الشيخ كالينيكوس اليَقِظ

إعداد أسرة التراث الأرثوذكسي

اسمه في العالم قسطنطين فياسباريس مولود في أثينا سنة 1853. منذ طفولته أحسّ بدعوة إلى الرهبنة، لكنه لم يستطع تلبيتها مباشرة. كان يرتاد الكنيسة ويقرأ ويصلّي ولكنه كان يشعر بأن شيئاً ما ينقصه. عندما التقى ببعض الرهبان الأثوسيين الذين شرحوا له عن الرهبنة، قرر أن يترك العالم ويمضي إلى الجبل المقدس أثوس.

عند بلوغه الثانية والعشرين ومن دون أن يخبر أحداً نزل إلى مرفأ اثينا (بيريا) مصلياً إلى الرب أن يجد باخرة تحمله إلى الجبل المقدس. سمع الرب واستجاب، فوجد قسطنطين نفسه بين رهبان الجبل في دير القديسة حنة.

لم يرتَح كثيراً لحياة الشركة الواسعة فحمله التدبير الإلهي إلى يدي أكثر نساك الجبل غيرة في حينه، الشيخ دانيال في منسك القديس جيراسيموس. في البداية، كان الشيخ دانيال متشككاً: هل يستطيع هذا الشاب المتعلّم الذي تربّى في تنعّم أثينا أن يحتمل وطأة المناقب الرهبانية؟ كان الشيخ دانيال يقطن في أحد أكثر الأماكن وعورة في الجبل. لم يكن هناك ينبوع ماء، وحده ماء المطر هو المتوفر وينبغي توفيره. الفاكهة، منتجات الألبان والخضار لم تكن موجودة. الخبز كان ناشفاً. لم يكن الشيخ يسمح باستعمال الماء للغسيل. وأكثر الأمور صعوبة كان الانعزال في مكان واحد. لم يكن مسموحاً لأي من المبتدئين الذهاب خارج حدود القلاية إلا إذا أرسله الشيخ لمبادلة الأعمال الخشبية التي ينتجها الرهبان بالطعام الضئيل.

لكن ما فاجأ الشيخ دانيال هو أن الشاب قسطنطين لم يحتمل هذه التجارب وحسب بل نجح وَتفوّق على غيره من المبتدئين المجرَّبين. نموذج التقوى الذي أظهره قسطنطين أقنع الشيخ بأنه سوف يكون راهباً مستحقاً. سيم قسطنطين راهباً وأُعطي اسم كالينيكوس. قبل انتقال الشيخ دانيال من العالم، علّم تلميذه كالينيكوس فنّ الصلاة غير المنقطعة وكل تعقيدات الحياة الجهاد.

بعد رقاد شيخه في 1881، انتُخِب كالينيكوس شيخاً إذ رأى الإخوة أنه امتصّ حكمة معلمه وخبرته الروحية، مع أنه في الثامنة عشرة من عمره فقط. مع أنه لم تتسنَّ له الدراسة الأكاديمية العالية في أثينا إلا أنه كان شخصاً دارساً على ذاته حتّى أنه تعلّم الروسية لوحده لكي يتواصل مع الرهبان الروس.

في 1885، انسحب الشيخ إلى قلايته وصار ناسكاً، حيث قضى خمساً واربعين سنة معتزلاً لا يرى أحداً ولا يراه أحد. كل احتياجاته كان يؤمّنها اثنان من المبتدئين. لم يكن يقطع وحدته إلا الكاهن الذي يأتي لمناولته. وكل هؤلاء الكهنة يحكون عن معاينة نور ثابور على وجه الشيخ عند المناولة.

بعد هذه السنوات، بدأ الشيخ يستقبل المؤمنين وصار أباً معرّفاً معروفاً ليس فقط في الجبل بل ابعد من ذلك بكثير. زاره رهبان وكهنة وشرطة ووزراء وتجار ومتعلمون وأمّيون وفقراء. حدث العديد من الأشفية والمعجزات خلال هذه الزيارات. لكن تبقى أهمّ مواهبه البصيرة الروحية التي جذبت إليه مئات الرهبان وغيرهم من الذين كانوا يطلبون إجابات على أسئلة صعبة في الحياة الروحية.

