المسيحية ثورة على الخوف

المسيحية هي ثورة على الخوف
د. جان القرعان

 

أكبر مشكلة في حياة الإنسان هي مشكلة الخوف. هذه المشكلة هي مشكلة المشاكل لأنها سبباً لعدة مصائب في الحياة. الإنسان ليس فقط يخاف المجهول ويخاف من المستقبل ويخاف مما هو غير منظور بل إن الإنسان يخاف من ذاته، يخاف من التربية ومن الدولة ومن القانون. هذه التربية والدولة والقانون قد كانا من إحدى الأسباب أن تجعل الإنسان يعيش أسيراً للخوف. هناك محاولات تمت في التاريخ لكي تدمر الإنسان عبر إقناعه بأن حياته هي القلق. الإنسان الذي يحيا بالقلق والخوف هو إنسان دمر نفسه وحكم على ذاته بالفشل وبعدم الإمكانية من التغيير في الحياة وعدم إمكانية تغيير حياته هو بالذات. نحن نعلم من دراسة للدكتور كوستي بندلي يذكر فيها”إن الأهل في الشرق لديهم نفسية القلق” وهذه النفسية هي التي قد تهدد التربية في المجتمعات. وهي التي فشلت بان تضع مجتمعاً تربوياً صحيحاً. وهذا يظهر في فيلم من الأفلام الرائعة واسمه “Dead Poet Society” (المجتمع الشعري الميت) حيث الابن يخاف أبوه لأن أبوه ليس هو إلا صورة للسلطة وليس صورة للأبوة الحقيقية. أبوه ظن إن مستقبل ابنه هو في أن يصبح طبيباً لكن ابنه لا يحب إلا الفن أمام هذا الصراع في وجهات النظر للحياة والتربية قتل الوالد ابنه عندما قتل كل إمكانية للحوار معه.

عندها ألغى شخصيته وحريته عبر سوء استخدامه للأبوة وللسلطة وكأن هذا الابن لم يولد بعد من أبوه. هذا الولد عاش حياته كلها بالخوف، بالخوف من أن يتكلم مع أبوه، من أن يحاوره ويصارحه لأنه فقد الثقة بأبوه. لم يرى أبوه إلا طاغية وحاكم مستبد يقتل حريته بعدم الحوار. لأن الأب كان يخاف من الكلمة، كان يخاف من الحوار. إلا إن وصل الأمر لدى الولد بأن الحل الوحيد للمسالة هو الانتحار. بأن الحل الوحيد للحياة هو أن يموت.لقد اختار الموت ليحيا. لأن أبوه كان قد قتله وهو لا يزال حياً. كان قد قتله قبل أن يموت.هناك أناس مائتة قبل أن تموت لأن لم نعطيهم الحياة الحقيقية. هذا الأب أراد ابنه مثله، أراد ابنه صورة عنه، أراد أن يستنسخه وهو حي. لم يقدر أن يراه مختلفاً عنه، لم يراه شخصاً آخر. أكبر جريمة في التربية والعلاقة مع الآخرين في كل اطر الحياة هي عندما لا نخلق آخرين مختلفين عنا، عندما نربي الآخرين وكأننا نربي أنفسنا، هذه الصورة نراها في الكنيسة وفي التربية وفي الدولة وفي العائلة. ان لا شيء يؤلم الإنسان مثل الم التنوع في الحياة. الخوف في هذا الولد أدى به الى اليأس، واليأس في المسيحية ليس إلا هو موت وانتحار واستسلام للتغيير في الحياة بحسب آباء الكنيسة.

المسيحية تنطلق من هذه القصة الخطيرة والمعبرة والمهمة لتقول بأنها هي ثورة على مفهوم الخوف. لأن لا شيء يقتل الإنسان المسيحي في المسيحية مثل الخوف من قول الحقيقة. هذا مما أدى بالعالم النفسي فرويد إلى القول بان الإنسان يؤمن بأن الله موجود لأنه يخاف من أبوه. كم مكن أب قتل صورة الله في ابنه؟ كم من أب كان سبباً للإلحاد في عائلته؟ كم من أب قتل ابنه بان جعله لا يعبد ألا نفسه (أبوه)؟ لكن في هذا الفيلم بالذات نرى كيف إن الأستاذ نجح في تربيته وتعليمه لطلابه بأن يثوروا على المفاهيم الخاطئة في الحياة. لأن المفاهيم الخاطئة تدمر الحياة. جعلهم ينتصروا ويتجاوزوا الخوف في حياتهم. عندما جعل منهم أناساً حقيقيين وبالفعل لأنهم غيروا نظرتهم لهذه المفاهيم بالذات المتحجرة والمائتة كالمومياء.

