل الأبحاثِ وزراعةِ الأعضاء، بشرط ألاَّ يكون ذلكَ نتيجة إجهاضٍ وألاَّ يتمَّ استغلالُه تجاريًّا.

8) ليس الهدفُ الأخيرُ لوهب الأعضاء تمديدَ الحياة البيولوجيَّة فقط، ولكن توبة البشر وشفاؤهم، لكي يتَّحدوا بواسطة التطهُّر والاستنارة والتألُّه مع المسيح أزليًّا. من دون هذه الفرضيَّة الأساسيَّة، أيُّ شكلٍ من الوهب يكون بطابعه نفعيًّا ومنفعيًّا ومتمحورًا حول الإنسان، وغير مساهِمٍ في الخلاص. ليس تمديدُ الحياة البيولوجيَّة كافيًا وحده، ولا هو صحيحٌ لاهوتيًّا، فالموتُ يتمُّ تخطّيه بواسطة المشاركة في سرّ الصليب وقيامة المسيح.

ج) العلاج الخلوي Cell Therapyوالعلاج الجينيّ Gene Therapyوالوقاية من الأمراض

1) ليست الكنيسةُ ضدَّ البحث العلميّ الذي يهدفُ إلى إزالة العذاب البشريّ وشفاء المرض، ولو كان ذلكَ عبر تطوُّراتٍ حديثةٍ مثل العلاج الجينيّ ووهب الأعضاء وغيرها، بشرط أن يضع العلماءُ لأنفسهم حواجزَ لتفادي الأبحاث المتهوّرة.

2) للأسف، نرى أنَّه يتمُّ السعي إلى إنتاج خلايا جنينيَّة من أجل أخذ الخلايا السَّلَفيَّة الجنينيَّة واستعمالها في ما يُسمَّى بالاستنساخ العلاجيّ therapeutic cloning. يزعمُ الكثيرون أنَّ حتَّى التلقيحات الصناعيَّة in vitro fertilisations تمَّت وتتمُّ من أجل تسهيل الأبحاث عبر استعمال البُويضات الملقَّحة “الفائضة”، بدلاً من أن يكون هدفُها الحمل. لا يمكن أن يقبلَ اللاَّهوتُ الأرثوذكسيُّ بهذا.

إلاَّ أنَّنا نأملُ أن يتمَّ إيجادُ الأدوية الضروريَّة والوسائل المناسبة من أجل علاج الأمراضِ المختلفة التي تصيبُ الإنسان.

يشدّدُ كثيرون على الحاجة إلى إيلاء الاهتمام الخاصّ، من ناحيةٍ، للأبحاث التي تتمُّ على الخلايا السَّلَفيَّة المأخوذة من البالغين، والتي تشكّلُ حلاًّ قابلاً للتطبيق لقضيَّة العلاج بالخلايا المزروعة؛ ومن ناحيةٍ أخرى، لاستئصال الخلايا السَّلَفيَّة من الحبْل السريّ لكي يتمَّ استعمالها لاحقًا من أجل أهدافٍ علاجيَّة محتمَلة؛ وربَّما أيضًا لطرائق جديدة لإنتاج الخلايا الجذعيَّة والتي يجبُ أن تصير في النهاية ميسورةً. إلاَّ أنَّ الحالة الثانية المذكورة تُبرزُ مجدَّدًا تساؤلاً حول غياب الثقة بعناية الله وعقلنة rationalisation الحياة.

3) ثمَّة خطرٌ في أن تؤدّي العلاجاتُ الجينيَّة التي تَستخدمُ تقنيَّاتٍ مختلفة، إلى أن يخلقَ العلماءُ إنسانًا بقدراتٍ مبالَغٍ فيها ومواهبَ في أعضاءٍ متنوّعةٍ في جسده، من أجل خلق رجلٍ خارقٍ (سوبرمان). تجري محاولاتٌ كهذه في الرياضة أيضًا عبر استعمال المنشّطات الجينيَّة genetic doping. ونتيجةً لهذه التدخُّلات، هناك دائمًا احتمالُ خطر العنصريَّة الجينيَّة والمجتمع القائم على تحسين النسل. إلى جانب العلاجات من أجل خير البشريَّة، يمكن أن ينحرفَ الأمرُ نحو خطواتٍ معاديةٍ للبشر. وهذا يُسمَّى غطرسةً في الفلسفة واللاَّهوت، ويمكنُ أن يؤدّي إلى خلق كائنات كمّير chimeric (بشريَّة جزئيًّا).

4) يجب ألاّ ننسى أنّ أيًّا من هذه الجهود العلميَّة لا يمكنه أن يغلبَ الموت، إذ توجدُ أيضًا جيناتٌ تسبّبُ الشَّيخوخة. إذًا الموتُ مرضٌ نَرثُهُ منذ لحظة الحبَل بنا. يمكنُ أن تُطالُ الحياةُ البشريَّةُ عبرَ البحثِ العلميّ والاكتشافات، ولكن لا يمكنُ تخطّي الموت بوسائلَ بشريَّة مخلوقة. الانتصارُ على الموت عطيَّةٌ منحَها المسيحُ للبشر حينَ غلبَ الموتَ بقيامته.

ويتَّضحُ هذا من حياة القدّيسين، وبخاصَّةٍ من رفاتهم غير المُتحلّلة. نحنُ نعلمُ أنَّ الجلدَ البشريَّ هو كتلةٌ من الخلايا، وبالطبع تكون جيناتُ الشَّيخوخة موجودةً في هذه الخلايا. حين تغادرُ النفسُ الجسد، ينبغي أن يتحلَّلَ الجلد، كونه قابلاً للفساد والموت اللَّذين يَحكُمان البشريَّة. أمَّا في رفات القدّيسين، يظهرُ جليًّا أنَّ طاقةَ الله المؤلِّهة غير المخلوقة قد غلبتْ قانونَ الفساد. عدمُ فساد رفات القدّيسين هوَ واقعٌ فعليّ، وبعيدًا عن لاهوت هذا الأمر، سيكونُ مثيرًا للاهتمام أن تتمَّ دراستُهُ من وجهة النَّظر العلميَّة.

4. نهاية الحياة البيولوجية

أ) الموت الرحيم

تواجهُ الكنيسةُ مسألة الموت الرَّحيم استنادًا إلى المنظور الأرثوذكسيّ الذي رأيناهُ سابقًا، حينَ حدَّدنا الأسلوبَ الذي تعالجُ فيه الكنيسةُ غيرها من المشاكل المتعلّقة بأخلاقيَّات علوم الحياة. سيتمُّ التشديدُ هنا على أربع نقاط مهمَّة.

1) لقد منحَ الله الحياة للبشر، وبالتَّالي هذه الحياةُ هيَ عطيَّةُ الله للبشر. وهذا يعني أنَّ الله وحده، لا الإنسان، لديه الحقوق الحصريَّة على الحياة. يملكُ الله السُّلطةَ على الحياة، ويأخذُ الحياة حينَ يحينُ الوقتُ المناسب. ليس الإنسانُ مخوَّلاً لأخذ حياته لأنَّهُ ليسَ علَّةَ الحياة.

