معرفة الذات ومعرفة الله بحسب القديس غريغوريوس اللاهوتي

معرفة الذات ومعرفة الله بحسب القديس غريغوريوس اللاهوتي

جورج مانتزاريذس

نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي

ينتقد سقراط السفسطائيين لنهجهم النفعي واللاأدري، جنبًا إلى جنب مع الذين سعوا لمعرفة المزيد عن طبيعة العالم والقوانين التي يعمل بها فيما كانوا غير مبالين بمعرفة أنفسهم، فيقول: ” بِالنّتِيجَة، ما الذي يحدث لهؤلاء الناس؟ هل اعتقدوا أنهم يعرفون كما ينبغي في المسائل الإنسانية والعناية بها، أم أنهم ربما تخلّوا عن الإنسان وبدلاً منه يفحصون أشياء أخرى، و علاوة على ذلك، لديهم انطباع أنهم يفعلون ما ينبغي فعله؟”[1]ـ

بالنسبة لسقراط، الواجب الأساسي للإنسان هو معرفة الذات “أن تعرف نفسك”. بدون معرفة الذات، يبقى الإنسان أساسًا في حالة جهل أو يكون مخطئًا، وعادة ما يكون لديه انطباع خاطئ عن المعرفة. لهذا السبب حاول سقراط إثبات جهل الذين اعتقدوا أنهم يمتلكون المعرفة وإعفاءهم من انخداعهم. كان يقترب من الأشخاص الذين يعتبرون أنفسهم مرجعيات في مجال معين من المعرفة، وأثناء الحوار معهم كطالب بسيط، يثبت أنهم، في النهاية، كانوا جاهلين حتى بموضوع معرفتهم

يقول سقراط إن نقطة البداية الصحيحة الوحيدة للمعرفة هي إدراك جهل المرء: “الشيء الوحيد الذي أعرفه هو أنني لا أعرف”. من خلال هذا الإدراك، يصل المرء أولاً وقبل كل شيء إلى تقدير حالته الخاصة من الاحتياج، وبالتالي يتجنب الغطرسة والغرور. بهذا يتطوّر شعور المرء بحدوده وقيوده الخاصة؛ فكل ما هو مهيئ للقيام به يجرّبه، ويتجنّب كل ما يتجاوز قدراته.[2] على الرغم من ذلك، فإن معرفة الذات لا تقيم جسراً بين الفراغ الأنطولوجي الذي يشعر به الناس في الداخل، ولا تُشبع الرغبة في معرفة الحقيقة التي تميز الطبيعة البشرية

بقدر ما يتجاهل الإنسان الحقيقة يصير عاجزاً عن الشعور بالاكتمال والحرية. للحقيقة أهمية حيوية للإنسان؛ فهي تكشف معنى الحياة وهدفها، بينما معرفة الحقيقة تحرر من الباطل والضلال. رغبتنا في معرفة الحقيقة تقودنا في رحلة استكشاف لا تنتهي. ومع ذلك، فإن هذه الرحلة لا تقود إلى الرضى، بل تؤدي في النهاية إلى طريق مسدود وخيبة أمل. وهذا طبيعي وحسب، بالنظر إلى أن استكشاف الحقيقة هو في النهاية استكشاف لاهوتي، وهذا لا يمكن تحقيقه على المستوى الإنساني البحت

للحقيقة طابع أبدي لا يمكن إيجاده على مستوى الفساد والموت. على أي حال، فإن أي شيء يتحرك على هذا المستوى يتم تزويره بالفساد والموت وبالتالي لا يمكن أن يكون صحيحًا. ترتبط الحقيقة بالحياة، وبالحقيقة بالحياة الأبدية الخالدة. هذا يعني أنها حية، ولا يمكن أن تموت ولا تفسد. لا يمكن أن تكون الحقيقة شيئًا ميتًا أو هامدًا. ولا يمكن أن تكون فكرة غامضة أو مجردة. يجب أن تكون حقيقة حية. ولكي تكون الحقيقة حقيقة حية، يجب أن تكون شخصية وموضوعية. بالنسبة للمسيحية، الحقيقة هي شخص المسيح، الذي هو في نفس الوقت الحق والحياة ؛[3] هي الله نفسه

