الكورونا وبرج بابل

الأب أنطوان ملكي

تبدأ الكنيسة الأرثوذكسية الأسبوعَ الرابع من الصوم بالسجود للصليب المقدس، وهي بذلك تشدد على أن الصليب في وسط الأرض كما هو في وسط الصوم. في صلاة المساء من يوم الخميس في هذا الأسبوع، بعد أن ترتل الكنيسة “إذ قد استحقينا أن نشاهد صليبك المقدس ونصافحه بفرح”، تقرأ قصة برج بابل من كتاب التكوين (1:10-9).ـ

في هذه القصة، نتعلّم كيف انتشر الجنس البشري على وجه الأرض. لأن البشر، في كبريائهم، رغبوا ببناء برج طويل يصل إلى السماء، لكن الله بلبل ألسنتهم. إن هذه الرواية هي نقطة تحول عظيم في تاريخ البشر الذين بعد الطوفان مالوا عن الله وسعوا إلى تمجيد جهودهم الخاصة، متناسين السلام الداخلي الذي منحهم إياه الله بعد الطوفان. لهذا يفهم المسيحي أن تنوّع لغات البشر هو رحمة كبيرة من الله، إذ منعهم من التكاتف معًا من أجل الشر، وعلّمهم التواضع. من هنا أن ارتفاع الصليب بدلاً من البرج هو لتذكير الإنسان بأن علاج الطرد من الجنة هو بهذا الصليب، وليس بأي أمر آخر.ـ

العديد من آباء الكنيسة حكوا عن برج بابل منذ القديس أفرام السرياني إلى اليوم. القديس يوحنا الروماني[1] الراقد حديثاً في 1960، يحدّثنا بكلام نفهمه جيداً لأنه من عصرنا. للقديس رسالة بعنوان “برج بابل اليوم” من كتاب سيرته يقول فيها:ـ

“بعد الطوفان ابتعد الناس مجدداً عن الله، ولأنهم ابتعدوا صاروا مجدداً يتوقّعون طوفاناً. لهذا قرروا بناء برج بابل أو القلعة البابلية. وقد شاؤوا أن يبنوها أعلى من الغمام حتى لا تعود المياه مصدر تهديد لهم. وبسبب هذه العتاهة بعثر الله ألسنتهم وما عادوا قادرين على إتمامه.ـ

الناس في هذا العصر ليسوا أفضل من ناس ذاك الزمان. اليوم، الجميع يعرفون أنهم ابتعدوا عن الله، وهم يتوقّعون عقاباً من السماء. ولكنهم بدلاً من اختيار فلك الخلاص، أي الكنيسة، بالإيمان القويم والتوبة، وبدلاً من السعي إلى الله، هم متسمّمون بالحضارة يبنون من جديد برجاً لأنفسهم كما في بابل قديماً. إن ’برج بابل’ زماننا ليس بناءً من حجر وقرميد، بل هو السباق المحموم إلى الاختراعات.ـ

يقول الناس أن اختراع السيارات والأسلحة جعل حياة الإنسان أكثر سهولةً وضَمِن أمانها، أي حفظه. ولكن كم هو خاطئ هذا الرأي! في النهاية، واضح جداً أن على قَدْر تحديث العالم وزيادة الاختراعات ازداد الشر وصارت حياة الإنسان أكثر مرارة ومحفوفة بالمخاطر. لم يكن الناس يوماً ملتاعين من القلق واليأس كما في أيامنا، عندما ازدادت الحضارة.ـ

وكما ترون، إن هذه الحضارة الزائدة بأزيائها الجديدة، علّمت الناس بأن يتجولوا عراة، أي أنها قضَت على الحياء فيهم. لقد علّمت الناس أن يكفّوا عن البحث عن الله أي أنها أخمدت الإيمان المقدس. لقد علّمت الجكام أن يخدعوا الشعب بِمَكر، وأن يستعبدوهم بشكل أكثر لا إنسانية من أيام فراعنة مصر. بتعبير آخر، إن العطش إلى الحضارة قمع الحقيقة وحرية الناس. إن الحضارة الكاذبة علّمت الناس كيف يخترعون، أي اختلقت الأسلحة الأكثر رعباً لمسح الناس وبالتالي أطاحت بالمحبة خارجاً من العالم.ـ