2) الحياةُ البيولوجيَّة ليست مُطلقة. لا تنتهي الحياة البشريَّة بموت الجسد. فالنُّصوصُ الليتورجيَّة تتضمَّنُ عبارة “يُكمَلون بالسَّلام”، مشيرةً إلى موت القدّيسين. ينتهي زمنُ الحياة بالموت، ولكنَّ الحياة تُكمَل. نهايةُ الحياة أمرٌ، وكمالُ الحياة أمرٌ آخر. في أيَّة حال، لا تسمَّى مغادرةُ النفس للجسد موتًا بل رقادًا. تعيشُ النفسُ بعد مغادرتها الجسد؛ لا يزول الإنسان. في المجيء الثاني للمسيح سيقومُ الجسد، وستدخل النفسُ فيه، وسيعيشُ الإنسانُ إلى الأبد بجسده ونفْسه، بجسدٍ روحيّ، وفقًا لدرجة التطهُّر والاستنارة والتألُّه التي بلغها. من البارز أنَّ طريقة الحياة بعد الموت تعتمدُ على طريقة الحياة قبله.

3) إنَّ الألمَ مفيدٌ للبشر لأنَّه يفتحُ أفقًا جديدًا للحياة، ويعطيها معنًى، ويؤهّلهم لأن يروا كلَّ ما في حياتهم والعالم كلَّه على ضوءٍ مختلف. ومحاولة المرء أن يتحرَّر من الألم هي دليلٌ على أسلوب حياةٍ خاطئ، حياةٍ وفق الحواسّ تزيدُ ألمًا آخر، ألمًا وجوديًّا. فما الهدف من تحرير الإنسان نفسَه من الألم الجسديّ والغرق في الألم الوجوديّ والذي هو تعذيبٌ أسوأ؟

4) يحسِبُ الناسُ عمليَّة الاحتضار كلَّها وقتًا ضائعًا، ولكنَّ هذا غيرُ صحيح. بالنّسبة إلى المريض، هي زمنٌ للتوبة والتَّحضير للقاء المسيح. بالنسبة إلى أعضاء الأسرة، هي زمنٌ لإصلاح العلاقات مع قريبهم المريض وبينهم. وفي الوقت عينه، يُعبّر جميعُ مَن إلى جوار سرير المريض عن مشاعر حنانٍ ومحبَّةٍ وتعاطفٍ معه بأساليب متنوّعة. وبالتالي، ليس ذلك وقتًا ضائعًا، بل زمنًا مهمًّا بالنسبة إلى المرضى والقريبين منهم.

5) إنَّ إشكاليَّةَ الموت الرَّحيم خلقها التطوُّر واستعمال تقنيَّات حفظ الحياة والتكنولوجيا التي تطيلُ الحياة. أمّا بالنّسبة إلى الأطبَّاء والممرّضين وأقرباء المريض، فآلاتُ حفظ الحياة تخلقُ إشكاليَّة “تمديد الحياة أو منع الموت”. أضِفْ إلى ذلك أنَّ تمديد الحياة يستحقُّ العناء فقط حين يكونُ له معنى، ومنع الموت أيضًا يستحقُّ العناء فقط إذا كان له معنى.

6) إنَّ المسيحيّين، ورغم بذلهم الجهدَ للبقاء أحياءً لكي يتوبوا، حينَ يفهمون أنَّ لا شيء آخر سيُساعد، ليست خطيئةً إذا طلبوا موتًا “طبيعيًّا”، من دون آلات حفظ الحياة، واكتفوا بالعلاج التقليديّ الضروريّ، بوعي وصلاة. وحين يدركُ الأطبَّاء، وفقَ خبرتهم ومعرفتهم وإيمانهم بالله، أنَّهم لا يستطيعون أن يفعلوا أيَّ أمرٍ إضافيّ، فلا يستعينون بآلات حفظ الحياة لتمديد الحياة، بل فقط بالعلاج التقليديّ، حينها لا يفقدون مصداقيتهم من الناحية الأخلاقيَّة.

في حالاتٍ كهذه، لا يمكننا الرجوع إلى الموت الرحيم.

بعامَّةٍ، العلمُ مفيدٌ حين يساعدُ الناسَ على إعطاءِ معنًى لحياتهم، وعلى التوبة، والعيش مع الله، وحين يساعدهم على الموت بطريقةٍ مسيحيَّة.

ب) وحدات العناية المركَّزة

تخلق معالجةُ المرضى في وحدات العناية المُركَّزة مشاكلَ أخلاقيَّة عديدة. سنذكر بعضها.

1) معظم المرضى الذين يُدخلون إلى وحدات العناية المركَّزة يكونون تحت تأثير المسكّنات ويضعون الأنابيب، وبالتالي لا يمكنهم اتّخاذ القرارات فيما يتعلَّقُ بالتطوُّرات المُستقبليَّة. ولذلك، غيابُ “الوعي الشخصيّ” تحلُّ مكانه “الموافقة الاجتماعيَّة”، والتي تكونُ في هذه الحالة موافقة الأقرباء. أمَّا في حالة الموت الدماغيّ، فبالتأكيد لا ينطبقُ ما يسمَّى بـ”الموافقة المفترَضة” للمرضى.

2) تبرزُ مشكلةٌ أخرى هي حالة أقرباء المرضى الذين يعالَجون في وحدات العناية المركَّزة. إنَّ مكان جناح العناية المركَّزة لا يصلحُ للزيارات المتكرّرة أو الطويلة، ولذلك يحتشدُ الأقرباءُ في غرف الانتظار لساعاتٍ طويلةٍ في حالةٍ من القلقِ وعدم الأمان النفسيّ والصدمة والخوف… وهذا بالتأكيد يمنحُ الأقرباءَ الفرصة للتَّعبير عن محبَّتهم للمريض، والصلاة، وأيضًا لإصلاح العلاقات المتوتَّرة فيما بينهم. ومهما كانت الظروف، يجب ألاَّ يتجادلوا أو يأخذوا قراراتٍ تختصُّ بأعضاء أسرتهم المرضى استنادًا إلى مصالح ماديّة.

3) وثمَّة مشكلةٌ أخلاقيَّةٌ وروحيَّةٌ أخرى تتعلَّقُ بفريق المُمرّضين. عمل هؤلاء صعبٌ بالتأكيد ويتطلَّبُ الانتباه، والجدّية، واللُّطف، والحساسيَّة، والهدوء. وفضلاً عن هذه الصّفات المهنيَّة، ينبغي على مَن يؤمنون بالله منهم أن يتصرَّفوا بسلوكٍ صلاتيّ تجاه المرضى. فالحركاتُ الحسَّاسةُ والصلاةُ من أجل المرضى تساعدُ على نحوٍ فعَّال. ذلكَ أنَّ المرضى في وحدات العناية المركَّزة لا يستطيعون أن يصلُّوا، ولا يقدر أقرباؤهم على مساعدتهم إذ لا يُسمح لهم بالتواجد هناك؛ فينبغي أن يكونَ فريقُ المُمرّضين مثل ملائكة صلاة ولطف. هم الذين يقفون إلى جانب المرضى الذين يحتضرون ويواجهون سرَّ الموت بكلّ نتائجه. هم الوحيدون الذين يكونون مع هؤلاء الناس في السَّاعات الأخيرة من حياتهم.

