من أميركا إلى العالم الأرثوذكسي

الأب أنطوان ملكي

في الحادي عشر من أيار 2019، تمّ انتخاب الميتروبوليت ألبيذوفوروس لامبيرينيذس مطران بُرصة التركية ميتروبوليتاً على الأبرشية اليونانية في أميركا. هذا الانتخاب أو الانتقال أشبه بالتعيين، شأن قضايا عديدة أخرى في كرسي القسطنطينية، وغيرها من الكنائس الأرثوذكسية. ألبيذوفوروس من مواليد 1967، تركي الجنسية، ومتميّز بالعلم والعلاقات القوية. عاش فترة في معهد القديس يوحنا الدمشقي ويجيد العربية التي اكتسبها من أمه الحلبية.

ألبيذوفوروس مدافع شرس عن سياسات البطريرك المسكوني برثلماوس وقد ظهر هذا الأمر بشكل خاص في دفاعه عن عقد لقاء كريت في 2016 كما خلال مجريات الأزمة الأوكرانية منذ نشوئها. يرى بعض المحللين أن حماسه للدفاع عن هذه المواقف يعود إلى أنه المرشح الأكثر حظاً لخلافة برثلماوس على الكرسي القسطنطيني.

من أهم الأفكار التي يبدي ألبيذيفوروس حماساً للمناداة بها هي أولية البطريرك القسطنطيني في الكنيسة الأرثوذكسية، حيث يسميه أولاً من غير مساوين “primus sine paribus”. ففي محاضرة له كأرشمندريت في معهد الصليب المقدس اللاهوتي سنة 2009، قال: “إن رفض الاعتراف بالأوليّة داخل الكنيسة الأرثوذكسية، أوليّة لا يمكن بالضرورة تجسيدها من قبل أول “primus” (أي من قبل أسقف يتمتع بامتياز أنّه الأول بين زملائه الأساقفة) لا يشكل شيئًا أقل من الهرطقة. لا يمكن أن نقبل، كما يقال في كثير من الأحيان، أن الوحدة بين الكنائس الأرثوذكسية يتم الحفاظ عليها إما من خلال قاعدة الإيمان والعبادة المشتركة أو بالمجمع المسكوني كمؤسسة. كلا هذان العاملان غير شخصيين، بينما في اللاهوت الأرثوذكسي، دائماً مبدأ الوحدة هو شخص. في الواقع، على مستوى الثالوث الأقدس، إن مبدأ الوحدة ليس الجوهر الإلهي، بل هو شخص الآب (“مَلَكية الآب”)، وعلى المستوى الإكليسيولوجي في الكنيسة المحلية، فإن مبدأ الوحدة ليس الكهنوت ولا عبادة المسيحيين المشتركة بل هو شخص الأسقف. لذلك على مستوى الأرثوذكسية بشكل عام، لا يمكن أن يكون مبدأ الوحدة فكرة ولا مؤسسة، لكن، إذا أردنا أن نكون على انسجام مع لاهوتنا، يجب أن يكون شخصاً… في الكنيسة الأرثوذكسية أول واحد هو بطريرك القسطنطينية.”[1]

ينبغي التوقف هنا عند ثلاث ملاحظات. الأولى هي وصم الذين يرفضون أولية بطريرك القسطنطينية بالهرطقة وهذا ينطبق على غالبية الأرثوذكس في العالم. والثانية هي أن الشخص الذي يحمل وظيفة وحدة الكنيسة في الكون ليس المسيح نفسه بل أحد الأساقفة أي بطريرك القسطنطينية. بتعبير آخر ما رفضه الأرثوذكس في بابا روما لأكثر من ألف عام يمنحه ألبيذيفوروس لبطريرك القسطنطينية. وهنا تأتي الملاحظة الثالثة بأن في تشبيه أوليّة بطريرك القسطنطينية بمَلَكية الآب تخطٍّ لكل اللاهوت الكاثوليكي الذي يرفضه الأرثوذكس عن خلافة بطرس ووكالة البابا عن المسيح، حيث يصير بطريرك القسطنطينية وكيلاً لله نفسه وممثلاً له.

هذا المنطق المستحكِم في القسطنطينية سبق وعبّر عنه البطريرك المسكوني بنفسه عند خلقه أزمة أوكرانيا حين اعتبر أن على الكنائس الأخرى أن “تطيع” كنيسة القسطنطينية وتوافق على الكيان الذي أنشأه من دون أساس كهنوتي ولا احترام لا للتاريخ ولا للقوانين الكنسية. هذا الفكر ساهم ببثه وتنميته لاهوتيون عدة من الذين يدورون في فلك القسطنطينية أو من دعاة الدمج بين الهلينية والأرثوذكسية، مع التشديد هنا على الفرق بين الهلينية والرومية كمفهوم للتاريخ الكنسي.

يقف هذا المنطق مباشرة وراء المغامرة غير المحسوبة التي قام بها برثلماوس في أوكرانيا. طبعاً، هذا الانحراف اللاهوتي ليس المحرّك الوحيد لهذه المغامرة، لأن اصطفاف كرسي القسطنطينية في الخط الأميركي في السياسة العالمية واضح وليس جديداً بل تعود جذوره إلى بعَيد الحرب العالمية الثانية حيث قام الأميركيون بخلع البطريرك القسطنطيني في حينها وتركيب رجلهم أثيناغوراس مكانه، لتبدأ رحلة خروج القسطنطينية عن الأرثوذكسية حتى الوصول إلى نقطة أن يعبّر القسطنطينيون، من رؤساء ولاهوتيين، عن هذا التعالي القسطنطيني على باقي الكراسي الأرثوذكسية، فيما هم منبطحون أمام الفاتيكان وغيره من الجهات التي يفترضون أنها تؤمّن الحماية للقسطنطينية. من أبرز الإشارات إلى هذا النهج هو ما قام به ألبيذيفوروس نفسه بعد تعيينه رئيساً لأساقفة الأبرشية في أميركا، حيث قبل تنصيبه وقبل أن يبادر إلى الاتصال بأي من الأساقفة الأرثوذكس في أميركا والذين يجمعهم به، إلى جانب الانتماء الكنسي مجلس للأساقفة القانونيين يرأس هو جلساته، قام بزيارة كنيست بارك إيست في نيويورك مع ما تحمل هذه الزيارة من دلالات.

***

في رد ربنا على إعلان بطرس لإيمانه، قال له أنه على صخرة هذا الإيمان سوف تُبنى الكنيسة وقد تمّ بناؤها. وأردف الرب بأن أبواب الجحيم لن تقوى عليها، ولن تقوى لأنه قال هذا. لم يقل ربّنا أن أبواب الجحيم لن تقوى فيها. والمخيف اليوم أننا نرى هذه الأبواب تزداد قوة حيث أن السؤال عن الوحدة الأرثوذكسية على مستوى الخليقة كما في كل كنيسة سؤال مشروع وله حيثياته.

قد يكون وجود انحراف فكري في القسطنطينية وراء عدد من الأزمات أكبرها أزمة أوكرانيا، لكن فعلياً ما يجعل هذه الأزمة على هذا المستوى ولا يساعد على حلّها هو أن البابوية تُمارَس في كل الكنائس الأرثوذكسية، بدرجات متفاوتة من الحدة، ما يفقد الأرثوذكسية مجمعيتها التي هي أساس قوتها وثباتها واستمراريتها.

[1] (https://www.aoiusa.org/ecumenical-patriarchate-american-diaspora-must-submit-to-mother-church/. )