العلم الحديث أتاح للإنسان أن يطير في الهواء ويسافر على الماء في قلاع عائمة. العلم أعطى الإنسان جناحي طير ورِجلين من حديد لكي يندفع على طريق الباطل ولكنه سدّ عليه طريق الصلاة. لقد بنى العلم الحديث أبنية عملاقة على طريق الكنيسة فيما عبّد بالأسفلت طريق المعصية ورشّها بالزهور. بفضل سرعة السيارات قصرَت المسافات بين البلدان وتقاربت آذان الناس بالهواتف والراديو. الفنون الحديثة دللت الأجساد وقرّبتها لكنها أبعدت الله عن القلوب. العقل تقدّم لكن القلب بَرَد. العلوم أخصبَت لكن الإيمان يعاني الخسران. حضارة اليوم قصّرَت ثياب الناس وقصّت ذقونهم وشعرهم ومن ثم مَحَت الأديار عن وجه الأرض.ـ

وهكذا باختصار، هذا الخطر أي الحضارة أو التقدم، لا يترك لكل المولودين على الأرض ما يتباهون به: كما لم يكن من قبل أبداً، هذه الحضارة غمرت الأرض بالدموع، وسّعت المقابر في الحروب بشكل مرعب، فرشت الأفق بدخان المحركات، وملأت السماء بطيور عملاقة ذوات مناقير معدنية، جاهزة لتبخير العالم. ولكي تكسب وقتاً لإنجاز “برج بابل”، أي الاختراعات العلمية، فإن مقاولي البلدان المسمّنة يدعون دائماً إلى مؤتمرات سلام. لكن الله، إذ رأى حنكتهم، شوّش عقولهم كما شوّش الألسنة البابلية، فلن يكونوا قادرين بعد الآن على فهم بعضهم البعض”[2].ـ

بحسب نظرة القديس يوحنا الروماني، كل اختراع يزيد برج بابل ارتفاعاً. رقد القديس قبل أن يصل العالم إلى الدور العليا من البرج. لم يتسنَّ له أن يقرأ عن حرب النجوم، الاستنساخ، الرجال الآليين، أشباه الناس (humanoids)، الهندسة الجينية، البشرية المعززة (Augmented Humanity)، وهب الأعضاء، والأنثروبولوجيا الرقمية (digital anthropology). رحل قبل أن يأتي التواصل الاجتماعي وحتى قبل الإنترنت ولم يرَ الناس يتباهون بأنهم جعلوا العالم قرية صغيرة تشدّها الألياف الضوئية كما تغطيها شبكة طيران تصل إلى كل مكان.ـ

لم يعِش قديسنا أيضاً ليتعرّف على الكورونا. على تلك الجرثومة التي عطّلت شركات الطيران وأعادت القرية الصغيرة دولاً تغلق حدودها على بعضها، حتى أن بعضها يتخلى عن أبنائه ولا يسمح لهم بالعودة إليه. مجتمعات تضطر إلى اختيار مَن يموت. اقتصادات الدول تهتز، وشركات ضخمة وعالمية تصرِف موظفيها. برج بابل مهدد لأن الذين بنوه يتبادلون التهم والتشكيك في مَن هو الذي أنتج الجرثومة. الطب الذي تنطّح بأنه صار قريباً من تركيب إنسان جديد، يقف مشتتاً أمام جرثومة صغيرة. كمية المعلومات التي ترد يصعب حصرها خاصة مع الكم الكبير من التناقضات التي فيها.ـ

برج بابل مهدد لأن اللغة الواحدة التي سعت إليها البشرية في العلوم ليست لغة الله، بل لغة العقل والمنطق والبحث والمنهجيات والنفعية والتجارة. أُلِّه العقل وأُلِّه العلم وأُلِّه الإنسان إلا الإله الحقيقي بات مُبعَداً، منسياً أو مستغلّاً. برج بابل قد لا توقعه الكورونا، لكنها تدعو العالم ليعيد النظر بأولوياته وحججه ومشاريعه. إنها مرحلة. ونحن واثقون أن في النهاية الله يقوم ويحكم في الأرض لأنه يملك جميع الأمم.ـ

[1] القديس من رومانيا مولود 1913 بدأ حياته الرهبانية في دير نيمتس في رومانيا ثم انتقل إلى دير القديس جاورجيوس الخوزيبي في فلسطين حيث بقي إلى حين رقد في 1960. كان راهباً صارماً وأباً روحياً منّ الله عليه بعدة فضائل. علم مسبقاً بموعد رحيله. في 1980 كُشف قبره فوُجِد جسده غير متحلل. في 1992 أعلنت الكنيسة الرومانية قداسته. له قصائد ورسائل عديدة.ـ

[2] Orthodox Life, Vol. 34, No. 5 (September-October 1984), pages 16-30. Translated from the Romanian by Borislav P. Svrakov.