المسيح والحياة

المسيح والحياة

عن النّور لعام 1946

 

اختارته وأعدته للطباعة راهبات دير مار يعقوب، دده، الكورة

نحن الآن أمام أعظم وأقوى مشكلة في العصر، أمام مشكلة تُظهرها للعقل البشري غير الغامض، عدّةُ قضايا واقعيّة، كلّها نتيجة ضغط فكري صميم مصدره الفكر، ونتيجته بعض التّطوّر في الحياة الاجتماعيّة العامّة. أجل إنّ هذا الحدث الفكري الذي أسمّيه ضغطاً لهو موجود حقّاً في عقول أكثر المفكّرين الذين تهمّهم مشكلة العالم، مشكلة الحياة، مشكلة التّطوّر الإنساني الاجتماعي. لأنّ هنالك عدّة بيانات وإيضاحات تُظهر للعقل أنّ العالم في حالة مضطربة خطرة تدعو لا إلى الإصلاح السّطحي الجزئي فحسب، بل إلى الانقلاب الكلّي الصّميمي.
لم يُظهر لنا العالم حتى الآن إلا المتاعب والأحزان والآلام: في أقل من ثلاثين سنة قاوم العالم حربين طاحنتين لم نلقَ منهما إلا خسارة جسيمة في الأرواح وخليطاً وحشيّاً من التّهديم والأهوال والإجرام. إنّ عالماً كهذا هو عالم سيء البناء، عالم كره، عالم يجب أن يُبنى من جديد أو أن يعوَّض عنه بعالم آخر.
لكنّ هذه الشّكوى ليست الوحيدة من جنسها: إنّ طرقاً عديدة للإنتاج ذات قيمة فعّالة يقدّمها لنا العلم وليدة العقل البشري الذي هو وليد الله نفسه خالقنا. ولكنّ عالمنا الحاضر يشوّه سير هذه الطّرق فيحوّلها من طرق حميدة مؤدّية إلى الخير، إلى سبل لكلّ ما فيه أذى وشر، يستعملها العالم لاختراع كلّ ما هو هدّام للإنسان ولممتلكاته وللمدن وما تحوي من آثار فنيّة وتاريخيّة. لا إنّ هذه الحالة لا تطاق لإصلاح العالم الكلّي. ولكن هذه الثّورة هي ثورة مبنيّة على العقل، ثورة مبنيّة على العدل، ثورة مبنيّة على الرّوح المسيحيّة الحقّة التي تتألّم فعلاً إذا كان العالم بعيداً عن الحق، لأنّ المسيحيّين يشعرون بالسّعادة الكلّيّة التي يتمتّع بها الإنسان، إذا كان محافظاً على التّعاليم الإلهيّة. إنّ المسيحيّين، وأقصد بهم المسيحيّين الفعليّين لأنّ هنالك مسيحيّين اسميّين أيضاً، يتألّمون فعلاً عندما يرون العالم يهمل الدّواء الإلهي الخالد، يهمل الحقيقة الموحاة التي ينير بهاؤها السّاطع طبيعتنا وسير حياتنا، يهمل النّعمة المعطاة لكلّ نفس، هذه النّعمة التي يمكنها وحدها أن تنبت في نفوسنا فضائل الطّهارة والاستقامة والتّضحية التي بدونها لا يمكننا أن نفعل شيئاً ذا قدر. إنّ المسيحيّين يتألّمون عندما يرون أنّ المحبّة الإلهيّة قد استعيض عنها بين البشر بالبغضاء والضّغينة.
كلّ البشر، إلا البعض المنكمشين على أنفسهم، يتّفقون أنّ عالمنا الحاضر سيء البناء، ولكن يجب أن يسعى الكلّ لتجديد هذا العالم لأنّ باستطاعتنا أن نغيّر العالم. لو كنّا نعتقد أنّ في طبيعة الإنسان غريزة مغروسة في قلبه لا تتزعزع لكان العمل شاقاً لا نتيجة منه لأنّه إذا تخلّصنا من خطيئة وقعنا في خطيئة أقوى منها. ولكنّ هذه الفكرة لا توجد البتّة.
إنّ فكرة حياة قويمة، فكرة عالم منظَّم، فكرة أرض أخويّة، بدأت تبزغ منذ ألفي سنة تقريباً مع ابن الله الذي أتى إلينا حبّاً بنا. ثم لم تلبث هذه الفكرة أن انتشرت مع المسيحيّة في تطوّرها المسكوني، وهي التي تقوّي في قلوب المسيحيّين الفعليّين الحاليّين أمل التّملّص من ربقة المادّة ونير عبوديّة الخطيئة التي ترتفع بنا إلى عالم غير هذا العالم، إلى عالم روحاني، إلى عالم المحبّة، إلى عالم السّعادة الحقيقيّة.