كون الإنسان مخلوقاً على “صورة الله ومثاله” فهو يرتبط بالله، وهو قادر أكثر من أي كائن آخر على إيجاد الحقيقة وقبولها، وإيجاد الله وقبوله. علاوة على ذلك، كشخص حي، يتقبّل الإنسان منذ البداية العلاقة الشخصية والشركة مع الإله الشخصي الحي. ومع ذلك، فيما يرتبط الإنسان بالله ويمتلك في داخله بصمة الصورة الإلهية، فإن ارتداده أساء إلى هذا الارتباط وشوّه وجوده. لقد توقف عن التواصل مع الله، بعد أن استسلم لقوة الشر. وبذلك أظلم عقله وأضعف كيانه بالكامل

الخطيئة الجديّة، بحسب القديس غريغوريوس اللاهوتي والتقليد الأرثوذكسي، ليست مجرد حدث موضوعي بدأ بآدم وانتقل إلى نسله. هذه الخطيئة، التي ارتُكبت بعمل استقلالي متغطرس أدى إلى مرض قاتل لطبيعة الإنسان وخضوعه للفساد والموت، لا تشمل فقط جدّنا آدم بل كل شخص. لقد أصبحت مرض طبيعتنا. يقول القديس غريغوريوس اللاهوتي بشكل مميز: “يا لِمَرضي! لأني اقتنيت مرض الجدّ.”[4]ـ

لكي يشفى الإنسان، عليه أولاً وقبل كل شيء أن يدرك حالته. يجب أن يعرف سبب مرضه، وهو الغطرسة، وأن يعترف بتواضع بجهله بالمعنى السقراطي للكلمة. بينما عرف آباء الكنيسة واستخدموا الفكرة اليونانية القديمة “اعرف نفسك” كما روج لها سقراط، فقد فضلوا التعاليم الكتابية “احْتَرِزْ”.[5] على الرغم من أن هذين القولين مرتبطان ارتباطًا وثيقًا ويمكن اعتبارهما متطابقين بمعنى ما، إلا أنهما يختلفان في الجوهر. وهذا الاختلاف له أساس أنثروبولوجي ولاهوتي

إن معرفة الذات اليونانية القديمة، كعملية تتمحور حول الإنسان، لا تقدّم للإنسان الحقيقة الخالصة ولا ملء الحياة. الإنسان في حالة ارتباك وسقوط. هذا يعني أن كل شكل من أشكال المعرفة البشرية مشوه وغير مؤكد. إن معرفة المرء بذاته هي في الحقيقة مجرد معرفة تقليدية لنفسه الساقطة والمريضة. بالطبع، هذه المعرفة ضرورية لمساعدة الإنسان في البحث عن الحقيقة، ولكن يجب أن يصاحبها التواضع. الحكمة، حسب القديس غريغوريوس اللاهوتي، هي “معرفة الذات أيضًا، ولكن دون أن تكون متكبرًا”[6]. عندما لا يحاول الإنسان البقاء ضمن حدوده الصحيحة، بل يصبح متفاخرًا “بشكل مفرط”، فإنه ينقاد إلى جنح خطيرة. ويصبح هذا واضحًا بشكل خاص خلال المواقف الأكثر صعوبة في الحياة. في مثل هذه المواقف، على ما يؤكد القديس غريغوريوس، يُصاب الناس بالدوار، ويغرقون في آرائهم الخاصة غير قادرين على قبول أن حكمة الله أعظم من حكمتهم: “إنهم لا يقبلون أن الله أكثر حكمة منهم، كلما شعروا بالدوار أمام حادث ما”.[7]ـ

يوجد لاتماثل كامل بين الله والإنسان. الله غير مخلوق والإنسان مخلوق. أي محاولة بشرية للاقتراب من الله غير المخلوق أو معرفته محكوم عليها بالفشل منذ البداية. علاوة على ذلك، فإن أي مفهوم أو رسم لله قد يتصوره المرء هو تقليدي تمامًا ومقتصر بشكل لا مفر منه على مستوى العالم المخلوق. لا يستطيع المرء التغلب على حاجز المخلوقية ومعرفة الله غير المخلوق. في النهاية، لا يعرف الإنسان الله إلا عندما يعلن عن نفسه: “معرفة الله، أو بالأحرى أن يعرفه الله”[8]. إذا لم يُعرّف الله نفسه للإنسان، فلا يمكن لهذا الأخير أن يعرف الله؛ لا يستطيع أن يكتسب معرفة حقيقية عن الله