في الختام، ينبغي أن نقول إنَّ العلم بإنجازاته يجب أن يساعد على تأمين نوعيَّة حياةٍ للناس. إلاَّ أنَّه يجب ألاَّ يجعلهم يموتون غائبين عن الوعي ومن دون صلاة. ينبغي أن يساعدهم، وبخاصَّةٍ إذا كانوا مسيحيّين، إلى درجةٍ معيَّنة، ومن ثمَّ باستعمال العلاج التقليديّ، يجب أن يتركهم يحضّرون أنفسهم للقائهم بالمسيح، بشرط أن يكون ذلك هو ما يريدون بالتأكيد، لأنَّ حريَّتهم يجب ألاّ تنتهك إطلاقًا. ومن الناحية الأخرى، ينبغي ألاَّ يختار هؤلاء المرضى طريقة الموت “الطبيعي” هذه بسبب رفضهم العلم، بل لأنَّهم يعرفون أنَّ هناك حدودًا للمجهود البشريّ، وأنَّهم في النهاية يجب أن يتركوا أنفسهم بين يدي الله بإيمانٍ مطلَقٍ به.

يعرفُ المسيحيُّون أنَّ الموت هو نهاية الحياة البيولوجيَّة، ولكنَّه ليس نهاية الحياة، التي تستمرُّ بعد الموت، كما يعلّمُ التقليد المسيحيُّ الأرثوذكسيّ. ينبغي أن يكون للحياة والموت البيولوجيَّين معنًى، والأهمّ، معنًى مسيحيّ. حين يغيبُ هذا المعنى، يخسرُ البشرُ هدفَهم ومصيرَهم.

5. التكنولوجيا الحيويَّة Biotechnology والبيئة

1) خلقَ الله الكونَ وهو سيّدُ العالم. والذي يخلقُ شيئًا يكونُ له أيضًا سلطانٌ عليه. إنَّ الآب، من خلال الابن، وفي الرُّوح القدس، خلقَ الملائكة أوَّلاً، ثمَّ الخليقة المادّيَّة، وأخيرًا الإنسان الذي يتكوَّنُ مِن عناصر روحيَّةٍ ومادّيَّةٍ (النَّفس والجسد)، وهو العالَم الصغير microcosm للكون كلّه. لقد خُلقت المملكة، ثمّ خُلقَ الملكُ ليَدخلها.

2) يسودُ البشرُ على الخليقة؛ هُم حكَّام الخليقة بأمر الله. يحرثون الخليقة ويديرونها بإذن الله الخاصّ وتفويضه، وذلك لكي لا يستأثروا بها. رغم إدارتهم إيَّاها، يجب ألاَّ يستولوا عليها. هذا يعني أنَّ صلاحيَّتهم محدودةٌ ولا يمكنهم التصرُّفَ وكأنَّهم الله، بل كوُكلاء له ومدراء مُنحوا التفويضَ من قبله. للكبرياء نتائجٌ على البشر أنفسهم وعلى الطبيعة أيضًا.

3) طاقة الله موجودةٌ في الخليقة. لقد خلقَ الله العالمَ من العدم ويديرهُ بطاقته غير المخلوقة، لا بوسائلَ مخلوقة. لا تُثمر الخليقةُ تلقائيًّا، وليس التوالدُ من خصائصها، وإنَّما طاقة الله هيَ التي تُحدثُ ذلك. ولهذا السَّبب تحديدًا، الَّذين على اتّصالٍ بالله، أي القدّيسين، يحبُّون الخليقة ويحترمونها. وهذا يعني أيضًا أنَّ الفيتامينات والوحدات الحراريَّة ليست هيَ التي تغذّي البشر، بل الله الذي يحفظهم أحياء بواسطة الطعام والفيتامينات والوحدات الحراريَّة.

4) بسقوط الإنسان، دخل الفسادُ إلى الخليقة غير العاقلة أيضًا، إذًا الطبيعةُ تتأوَّهُ وتتألَّم. لا تملكُ الخليقةُ إرادةً أخلاقيَّة، ولا يمكنها أن تصنعَ الشرَّ، ولكنَّها تغيَّرتْ بفعل سقوط الإنسان. وإذ إنَّ الإنسانَ هوَ العالمُ الصغيرُ microcosm للكون كلّه، والرَّابطُ الذي يجعلُ الخليقةَ متماسكة، فإنَّ سقوطه أدَّى إلى نتائجَ مدمِّرةٍ بالنسبة إلى الخليقة كلّها، لأنّه جذَبها معه إلى الفساد. ومع ذلك، سيحصلُ تجدُّدُ الخليقة بتجدُّد البشر بواسطة نعمة الله.

5) للأهواء البشريَّة أيضًا نتائجٌ على الخليقة. فالاستهلاكُ الزائدُ للطعام بسبب هوى الانغماس في الملذَّات، يخلقُ الحاجة إلى الإنتاج الزائد، ما يؤدّي إلى انتهاك الطبيعة. إذًا، تعاني الطبيعةُ من البشر المتمردين والمتكبّرين والمتمادين. إلاَّ أنَّهُ من البارز أنَّ الطبيعة المنتهَكة تنتقمُ من البشر، باعتبار أنَّ التغيُّرَ الذي يطرأُ على الموادّ الغذائيَّة التي يأكلها الناس له تأثيراتٌ مروّعةٌ على صحَّتهم وتكوينهم البدنيّ.

6) إنَّ معظمَ الجهود التي يبذلُها علماءُ الوراثة يمكنُ أن تُعدَّ انتهاكًا للطبيعة. فبواسطة الحمض النوويّ المُعاد التركيب recombinant DNA المأخوذ من كائناتٍ حيَّةٍ ونباتاتٍ متنوّعة عبر استعمال عمليَّةٍ مختلفةٍ عن التوالُد الطبيعيّ، أي إدخال الجينات البشريَّة والحيوانيَّة إلى النباتات، يسعى العلماءُ إلى التدخُّل في الطبيعة. وهذا له نتائجٌ خطيرة.

7) نحن بالطبع لا نرفضُ أيَّة محاولة لتحسين مواردِ الأرض ومنتجاتها والمخلوقات. مع ذلك، يجب ألاَّ نَصِلَ إلى نقطةٍ يتمُّ فيها تغييرُ هذه المخلوقات، فيَنتجُ عن ذلك تلوُّثٌ جينيٌّ للبيئة، وأزمةٌ في النُّظم البيئيَّة، والتي قد تؤدّي إلى عواقب غير متوقَّعةٍ على صحَّة الإنسان وحياته.

8) إنَّ الحجَّة التي تزعمُ أنَّ ظاهرة الجوع في كوكبنا ستتمُّ معالجتها بوسائل إعادة تركيب الحمض النوويّ للكائنات والحيوانات، هي حجَّةٌ باطلةٌ من وجهة النَّظر اللاهوتيَّة البيولوجيَّة. فمعالجة الجوع تتمُّ عبر تأمين سيادة النُّظم الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة العادلة، حتّى لا يتركّزَ الغنى في أيادي عددٍ صغيرٍ من الناس. ويتمُّ التصدّي له أيضًا عبر تقليص التسلُّح وأبحاثِ الفضاء. ثمَّ إنَّ الحجَّةَ القائلةَ إنَّه ينبغي تحسينُ الموادّ الغذائيَّة هي أيضًا باطلةٌ من وجهة نظر أخلاقيَّات علم الحياة الأرثوذكسيَّة، لأنَّ أهواء حبّ المال والقنية، والطموح والانغماس في الملذَّات، هي التي تلوّثُ الطبيعة عبر الإنتاج الزائد والاستهلاك الزائد. لا تعتمدُ صحَّة الناس فقط على الأكل، بل على أن يكون لحياتهم معنى. كذلك، ليس المرضُ نتيجةً لعوامل خارجيَّةٍ فقط، بل ينبعُ من جهةٍ من الفساد وقابليَّة الموت التي يتوارثُها البشر، ومن جهةٍ أخرى، من مشاكل وجوديَّة تشغلهم وتبقى بلا حلّ. ثمَّة طبيبٌ كان يقول إنَّنا لا نمرضُ بسبب ما نأكلُ بل بسبب ما “يأكلنا”.