كان الشيخ، إذ يغرق في الصلاة القلبية، يبقى من دون طعام ولا نوم ولا راحة، لعدة أسابيع. وكان تلاميذه يعاينون النور الذي ينبثق من الشيخ، وهذا ما كان يعاينه أيضاً الزوار الذين يُتاح لهم زيارته في بعض الفترات.

نشأت في 1910 هرطقة بين الرهبان الروس والرومان، عُرفَت بعبادة الاسم (Ονοματοδοξη). الفكرة أنشأها راهب روسي يدعى إيلاريون ادّعى أتباعه أن اسم الله هو الله نفسه بجوهره. هذا التيار هزّ الجبل المقدّس وأدانته الجماعة الأثوسية، والبطريركية المسكونية ومجمع الكنيسة الروسية. مركز هذا التيار كان إسقيط القديس أندراوس في كارياس وكان يُعرَف بالسراي، وقد ترافق الأمر مع وقوع بعض العنف. لم تنتهِ الفوضى إلا بتدخل الجيش الروسي في صيف 1913، حيث نقل ما يزيد عن الألف راهب إلى جبال القوقاز في روسيا، حيث أصدر البطريرك المسكوني قراراً بمنعهم من العودة إلى الجبل.

في أثناء هذه الفوضى، أظهر الله أهمية الجهد الذي بذله الشيخ كالينيكوس لتعلّم الروسية، مستفيداً من نظرة الجماعة إليه كشيخ ذي قامة روحية كبيرة، ومن بعد دراسته لفكر إيلاريون، واجه الشيخ أتباع الهرطقة ووصفهم بأنهم “يوقرون السكوفو (القبعة الرهبانية) ويهملون الرأس”. يُقال أن الامبراطور الروسي قرّع المجمع الروسي بقوله: “عجز المجمع بأكمله عن التعرف على الهرطقة ما أحوج وجود راهب عادي من الجبل لينيركم”.

إذ لم يجد المجرّب درباً للوصول إلى نفس الشيخ الطاهرة، حاربه بالافتراء والاتهام والإهانة. هذا احتمله الشيخ بتواضعه ووداعته المعتادين.

في 1930، لازم الشيخ فراشه لأربعين يوماً. في العشرين من آب، أثناء استعداده للخروج من هذا العالم، عاين في قلايته جمهرة من آباء الجبل الممجَّدين، وصار وجهه مشعاً وبهِجاً كما لو أنه الفصح. قبل رقاده، تطلع بوقار إلى القديسين الذين جاؤوا إليه، قال: “أيها السيد! أنا لم أعمل اي شيء حسن في حياتي لكن أشكرك يا رب على أني أموت أرثوذكسياً”. ثم أغلق عينيه وأسلم روحه بين يدي الله.

كان وجهه مشعاً حتى أن الحاضرين وجدوا صعوبة في النظر إليه. لم يُكتَب الكثير عن هذا الشيخ مع أن كثيرين من العالم أتوا إليه من العلماء والإكليروس، وكثيرون بقوا إلى جانبه من خلفيات مختلفة. من بين أهم الذين تركوا العالم وتتلمذوا عند الشيخ اسبيريدون ماناغياس الذي كان من عائلات اليونان الأرستقراطية وكان عالماً كيمائياً مشهوراً في جامعة زوريخ.

من تعاليمه أن الإنسان، بقدر ما يرتفع، يزداد تواضعه. على الرغم مما عاشه كل تلك السنوات من شبابه إلى شيخوخته، وإذ بلغ علواً في الصلاة والتأمّل والمعاينة وكلله الله بالمعجزات والبصيرة واليقظة، كان يعتبر نفسه دائماً الأقل استحقاقاً للشرف الإلهي، وأنه أكبر الخطأة مظهراً دائماً عظَمَة الوداعة والمحبة.

إن هذا الشيخ وأمثاله والنموذج الذي يقدمونه لنا هم الدينونة الفعلية لكبريائنا ونظرتنا لذواتنا. أيها الشيخ كالينيكوس اليقِظ تشفّع بنا.

* بتصرّف عن المتقدم في الكهنة إيغور ريابكو والأرشمندريت جبرائيل الديونسيوتي.