ولكن واحسرتاه، أصبح الإنسان موطناً للخطيئة. الإنسان يلطّخ كلّ شيء، الإنسان يهدم كلّ شيء. إذا تركنا الإنسان يعمل دون نور المسيحيّة، نحن متأكّدون أنّه سيدنّس ويهدم كلّ شيء لأن الخطيئة الجدّيّة اكتسحت العالم وهي لا تزال تهبط من عزيمته يوماً بعد يوم. ولكنّ المسيحي لا ييأس أبداً لأنّ السّيّد يعطينا دواءه الشّافي، وواجب المسيحي هو أن يقدّم للإنسان هذا الدّواء مؤكّداً دائماً له أنّه بدونه لا يستطيع أن يفعل شيئاً.
إنّ عالماً أفضل وأرفع هو ممكن ويجب أن يظهر. وإذا كان ظهوره يدعو إلى ثورة فلنستعدّ إذن لهذه الثّورة. ولكن ما هي هذه الثّورة التي ندعو إليها وكيف يجب أن نثور كي تكون ثورتنا حقيقيّة وفعّالة؟ هل الثّورة هي، كما يعتقد البعض، مظاهرة شعبيّة وإضراب عام والتجاء إلى السّلاح والحروب الأهليّة؟ إنّ ثورات كهذه تهدم عزيمة الشّعب وتجعله ييأس ممّا يفعل إذا لم يؤدّ عمله إلى ما فيه خير سريع لنفسه فيترك الثّورة والمثيرين ليهتمّ بأمور أخرى.
هل الثّورة إذن هي الثّورة التي يتبعها عبّاد الإله الثّاني اليوم؟ إذا لم يسع هؤلاء ليخلعوا عنهم مادّيّتهم كي تتحوّل عقيدتهم إلى ضرورة اجتماعيّة وسياسيّة فقط، نحن نرفع تجاههم صراخاً لا يصمت: “المادّيّة تحوّل الإنسان لآلة متحرّكة أو لحيوان شبيه ببعض القردة. المادّيّة تهدم حرّيتنا وتتركنا نغرق في شهواتنا ناكرة مسؤوليّاتنا تجاه الله الخالق الذي لا وجود له عندها”. كيف يمكن للمادّيّين بعد ذلك أن يتكلّموا عن القيم الإنسانيّة وما هي هذه القيم عندهم؟ ماذا يبقى من هذه الكلمات إذا أنكرت المادّيّة علينا حقوقنا الإنسانيّة وارتفاعنا لدرجة أولاد الله وخلاصنا بالكلمة المتجسّد، لا يمكن أن ننقذ شعباً إذا دفعناه إلى لجج المادّة الخنّاقة.
نحن نريد ثورة ولكن ليست كلّ ثورة تؤدّي للإصلاح العام. لا نريد إذن مظاهرة شعبيّة التي لا تؤدّي إلا إلى الخراب والدّمار. ولا نريد ثورة مادّيّة تخنق العالم بمادّيّتها، لأنّ هاتين الثّورتين تستعملان طرق القوّة خلاقة البلبلة والتّشوّش والظّلم والألم، طرقاً مستقبَحة حتى ولو أدّت إلى نتائج حسنة لأنّ الغاية لا تبرّر الواسطة.
نحن إذن نريد ثورة مسيحيّة مبنيّة على روح الكنيسة لأنّ الكنيسة إذا كانت تستنكر طرق الثّورة الدّامية فهي لا تستنكر أبداً التّطوّر والتّغيّر، لا لأنّها تحبّذ التّغيّر للتّغيّر، ولكنّها إذا وجدت أسباباً للتّطوّر فهي لا تسعى إليه لأنّها ترى فيه تجديداً لقوامها. الكنيسة تستنكر من جهة ثانية الخمول والبلادة. الكنيسة تدخل بكلّ جرأة في هذا الميدان الواسع المضني ميدان الحياة، الكنيسة لا تتجاهل أبداً القضيّة الاجتماعيّة، بل تطرح هذه المشكلة وتسعى لحلّها بكلّ عمق. الكنيسة هي أمّ الجميع وهي تريد أن يخلص الجميع لأنّها تحبّ الجميع. الكنيسة المتحرّكة بالذي قال: “أنا هو الحقّ والحياة” لا تخشى أن تعرفّنا الحقّ في كلّ قواعد الحياة. الكنيسة تعلن لنا: “إنّ الحياة تبدّل مستمرّ، فلنتبدّل نحن أيضاً، حيث يجب أن نتبدّل، كي لا ننشقّ عن الحياة”.

Leave a comment