أخيرًا، تُظهر جهودٌ عديدةٌ كهذه أنَّ الإنسان يودُّ أن يكون خالدًا، أو أن يشعر بأنّه خالدٌ بقدراته الخاصَّة، كما لو أنّه إلهٌ صغيرٌ؛ ويودُّ العيشَ في عالمٍ أزليّ وصحيّ، متجاهلاً واقع قابليَّة الموت والفساد، ومتجاوزًا “السَّموات والأرض الجديدة” التي ستأتي بعد المجيء الثاني للمسيح، وغير منتظرٍ مجيءَ ملكوت الله الإسخاتولوجي، والذي يمكنُ اختباره منذ الآن عبر العيش وفقًا للتقليد الأرثوذكسيّ.

6. الأبحاث الطبيَّة والطبيَّة الحيويَّة(Biomedical)

1) بحسب آراء مختلف العلماء والباحثين والاختصاصيّين في البحث الطبيّ والطبيّ الحيويّ المتعلّق ببراءات الاختراع والبنوك الحيويَّة (biobanks) والتجارب السريريّة، يظهر جليًّا أنَّ الأبحاث كلَّها تتورَّطُ بأشكالٍ عدَّةٍ من الاعتماد المتبادَل، مع شركاتٍ ومراكز أبحاث. هذه الأمور ليست طبيعيَّةً كما يدَّعي بعضُهم. فباستثناء بعض الباحثين ذوي النيَّة الحسَنة، الذين يحرُّكهم الاهتمامُ بالمشاكل التي تصيب البشر، ثمَّة باحثون يضعون الأبحاث كلَّها في سياق المكاسب الخاصَّة والربح التجاريّ. ثمَّة فرقٌ بين علماء الماضي وعلماء اليوم، لأنَّ الشركات والجامعات تُعقّد المسائل.

بأيّ شكلٍ من الأشكال، تستمرُّ الأبحاثُ وتستلزمُ مصادرَ تمويل ورأس مال. يزعمُ بعضُهم أنَّه من دون تمويلٍ من قِبل الشركات، لن تشهدَ العلومُ الطبيَّةُ أو اكتشافُ الأدوية تقدُّمًا. ولكن يجدرُ التشديد على أنَّنا يجب ألاَّ نذهبَ بعيدًا إلى حدّ قبول مبدأ “الغاية تبرّر الوسيلة”، ويجب ألاَّ تُنتهكَ المبادئ الأخلاقيَّة والثقافيَّة والاجتماعيَّة واللاهوتيَّة الدائمة أبدًا. ويجدر بنا استقصاءُ هذه المسائل انطلاقًا من هذا التصوُّر، وليس من باب أنَّنا ضدَّ البحث العلميّ ومساهمة الشَّركات فيه.

2) يعتبر اللاَّهوتُ الأرثوذكسيُّ علمَ التكنولوجيا الحيويَّةbiotechnology والأبحاثَ الطبيَّةَ الحيويَّةَ Biomedical، علومًا بشرية ينبغي أن تهتمَّ بجسد الإنسان والأمراض التي تصيبه، ولكنَّها لا تستطيع أن تعطي الحياة معنى أو أن تغلبَ الموت. من الخطأ أن تحلَّ الأبحاثُ البشريَّةُ مكانَ الله وعلاقة الإنسان به، وتتطوَّر إلى ديانةٍ مستقلّةٍ قائمةٍ بحدّ ذاتها.

3) إنَّ محاولةَ بعض الباحثين أن يحلُّوا مكان الله أو أن يكونوا بدلاءَ عنهُ هو تعجرف، “غطرسة” hubris بالمعنى القديم الذي يدلُّ على التجاوز الوَقِح للحدود البشريَّة. هو مثل بناء برج بابل. يمكن للبشر أن يحرثوا الأرض. يمكنهم أن يجروا أبحاثًا على الجسم البشريّ من أجل تحسين صحَّته ومعالجة أمراض متنوّعة. ولكن لا يمكنهم أن يشعروا وكأنَّهم الله على الأرض. في أيَّة حال، ليس بوسعهم أن يخلقوا شيئًا من العدم، الله وحده قادرٌ على ذلك. وقوى الله غير المخلوقة المانحة الوجود والواهبة الحياة موجودةٌ في الخليقة كلّها.

4) من الممكن إتمام محاولة ما عبر التكنولوجيا الحيويَّة الحديثة من أجل الوصول إلى المفهوم الفلسفيّ للرجل الخارق، كما صاغهُ نيتشه. يريدُ البشر أن يشعروا بأنَّ لديهم قدراتٌ عدَّة، لكي يفرضوا أنفسَهم على البشر الآخرين وعلى البيئة. إلاَّ أنَّ هذه الرَّغبةَ تعبّرُ عن أهواء الانغماس في الملذَّات وحبّ المجد وحبّ المال. وعلى العكس، في اللاَّهوت الأرثوذكسي، يُحقَّقُ مفهومُ الرجل الخارق بأكثر طريقةٍ ممكنةٍ، بواسطة خبرة التألُّه التجريبيَّة. لا نتكلَّمُ عن رجالٍ خارقين في اللاَّهوت الأرثوذكسيّ، بل عن متألّهين. عبر قوى الله، يمكن للبشر حتَّى أن يغلبوا الموت ويصيروا آلهةً بالنعمة.

5) لا يمكنُ أن يقبلَ اللاَّهوتُ الأرثوذكسيُّ بعقليَّة تقوم على تحسين النسل، والتي يستطيعُ البشرُ بحسبها أن يركَّبوا بمواصفاتٍ عالية، وامتدادًا لها يتمُّ تدميرُ أولئكَ الذين لا يملكونَ المواصفاتِ ذاتها. فهذا سيُنتجُ تطوُّرَ نوعٍ من العُنصريَّة في المجتمعات الحديثة، أو وَهْدٍ مجروفٍ مثل ذاك الذي كان أهلُ اسبرطة يطرحون فيه الأشخاصَ غير المؤهَّلين.

6) قد تساعدُ الأبحاثُ الطبيَّةُ الحيويَّةُ الحديثةُ الناسَ على الشفاء أو التحرُّر من أمراضٍ مختلفةٍ وما تسبّبُها من آلام. ولكن، حين تتقدَّمُ الأبحاثُ من دون رقابة، هي تَنتهكُ الطبيعة والكائنَ البشريَّ بعواقب غير متوقَّعة، كما أشرنا مرارًا. لا يمكن اعتبار البشر رجالاً خارقين أو حيواناتٍ مخبريَّة.

فيما يختصُّ بالأبحاث الطبيَّة الحيويَّة، ينبغي ألاَّ نأخذَ فقط بعين الاعتبار الإطارَ الذي حدَّدهُ العلمُ الحديثُ لأخلاقيَّات علوم الحياة، بل أيضًا مبادئ اللاَّهوت الأرثوذكسيّ. فأخلاقيّاتُ علوم الحياة نفسُها يجب أن تتشبَّعَ من لاهوت علوم الحياة biotheology.