أصبح ظهور الله في التاريخ ممكنًا من خلال المبادرة الإلهية ورضوخ الإنسان. تم إعداد هذا الظهور بين أبرار العهد القديم وتم إنجازه بدخول مريم العذراء في التاريخ. بتواضعها الكامل، وشخصيتها العذراء، ونقاوتها التي لا تُضاهى بالنفس والجسد، التي تلقّتها من الروح القدس[9]، أصبحت “إناء غير مخلوق” ووعاء الكلمة الإلهية التي لا يمكن احتواؤها؛ أصبحت والدة الإله. يقول القديس غريغوريوس اللاهوتي إن كل من لا يعترف بأن العذراء مريم هي والدة الإله يكون “بلا ألوهية”[10]ـ

عند الحديث عن شعب الله المختار في العهد القديم، غالبًا ما ننسى المكانة الأساسية للشخص على هذا النحو في مجمل كشف التدبير الإلهي. على أي حال، نشأ الشعب المختار بسبب اختيار شخص معين، إبراهيم، واستمر هذا مع إقامة العلاقات الشخصية والحوار بين الله وأبرار العهد القديم. ينكشف الله كشخص وهو يدعو كل إنسان شخصيًا للخلاص والكمال. هذا هو السبب في أن ذروة العمل التحضيري للتدبير الإلهي لم تكن حدثًا تاريخيًا أو حتى اتفاقًا تاريخيًا خاصًا، كما يُعتقد غالبًا، بل كانت ظهور الشخص الأكثر كرامة، أي والدة الإله القدّيسة.[11]ـ

يشغل البشر كأشخاص الموقع الأساسي في مهمة التدبير الإلهي. والمهمة الأولى التي يجب على الأشخاص تحقيقها هي معرفة أنفسهم واكتساب إدراك أصلهم والغرض من وجودهم. اعرفْ من أين تستمد وجودك، كما يقول القديس غريغوريوس اللاهوتي، أنفاسك وفكرك وقدرتك السامية على معرفة الله ووضع رجائك في ملكوت السماوات والمساواة مع الملائكة والمجد … أن تكون ابنًا لله وارثًا مع المسيح، وأجرؤ على القول، لتصير إلهًا، مِمَن وأين أخذت هذه الأشياء؟[12]

تصبح معرفة الذات نقطة انطلاق نحو معرفة الله، كإنجاز شخصي وجماعي. هذا ما يتيح التوجه الصحيح في الحياة. يلاحظ القديس غريغوريوس اللاهوتي أن الإنسان عالم ثانٍ. هو ليس عالماً صغيراً وحسْب أو، كما يُزعم غالبًا، “عالم مكروي (microcosm)”. إنه بدلاً من ذلك “عالم عظيم داخل الصغير” مشرِف على الخليقة المرئية ونسكي العقل؛ إنه أرضي وسماوي، مؤقت وخالد، مرئي وغير مرئي. إنه “كائن يعيش على الأرض ، لكنه ينتقل إلى عالم آخر و … يتألّه من خلال محبته له”.[13] هذه الرؤية للحياة البشرية رائعة حقًا. إنه احتمال الانتقال من الزمن الدنيوي إلى الخلود السماوي، إلى التألّه. إتمام مثل هذا التحول يتطلب ديناميكية لا يمكن تصورها

يتحقّق هذا التقدم التصاعدي الديناميكي من خلال ثلاثة ولادات. الولادة الأولى وهي على أساس الدم والجسد، يدخل الإنسان هذا العالم ويخرج منه بسرعة. بالولادة الثانية التي تتم حسب الروح القدس والمعمودية، يبلغ الإنسان روعة السماء. أخيرًا ، بالولادة الثالثة التي تأتي من خلال الدموع والحزن الشديد  تُستعاد صورة الله (التي أظلمت) في الداخل.[14]ـ

خلال التقدم التصاعدي الديناميكي الموصوف هنا، لضبط النفس ومعرفة الذات أهمية كبيرة. عندما يفحص الإنسان نفسه باستمرار ويقترب من وجهته الأخروية التي نقشها الله منذ البداية في كل شخص،  تزداد معرفة الإنسان بالله والدخول في شركة معه

ومع ذلك ، نظرًا لأن الإنسان التجريبي يجد نفسه في حالة غير صحية روحياً، فلا يمكنه الاعتماد على نفسه وبدلاً من ذلك يحتاج إلى معرفة ماهية الإنسان الأصيل وكيف يمكنه أن ينمو ليكون مشابهًا. لهذا السبب، عند الإشارة إلى معرفة الذات، لا يحصرها آباء الكنيسة في عالم علم النفس، بل يضعونها على أساس لاهوتي ومنظور. إنهم لا يتبينونها في وعي حالة سقوط كل شخص (وعي يعتبرونه مع ذلك مفيدًا وضروريًا)، بل بالأحرى في الحالة التي يمكن ويجب على كل شخص بلوغها