لأن الأساليب التربوية كانت في تلك الفترة تقليدية جداً وتقوم على مفهوم التلقيني وهذا مخدر للعقل البشري. هذا أسلوب كالأفيون يشل إمكانية الإبداع عند التلميذ في الحياة لأنه يأخذ ولا يعطي. لأنه يحفظ ولا يحلل، لأنه يسمع ولكنه لا يحس.هذه الأساليب التربوية كانت أداة لدمار مجتمعات بكاملها. لأن التربية هي إحدى الأساليب لبناء مجتمعات سليمة. مجتمع بدون تربية حقيقية مجتمع معقد نفسياً وفاشل وعقيم روحياً وفكرياً.لكن في حياة المسيح نرى انه كان ثورة على كل المفاهيم الخاطئة المتحجرة والتي قتلت الحياة مع الله. قتلت العلاقة بين الإنسان والله لان الشعب في زمن المسيح ظن بإن العلاقة هي بين الإنسان والشريعة، بين الإنسان والقانون، بين الإنسان والصوم ولم يعرف إن الهدف كله هو رحمة ومحبة. ولهذا قال المسيح لهم في انجيل متى “لقد قتلتم وصايا الله بسبب تقليدكم”. هذا التقليد البشري النابع من تفكير الإنسان المحدود روحياً والمتزمت دينياً جعلهم كالقبور لا حياة فيهم. جعلهم كالمومياء صامتة لا تتكلم ولا تتحرك كالأموات.هذه الصرخة عبرت مجدداً كاتهام وجه إلى المسيحية من قبل فيلسوف ملحدعندما قال: “إن الكنائس ليست هي إلا بقبور ومتاحف”. أحياناً المسيحية قد تتحول إلى خطر التي وقعت فيه الفريسية وذلك عندما ترى إن الطهارة هي مسالة خارجية وليست داخلية، وعندما ترى إن النجاسة هي ليست إلا مسالة خارجية. هذا ما دفع المسيح للقول: “ليس ما يدخل الفم ينجس الإنسان بل ما يخرج من الفم لأن من فضلة القلب يتكلم اللسان”.

لأن ليس الذي يدخل هو الذي يخرج بل الذي يخرج هو لا علاقة له بالذي يدخل. الإنسان لا يمكن أن يخفي ما في قلبه. قلبه ولسانه هو مرآة تعكس شخصيته وحياته وفكره بالذات. فالفريسية التي جعلت الأمة تعيش تحت نير الخوف من الشريعة جعلتها أمة مستعبدة لهذا الخوف بالذات إلا إن أتى المسيح وحرر الإنسان من هذا الخوف القاتل. المسيحية هي رسالة تحرير الإنسان من هذا الخوف، ومن الخوف من التقاليد غير الإلهية التي هي مدمرة للإنسان ككل. علم النفس كعلم والمسيحية كحياة وكروح تؤكد عبر خبرتهما بان الإنسان يستطيع أن يتحرر من سلطة الخوف مهما كانت الظروف وهناك مثل يعطيه علم النفس وهو إن سقراط ثار على كل المفاهيم الخاطئة في عصره ومات لأجل إن ينتصر على مفهوم الخوف من التغيير ومات ضحية الجهل والخطيئة. لكن في المسيحية نرى الصورة الكبرى لذلك هو المسيح الثائر ليس بالقوة وبالسلطة بل بالفكر وبالحياة وبالقيم بل إن معظم رسالته كانت تحمل بذور الثورة والتغيير للحياة. المسيح هو الثائر من اجل تحرير الإنسان من كل ما يقيده. فالخوف بالنسبة للمسيح ليس هو إلا صورة عن الموت والقبر. لان بالخوف يقتل الإنسان نفسه لأنه حفر قبره بنفسه لأنه حكم على ذاته بعدم التغيير.      

Leave a comment