7. مبادئ عامَّة تتعلَّق بلاهوت علم الحياة

وفقًا لأرسطو، لدى الإنسان “رغبةٌ طبيعيَّةٌ بالمعرفة”. وإذا كان ذلكَ ينطبقُ على ميادين المعرفة البشريَّة كلّها، فينطبقُ بالأكثر على سرّ الحياة. لطالما كان البشرُ منشغلين بالسُّؤال عن ماهيَّة الحياة، وكيف تبدأ، ومَن الذي أعطاهم إيَّاها، وماذا وُجد قبل الحبَل بهم، وأين كانوا سابقًا، وما هو معنى الحياة. ومِنَ المدهش أنَّ الأولاد منذ بدء حياتهم يهتمُّون بهذه الأسئلة. غير أنَّها تَظهرُ مرارًا في أيّ عمرٍ وفي أوقاتٍ حرجة، في المراهقة، في منتصف العمر والشَّيخوخة، وأيضًا في أقصى حالات النزاع بين الحياة والموت.

بدمج التكنولوجيا بالطبّ، يمكن للبشر اليوم أن يستقصوا هذه الأسئلة الجدّيَّة، وبخاصَّةٍ ما يحصل عند الحبَلُ بهم، وكيف عاشوا في رحم أمّهم منذ لحظة الحبَل. المشكلة لاهوتيَّةٌ في الأساس.

نعرضُ هنا بعض الأجوبة اللاهوتيَّة الضروريَّة على مسائل تتعلَّقُ بأخلاقيَّات علم الحياة وما يرتبط بها.

أ) اللاهوت والعلم

لقد أكَّدتُ سابقًا نظرة أنَّ اللاَّهوتَ الأرثوذكسيَّ لا يتعارضُ مع العلم وليس معاكسًا له. وإذا كانت الحالةُ كذلك في وقتٍ ما في التاريخ، فإنَّ ذلك كان في الغرب حيثُ تمَّ تحديدُ اللاَّهوت بالماورائيَّات، ولهذا السَّبب، هاجم مفكّرون قياديُّون خلال عصر النَّهضة والأنوار، الماورائيَّات ودحضوها. إلاَّ أنَّ اللاَّهوتَ الأرثوذكسيّ كما عبَّرَ عنه آباء الكنيسة، لم يكن قطّ مرتبطًا بالماورائيَّات.

في الواقع، تختلفُ مادة اللاَّهوت الأرثوذكسيّ وهدفُه عن مادة العلم وهدفه. يعتقدُ اللاَّهوتُ الأرثوذكسيّ بأنَّ العالمَ كلَّه هو خليقةُ محبَّة الله الثالوثيّ، وبأنَّه موجَّهٌ نحو نهايةٍ هيَ تجلّيه. لقد خلقَ الله البشرَ على صورته ومثاله، ما يعني أنَّهم يملكون نوساً وإرادةً حرَّة، ويشقُّون طريقهم نحو التألُّه. يستقصي العلمُ العالم، بخاصَّةٍ العالم كما صارَ بعد سقوط الإنسان، حين دخلَ الفسادُ وقابليَّةُ الموت إلى البشر والخليقة. وفي حين ينصرفُ العلمُ إلى معالجة “الأقمصة الجلديَّة” للفساد وقابليَّة الموت، يُعنى اللاَّهوتُ الأرثوذكسيُّ بغلبة الموت وجعل البشر في اتّحادٍ مع الله.

وثمَّة نقطةٌ مهمّةٌ أخرى في هذا الارتباط هي أنَّه رغم أنَّ العلم ليس لديه الله ويهتمُّ ببحث العالم المخلوق، يمكن للعالِم أن يؤمن بالله أو لا يؤمن. كما كتبَ الأب يوحنا رومانيدس بطريقةٍ مميَّزة، قد يهتمُّ لاهوتيٌّ بالعلم، ولكنَّه يفعلُ ذلك بحُكم المعرفة العلميَّة التي اقتناها، لا بفعل لاهوته. وقد يهتمُّ عالِمٌ باللاَّهوت، ولكنَّه يفعلُ ذلك بسبب لاهوته، إذا كانت لديه معرفةٌ تجريبيَّةٌ بالله، لا بفعل علمه. وكما أنَّ علماء الفلك الذين كانوا يدرسون ظاهرة السَّماء المليئة بالنجوم استطاعوا أن يعلنوا: “كم هي عظيمةٌ أعمالك يا ربّ!”، فالعلماءُ الذين يعملون الآن في حقل علوم الأحياء الوراثيَّةmolecular biology يمكنهم أن يعلنوا: “كم هي صغيرةٌ أعمالك يارب!”، أو “كم هي عظيمةٌ أعمالك بدقَّتها يا رب!”.

لا يمكنُ أن توجد عداوةٌ بين العلم واللاَّهوت، أو بين اللاَّهوت والعلم. وهذا لا يعني أنَّ البحثَ العلميَّ يجب أن يجري بلا مراقبة، لأنَّ لذلك نتائج مخيفةً فيها تشويه. ينبغي أن يُحدَّ البحثُ الطبيُّ بالقوانين التي يضعُها العلمُ نفسُه، والتي على الأغلب ستكون متأثّرةً بنظرة اللاَّهوت إلى البشر، وبمبادئ أخرى قَبِلَتها الفلسفةُ والمجتمع.

وهذا تحديدًا ما حثَّ على تطوُّر علم أخلاقيَّات الحياة ابتداءً من الستّينات، والذي يحاولُ وضعَ حدودٍ سيجري ضمنها البحثُ الطبيّ.

سأقدّمُ الآن المبادئَ اللاهوتيَّة الأساسيَّة المتعلّقة بالبشر منذ الحبَل بهم حتَّى نهاية حياتهم البيولوجيَّة، وهي مبادئ ينبغي أن يأخذها العلماءُ الأرثوذكسيُّون بعين الاعتبار.

ب) مبادئ لاهوتيَّة أساسيَّة من أجل العلوم الطبيّة الحيويّة Biomedical Science

بحسب التَّعليم الأرثوذكسيّ، البشرُ هم خليقة الله الأكثر كمالاً. خلقَ الله أوّلاً العالم العقليّ، الملائكة، ثمَّ العالم المنظور، أي الكون بأسره. وفي الأخير خلقَ الإنسان، الذي يتكوَّنُ من عناصرَ نوسية ومُدرَكة، وهو بالتالي عالَمٌ صغيرٌ للكون كلّه، وخلاصةُ الخليقة بأسرها. بعد السقوط، دخلت قابليَّةُ الفساد والموت إلى البشر، وتظهرُ هذه في المرض والموت. ولهذا السَّبب، لمَّا صار المسيح إنسانًا واتَّخذَ طوعيًّا جسدًا مائتًا ومتألماً، جمعَ العالم وألَّهَ الطبيعة البشريَّة التي اتَّخذها، ممكّنًا الجميع من اختبار التألُّه بدءًا من هذه الحياة البيولوجيَّة.

سأقدّمُ عشرة مبادئ لاهوتيَّة أساسيَّة. ليست هذه مبادئ فلسفيَّة، بل تجليَّاتٌ للاَّهوت الأرثوذكسيّ. هي تعني البشر كلّهم، وبالطبع تهمُّ كافَّة الأبحاث حول الحياة البشريّة.