إلى ذلك، لا ينبغي إغفال أن المعرفة الذاتية للشخص التجريبي تحتوي أيضًا عناصر قد تضلله بسهولة. الشخص الذي يتصرف بشكل مستقل فيما يتعلق بالله، كما يلاحظ القديس غريغوريوس، يسلَّم إلى  “استقلالية الضلال”. وبينما هو مخلوق لتمجيد الله والاقتداء به قدر الممكن، يصبح الإنسان نقطة انطلاق “أهواء متعددة” تدمر روحه. علاوة على ذلك، فهو يختلق ويروج الآلهة التي تبرر أهواءه، بحيث لا يُنظر إلى خطيئته على أنها بلا مسؤولية وحسب بل تُرضي الله أيضًا![15] ومع ذلك، عندما تُدمَج معرفة الذات مع حقيقة الإيمان المسيحي يؤدي الدمج إلى التصحيح والاعتراف بهبة الله والامتنان له

ومع ذلك، لكي يعرف المرء الذات الحقيقية ويُقاد إلى معرفة النموذج الأصلي، إلى معرفة الذات، لا ينبغي أن يقتصر المرء على بعض الأفكار والمنطق اللاهوتي، بل يتقدم نحو التطهّر. إذا كان الحديث عن الله أمرًا عظيمًا، كما يقول اللاهوتي، فإن التطهّر من أجل الله أمر أعظم.[16] التطهّر المعني لا يتعلق فقط بكل واحد منا على حدة، بل بالإنسانية ككل، لأن التدنّس لا يقتصر على أفراد معينين، ولا يجب التعامل معه على المستوى الأخلاقي حصريًا. فهو يمتد عبر البشرية برمّتها وله طابع وجودي

على المستوى الوجودي، الله نفسه طهّر البشرية. جاء التطهّر نتيجة التجسد الإلهي. كما يشرح القديس غريغوريوس، تتحرك كلمة الله نحو صورته وتتخذ جسداً من أجل جسدي وتنضم إلى روح عاقلة من أجل روحي، وبالتالي تنظف المِثلَ بالمثل.[17] بهذه الطريقة ينزل غير المخلوق إلى مستوى المخلوق ويصبح إنسانًا ومعروفًا للإنسان حسب طهارته[18]ـ

يحدث تطهير الإنسان على المستوى الفردي بحفظ الوصايا الإلهية. ليس من واجب المرء أن يختبر نفسه فحسب، بل عليه أيضًا أن يستعيد نفسه حسب غاية الخالق الأصلية. الإنسان مدعو للتحقيق باستمرار، والتطلّع باستمرار نحو نموذجه الأصلي، الذي هو المسيح، واتّباع كل ما ورد في وصاياه. إنه مدعو إلى تحديد نقاط قوته وضعفه وتقدير جلالته ونقصه. إذا لم يعتنِ بنفسه لا يقتني ضميراً لائقاً، وفي هذه الحالة يقع في الخداع والضلال

من ناحية أخرى، هناك معنى أنثروبولوجي ولاهوتي كبير في إدراك جهل المرء وهو إدراك ضروري للغاية لتجنّب الغطرسة وتأليه الذات. ومع ذلك، من الضروري في هذه المرحلة تقديم التوضيح التالي. إن إدراك جهل المرء، الذي دافع عنه سقراط وأظهره من خلال استخدام السخرية في الحوارات الأفلاطونية، يعزز في الواقع الرغبة في إيجاد الحقيقة. ومع ذلك، بينما تقوض السخرية غطرسة الإنسان، فإنها تتركه بعد ذلك مكشوفًا وعاجزًا

كيف للإنسان أن يعرف الحقيقة؟ وكيف يمكن التأكد من هويتها؟ بطبيعة الحال، تؤدي الأسئلة من هذا النوع إما إلى مفهوم الماورايئات التي لا أساس لها، أو إلى خيبة الأمل واللامبالاة الكاملة في ما يتعلق بالبحث عن الحقيقة. في الحالة الأولى، لدينا أنظمة ماورائية مختلفة تتخذ في النهاية شكل الدين. في الحالة الأخيرة، يمكننا أيضًا أن نفهم كلمات بيلاطس البنطي “ما هي الحقيقة؟”، لأنها كانت موجهة كسؤال نحو المسيح ، ولكن دون توقع أي إجابة.[19]ـ