المبدأ الأوَّل. إنَّ قوى الله غير المخلوقة موجودةٌ في الخليقة بأسرها وفي البشر. بحسب تعليم آباء الكنيسة، لا توجد قوانينٌ طبيعيَّةٌ في الخليقة، بل قوى الله غير المخلوقة. لم يخلق الله العالم مكانًا فيه قوانين طبيعيَّة محدَّدة ثمَّ انصرفَ عنه، كما يعتقدُ الربوبيُّون. على العكس، هو يديرُ العالم بنفسه عبر قواه غير المخلوقة. فالعالم يشتركُ بأسره بطرائقَ عدَّة، بقوى الله المانحة الوجود والواهبة الحياة والمُلقِّنة الحكمة. تشتركُ الخليقة كلُّها بقوى الله المانحة الوجود. يشتركُ الحيوانات والنباتات بقواه الواهبة الحياة أيضًا. أمَّا البشر، فلا يشتركون بقواه المانحة الوجود والواهبة الحياة فحسب، بل أيضًا بقواه الملقِّنة الحكمة. والملائكةُ والمتألِّهون يشتركون في القوى المؤلِّهة أيضًا.

توجد بالتأكيد مبادئٌ ثابتةٌ ضمنَ الخليقة والبشريَّة، ولكن لا يمكن اعتبارها قوانين طبيعيَّة مخلوقة. تشير هذه المبادئ بالأحرى إلى أنَّ قوى الله غير المخلوقة تفعلُ على نحوٍ ثابتٍ، وتُظهرُ أمانة الله. وبالتالي، ليست المعجزات رفضًا لقوانين طبيعيَّة وضعها الله ظاهريًّا. فإذا كانت الحالة كذلك، سوف يزيلُ الله نفسه بمعجزات. على العكس، تفسير العجائب هو أنَّ الله في لحظتها يرغبُ في أن يتصرَّفَ على نحوٍ مختلفٍ عمَّا تصرَّفَ عليه سابقًا.

من المعروف أنَّ العالمَ الطبيعيَّ كما نعرفهُ اليوم ليس كما خلقهُ الله. فبَعدَ سقوط الإنسان، دخلَ الفسادُ والموتُ إلى الخليقة. إلاَّ أنَّنا نتوقَّعُ أنَّ هذه الخليقة أيضًا ستتحرَّرُ من الفساد وتتجدَّدُ في المجيء الثاني للمسيح. لدينا تذوّقٌ مسبَقٌ لتجدُّد الخليقة هذا، في حياة القدّيسين.

المبدأ الثاني. خلقَ الله العالم شخصيًّا بإرادته الخاصَّة وبطريقةٍ مؤكدة. هو لم يعمل وفقًا للضرورة عندما خلق العالم والبشر. نشدّدُ إذًا على أنَّه لا يمكننا قبول آراء الماورائيَّات حول جسدٍ مائتٍ بالطبيعة وروحٍ خالدةٍ بالطبيعة. فاستنادًا إلى الماورائيَّات، كانت الروح ظاهريًّا في عالم المثُل غير المخلوق والخالد، وتحوَّلتْ عنه، فعوقبَت بسجنها في جسدٍ مائت؛ إذًا خلاصُ الإنسان عبارةٌ عن تحرير الروح من الجسد وعودتها إلى عالم المُثل غير المخلوق.

يُعلّمُ اللاَّهوتُ الأرثوذكسيُّ أنَّ الإنسانَ المصنوعَ من نفسٍ وجسد، قد خلقهُ الله بطريقةٍ مؤكّدة، وأنَّ الروح لم تكن في أيّ وقتٍ حيَّةً قبل الجسد، ولا كان الجسدُ حيًّا قبل الروح. لقد خُلق الجسد والروح في الوقت عينه.

كونه من خلق الله، يملكُ الإنسان “وجودًا”. هذا الوجود عطيَّةٌ من الله، وينبغي على الإنسان طبيعيًّا أن ينسبَ نفسه إلى الله. سقوطه كان خسارة على القرض في هذه العلاقة. إذًا، البشرُ ليسوا كائناتٍ مكتفيةً بذاتها ومستقلَّة.

المبدأ الثالث. يتكرَّرُ خلقُ آدم وحوَّاء في كلّ ولادةٍ جديدةٍ لإنسان. بحسب القدّيس أثناسيوس الكبير، “اليَدُ ذاتها التي جَبَلت آدم، تجبل الآن ودائمًا، الذين بعده”. وبحسب القدّيس يوحنّا الذهبي الفم، “الحمْل بالأولاد له مصدره من العُلى، بعناية الله، ولا تكفي طبيعة المرأة أو الجماع أو أيُّ أمرٍ آخر من أجل إحداثه”. كلُّ شيءٍ ينشأ بقوَّة الله الخالقة. يخلق الله الجسدَ من خلال مادَّة الوالدَين الوراثيَّة، وتُخلق الروح في الوقت عينه بتدخُّل الله المباشَر.

يكتبُ القدّيس مكسيموس المعترف عن الولادة البيولوجيَّة للكائن البشريّ قائلاً إنَّها ولادةٌ واحدةٌ بفعل تواجد الروح مع الجسد، ولكنَّها منقسمةٌ إلى اثنين “لأنَّ كلاًّ منهما يولَدُ بطريقةٍ مختلفة”. يقول هذا لأنَّ علَّة وجود الروح وطريقة خلقها تختلفان عن علَّة خلق الجسد وطريقة ذلك. فالجسد يتكوَّنُ عند الحبَل من المادَّة الموجودة من جسدٍ آخر، بينما تتكوَّن الروح عند الحبَل بمشيئة الله، عبر نفخته الواهبة الحياة، بطريقةٍ يصعبُ التعبير عنها ومعرفتها. إلاَّ أنَّ الروح والجسد كليهما يشكّلان وحدةً واحدة، “صنفًا واحدًا”: الإنسان.

بحسب تعليم القدّيس باسيليوس الكبير، “بالنسبة لنا لا يوجد تساؤل دقيق حول ما إذا ما تشكَّلت أو لم تتشكَّل”. بكلامٍ آخر، لا يمكننا التمييز بين جنين لم يتَّخذ شكلاً وجنين اتَّخذ شكلاً. وفقًا لبلسَمون، وهو مفسّرٌ للقوانين المقدَّسة، “قيلَ هذا بسبب الذين يقولون إنَّه حين تُنثَرُ البذرة في الرحم، لا تتَّخذُ في هذه المرحلة شكلَ كائنٍ بشريّ، ولكن تتحوَّل في البدء إلى دمٍ، ثمَّ تتصلَّب إلى جسمٍ بشريّ، ثمَّ تتشكَّلُ وتتقولبُ إلى أعضاء الجسد وأجزائه، لذلك لا يُعدُّ قتلاً أن يُجهَضَ جنينٌ لم يتَّخذ بعد شكلاً”.

يُذكر أيضًا أنَّ الآباء يقولون فيما يختصُّ بالحبَل بالمسيح إنَّ “الجنين يتلقَّى الروح مباشرةً عند الحبَل”. إذًا يقتبلُ الكائن البشريّ روحًا في لحظة الحبَل ذاتها. لا يوجد وقتٌ بين الحبل وتلقّي الروح، ولا تُقتبَل الروح بعمليَّةٍ تدريجيَّة. في الكنيسة الأرثوذكسيَّة، نؤمنُ بوجود الروح “منذ لحظة الحبَل الأولى” في الكائن البشريّ. وهذا أيضًا السبب في أنَّ الكنيسة تحتفلُ ببشارة والدة الإله، والذي هو عيد الحبَل بالمسيح في رحم الكليَّة القداسة، وبأعياد الحبَل بوالدة الإله وبالسابق المجيد. الكائنُ البشريُّ هو وحدةُ روحٍ وجسدٍ منذ لحظة الحبَل الأولى، ما إن تتلقَّحُ البُويضة.

المبدأ الرابع. يتَّحدُ الجسدُ والروحُ فيما بينهما. بحسب الآباء، كما يُجذَب العاشقُ تجاه معشوقه، هكذا ينجذبُ الجسدُ والروحُ فيما بينهما انجذابًا متبادَلاً. لا تتركَّزُ الروح في مكانٍ محدَّدٍ في الجسد، كما تعلّمُ الماورائيَّات، بل هي “في كلّ مكانٍ في الجسد”. كجوهرٍ هي في القلب – ليس وكأنَّها في وعاء، بل كأنَّها في عضو – وكطاقةٍ، هي في الأفكار والجسد. ويحدثُ فصلُ الروح والجسد في أوان الموت بمشيئة الله، ولكنَّ “أكثر رابطٍ طبيعيّ” يتفكَّكُ “بقوَّةٍ من انسجامه وقرابته”. هذا هو سرُّ الموت.

للروح قوَّتان متوازيتان: الملَكة النوسيّة والملَكة العقليَّة. توجدُ الملَكة النوسيّة وتعملُ منذ لحظة الحبَل الأولى، ولكنَّ الملَكة العقليَّة تنمو مع مرور الزمن. يُنمَّى التفكير اللفظيُّ في الطفولة، ثمَّ ينمو التفكيرُ الناقدُ لاحقًا خلال المراهقة. مع مرور الوقت، يتكمَّلُ تركيبُ الروح والجسد. ورغم وجود الكائن البشريّ مباشرةً عند الحبَل، تُعبّرُ الروحُ عن ذاتها بينما ينمو الجسد ويصبح كاملاً.

لقد خلق الله البشر على صورته ومثاله. كوننا على صورته هو واقعٌ معيَّن، وكوننا على مثاله هو الهدف الذي ينبغي أن نَصِلَ إليه. يملكُ البشر نوساً وإرادةً حرَّة. ليسوا آلاتٍ حيَّة، بل يملكون خاصيَّةً مميِّزةً تفصلُهم عن الكائنات الأخرى. ولهذا السبب، لا يمكن أن يُعدّوا حيوانات مخبريَّة أو آلات بيولوجيَّة.

المبدأ الخامس. تنتجُ قابليَّة الجسد للموت والفساد عن خطيئة آدم. في الأساس، تنتجُ عن الخطيئة الجدّيَّة (نسبةً إلى الجدَّين الأوَّلين – المترجم) التي يَرِثها البشر. الموت موجودٌ في الإنسان، نحن نُخلقُ ونموت. والمرض، ونموّ الجسد، والإنحلال والشَّيخوخة هي نتائج دخول الموت إلى الجسد البشريّ.

نؤمنُ في الكنيسة الأرثوذكسيَّة بأنَّ المسيح اتَّخذ جسدًا مائتًا ومتألّماً من دون الخطيئة، من أجل غلبة الموت من الداخل. إلاَّ أنَّ قابليَّة الموت والفساد لم تفعل في المسيح كُرهيًّا: فالمسيح كإلهٍ كانت له سلطةٌ عليها. والذين يتَّحدون بالمسيح يتحرَّرون من طغيان الموت.

تشنُّ العلوم الطبيَّة حربًا على الموت وتناضلُ من أجل تمديد الحياة البيولوجيَّة، ولكنَّها لا تستطيع أن تغلبَ الموت أو تساعدَ الناس على تخطّيه. يريد البشر الانتصار على الموت، وليس تمديد الحياة. نحن ممتنّون للعلم، الذي يفعل كعطيَّة الله حين يُسكّنُ عذاب البشر، ولكنَّ الموت يمكن أن يُغلبَ فقط بنعمة الله ابتداءً من هذه الحياة.

المبدأ السادس. إنَّ قابليَّة الفساد والموت، التي تظهر في الأساس في المرض ثمَّ الموت، يمكن أن تعملَ لخير البشر. هي تُذكّرهُم بأنَّ الحياة البيولوجيَّة وقتيَّةٌ. وهذا يجعلهم يرون الأمور بطريقةٍ مختلفةٍ كليًّا، وينمُّون إبداعهم.

إنَّ الألم يجعلُ البشر كاملين. يجعلهم يحبُّون بعضهم بعضًا، ويرون الحياة والآخر من منظورٍ مختلف. يُحسِّنُ الضيقُ موقفهم من الحياة. والثقافات المرتكزة على الموت هي أكثر اجتماعيَّةً وإنسانيَّة.

يرتبطُ الألمُ والضيقُ رباطًا وثيقًا باللَّذَّة، بحسب تحليل القدّيس مكسيموس المعترف. لقد جلبت اللَّذَّة ألمًا، وغلبةُ الضيق والألم تشفي اللَّذَّة. إذًا، الألمُ مفيدٌ للبشر، وفقًا للتعليم الأرثوذكسيّ. وبحسب القدّيس غريغوريوس بالاماس، الضيقات والتجارب كلُّها “تتعاون من أجل الخلاص”، وهي أحيانًا “أفضل من الصحَّة نفسها”. والمجتمع الذي يزيلُ الألم ويسعى نحو الفرح المستمرّ يكون غير قادرٍ على مساعدة الناس على أن يخلصوا عبر الإيمان والصبر والتسامح والصلاة. الألم هو كشفٌ جديدٌ في التاريخ حصلَ بواسطة المسيح. من خلال إفراغه ذاته، من خلال اتّخاذه جسدًا زائلاً ومائتًا، ومن خلال آلامه وصليبه، أظهرَ لنا المسيحُ بُعدًا جديدًا في الحياة، والذي هو تعبيرٌ عن المحبَّة لقريبنا. يصبحُ الإنسان كاملاً عبر الضيق والتضحية.

المبدأ السابع. يملكُ البشرُ امتيازَ الحريَّة. إذا أخذ المرءُ بعين الاعتبار أنَّه، وفقًا للتَّعليم الأرثوذكسيّ، كائنٌ بشريٌّ منذ الحبَل به، فهذا يعني أنَّه، منذ بدء حياته، يملكُ الحريَّة التي ينبغي احترامها. يجب أن يُحترم “حقّه” في الحياة والحريَّة، بخاصَّةٍ في تلك الحالات التي لا يستطيع فيها الدفاع عن نفسه كونه جنينًا أو حديث الولادة.

حين نشير إلى الحرّيَّة، لا نعنيها فقط بالمعنى الفلسفيّ أو الأخلاقيّ، أي مجرَّد إمكانيَّة الاختيار بين الخير والشرّ، رغم أنَّ ذلك أيضًا له قيمته، بل إمكانيَّة حقّ الإنسان في تقرير مصيره المتعلّق بوجوده. ذلك صعبٌ تحقيقه عند الحبَل أو الولادة، إذ لا يُسأل أحدٌ إذا ما كان يرغب في أن يولد. ولمَّا كان الأمر مستحيلاً، يُعطى البشر إمكانيَّة اختبار الحريَّة عبر إعادة ولادتهم التي يدركونها. ففضلاً عن ولادتهم، التي لم يكونوا مسؤولين عنها – فهُم لم يُسألوا عنها وغالبًا ما يكونُ الحبَل بهم ناتجًا عن الحبّ الفاعل كضرورةٍ غريزيَّةٍ من جهة والديهم – توجدُ إمكانيَّة إعادة الولادة، التي تحدثُ بفعل الله وبمؤازرتهم، في داخل الكنيسة وبواسطة الأسرار.

المبدأ الثامن. لا تكمنُ قيمةُ البشر وأهميتهم في ولادتهم ونموّهم البيولوجيّ فحسب، بل قبلَ كلّ شيء في نموّهم باتّجاه الله. كما يوجدُ نموٌّ بيولوجيٌّ، كونهم يبدأون أجنَّةً، ثمَّ يولدون، ثمَّ يصبحون أطفالاُ ويكبرون؛ كذلك يوجد نموٌّ روحيٌّ يبدأ من الحياة البيولوجيَّة ويَصِلُ إلى التألُّه. يمكنُ للبشر أن يتألَّهوا بينما يحتفظون بعناصر طبيعتهم البيولوجيَّة. يمكنهم أن يصلوا إلى الاشتراك بقوى الله المؤلِّهة، إلى تألُّه الروح والجسد، والشركة مع الله.

يتكلَّمُ القدّيس مكسيموس المعترف حول ثلاث ولادات: الولادة البيولوجيَّة التي نتلقَّى عبرها “الوجود”، الولادة “بالمعموديَّة” التي نتلقَّى عبرها “الوجود الحسَن”، والولادة “بالقيامة” حين نتحوَّل بواسطة النعمة إلى “كائناتٍ أبديَّةٍ”. والولادتان الأخيرتان تمنحان الولادة الأولى شأنًا.

إذًا، ولادة الإنسان وإعادة ولادته بالنعمة تحفّزانه إلى أن يبلغ حالاتٍ روحيَّةً ساميةً وإلى أن يصيرَ إلهًا بالنعمة، أي بكلامٍ آخر، أن يصيرَ بحسب النعمة على ما هو الله عليه بحسب الطبيعة.

المبدأ التاسع. رغم أنَّ البشر منذ الحبَل بهم يحملون في داخلهم قابليَّة الموت وَصِفات معيَّنة موروثة، يمكنهم من خلال الحياة في الكنيسة والمعموديَّة والميرون والمناولة، أن يتخطّوا الموت منذ هذه الحياة. وهذا يتمّ التعبير عنه واختباره لا بالخوف من الموت، بل بالرغبة في الموت – لأنَّهم يرغبون بلقاء أحبَّائهم، بخاصَّة المسيح ووالدة الإله والقدّيسين – وأيضًا بعدم فساد أجسادهم (الرفات المقدَّسة). يمكننا ملاحظة هذه الميزات في القدّيسين الذين اتَّحدوا بالمسيح، والذين بات لحياتهم معنى آخر.

هنا يجب أن ننظر بوجهٍ خاصّ إلى المعنى العظيم لرفات القدّيسين غير الفاسدة، والتي تُظهر بوضوحٍ أنَّ البشرة التي هي كتلةٌ من الخلايا، لا تتلف وتتحلَّل. ينبغي في الحالة الطبيعيَّة أن تُتلف الخلايا التي تحتوي على جينات الشَّيخوخة. إلاَّ أنَّ عدم تلفها يعود إلى قوَّة أخرى هي نعمة الله، التي يُغلبُ عبرها الفساد وقابليَّة الموت. يجب أن يبحث العلمُ في هذه الحالة المهمَّة، التي تشكّل جزءًا من الحياة البيولوجيَّة.

المبدأ العاشر. تؤمن الكنيسة الأرثوذكسيَّة بالحياة بعد الموت، وبأنَّ الروح، حتَّى عندما تنفصل عن الجسد، تكون موجودة، وتحيا وتشعر. فضلاً عن ذلك، ورغم انفصال الروح عن الجسد، لا يزول الإنسان. يُشار إلى القدّيسين كمتألّهين، لأنَّهم اقتبلوا نعمة الله في أرواحهم وأجسادهم، وصارت أجسادُهم رفاتًا مقدَّسة. يختبرون توقُّف الطاقات الجسديَّة. لا تملكُ أجسادُ القدّيسين عناصر الفساد. في المجيء الثاني للمسيح، ستدخل أرواحهم في أجسادهم التي ستقوم كأجسادٍ روحانيَّة. لن يكونوا عرضةً للفساد والموت والمرض، أو حدود المكان والزمان.

إنَّ الأخلاقيَّات الأرثوذكسيَّة لعلم الحياة، ولاهوت علم الحياة، من غير أن تُهمل العلوم الطبيَّة والقوانين الأخلاقيَّة والواجِبة deontological، تتخطّاها، وتمنح الحياة البشريَّة بُعدًا آخر.

بعامَّة، يجدر الذكر أنَّ الكنيسة الأرثوذكسيَّة بلاهوتها لا تعيقُ البحثَ في المواضيع العلميَّة. فبحثٌ كهذا له نتائجٌ إيجابيَّةٌ على الحياة البشريَّة، وكذلك له أخرى سلبيَّة. تحترمُ الكنيسة العلمَ والعلماء.

فيما يخصُّ أبحاث الطبّ الحيويَّ، تقبلُ الكنيسة الأرثوذكسيَّة ثلاثة أمور. الأوَّل هو أنَّ أخلاقيَّات علم الحياة والمنظَّمات العالميَّة، من أجل خير البشريَّة، يجب أن تضعَ حدودًا للبحث المعاصر، الذي قد يخرج عن السيطرة. ثانيًا، تودُّ أن يأخذ علم أخلاقيَّات علم الحياة والأطبَّاء بعين الاعتبار جدّيًّا المبادئ اللاَّهوتيَّة التي هي حياة الكنيسة، وعلى الأقلّ أن يحترموا الإيمان المسيحيّ. ثالثًا، ترغب في التشديد على أنَّ قيمة البشر لا تكمنُ في ولادتهم فحسب، بل في إعادة ولادتهم، حين يجدون معنى لحياتهم، لأنَّهم حينها سيفرحون بولادتهم البيولوجيَّة وبالخليقة بأسرها. وينبغي التأكيد على أنَّ حتَّى الأوضاع الفضلى – أي الشباب، والصحَّة الجسديَّة، والسعادة الماديَّة، والاكتفاء الاقتصاديّ، ومختلف أنواع الرفاهية، والنجاح الاجتماعيّ والعلميّ – من دون معنى للحياة، من دون المسيح الإله-الإنسان، الذي يُختبَر في الكنيسة عبر الاشتراك في قوى الله المُطهِّرة والمنيرة والمؤلِّهة، هي كلّها جحيم.

من جهة، ثمَّة مأساةٌ أخرى تشابه برج بابل ينبغي تجنّبها؛ ومن جهةٍ أخرى، على البشر أن يجدوا معنًى في الحياة وشركةً مع الله.

* Original text:

His Eminence Metropolitan Hierotheos of Nafpaktos and St Vlassios. The Views of Orthodox Theology on Bioethical Issues. The English translation is by Sister Pelagia. Ἱερὰ Μητρόπολις Ναυπάκτου καὶ Ἁγίου Βλασίου. Ἐκκλησιαστικῆ Παρέμβαση. http://parembasis.gr/index.php/articles-in-english/5523-2018-11-24