بالطبع، الطهارة الأخلاقية ليست كافية لرفع الإنسان إلى مستوى معرفة الله الأصيلة، ومع ذلك فهي افتراض ضروري لاكتساب هذه المعرفة وهي تحدد مدى تقبلها. لذلك فإن درجة معرفة المرء بالله تتناسب مع تطهره. يلاحظ القديس غريغوريوس اللاهوتي، أن الله يُرى ويُعرف “بما يتناسب مع التطهّر”.[20] وهذا أيضًا هو السبب في أن “الفلسفة المتعلقة بالله”، أي اللاهوت، ليست مسعىً يضطلع به أيّ كان باستخفاف، بل هو مهمة تفترض مسبقًا الرؤية الروحية والتطهّر، أو على الأقل رحلة نحو تطهير الجسد والروح: إنه لأمر خطير أن يتعامل النجس مع ما هو طاهر، كما هي أشعة الشمس للعين غير الصحيحة.[21]ـ

لا يخلق الله علاقات موضوعية مع الناس، بل علاقات شخصية، علاقات محبة. والمبادرة في خلق هذه العلاقات تعود لله نفسه: “لأنه أحبنا أولاً”.[22] لقد أذلّ نفسه وصار إنسانًا ليجعل الإنسان إلهًا. والإنسان، من جانبه، مدعو لأن يقبل في قلبه بالروح القدس الإله الذي صار إنسانًا، حتى يصير هو أيضًا إلهاً بالنعمة

معرفة الله الحقيقية لا تُكتسب من خلال العمليات الفكرية. إنها تأتي كثمرة شركة وجودية. تنشأ معرفة الله من اللقاء بين الإنسان والله الذي يتحقق فقط بارتفاع الإنسان إلى الله بل أيضًا بنزول الله نحو الإنسان. يتنازل عن مكانته المتميزة؛ نحن نُرفَع من الذل أسفل. في النهاية، يعرف الإنسان الله عندما يزوره الله ويدخل في شركة معه

في هذا الاجتماع والشركة الإلهية-الإنسانية، لا أحد يتحول إلى شيء. على الرغم من عدم التناسق الذي لا يقاس في تواجد المخلوق مع غير المخلوق، هناك تشابه وهوية للمجد والحياة. في كتابات القديس غريغوريوس، يصير الله “مثل” إنسان للبشر ويصبح الإنسان إلهًا له.[23] وفي أعماق المنظور الأخروي، سيصبح الله معروفًا للإنسان إلى الدرجة التي هو  يعرف بها الإنسان.[24] الله متّحد ومعروف من الآلهة “إلى درجة كبيرة، تمامًا كما يعرف هو من هم معروفون”[25]. هذا بالطبع لا يعني أن الإنسان سيعرف أيضًا جوهر الله الذي يظل دائمًا غير معروف ولا يمكن الاقتراب منه بل سيصبح متواصلًا كاملاً مع مجده وبهائه. في هذا المنظور نفسه، كتب أب عظيم آخر في كنيستنا، القديس مكسيموس المعترف، أنه مع الكمال الأخروي للإنسان وسكنى الروح القدس، ستكون هناك قوة مشتركة “بين الله وأولئك الذين يستحقون الله، أو بالأحرى من الله وحده، بالنظر إلى أنه هو الذي يسود بالكامل أولئك المستحقين، كما يليق بالصالح”[26]ـ

في دحض ادعاءات الأفنوميين الأكثر تجاسراً بأن الإنسان يمكنه معرفة جوهر الله، يذكر الشخصيات العظيمة في العهد القديم الذين “عاينوا” الله، وكذلك الرسول بولس الذي، على الرغم من وصوله إلى السماء الثالثة ورؤية الفردوس، “فَإِنَّنَا نَنْظُرُ الآنَ فِي مِرْآةٍ”. ستكون هناك رؤية “وجهاً لوجه” عندما تُسقَط المرايا وتسطع الحقيقة.[27] يتّضع المؤمن عندما يأخذ بالاعتبار الوعد الهائل بمعرفة الله من ناحية، وعدم الجدارة الشخصية من ناحية أخرى

التواضع يقرّب الناس من الله، بينما يجتذبون نعمته ورحمته: “وَإِلَى هذَا أَنْظُرُ: إِلَى الْمِسْكِينِ وَالْمُنْسَحِقِ الرُّوحِ وَالْمُرْتَعِدِ مِنْ كَلاَمِي”.[28] في مخاطبة أهل فيلبي يوصي الرسول بولس بأن ينمّوا روح المسيح المتواضعة: “ليكن هذا الفكر فيكم الذي في المسيح يسوع أيضًا”. بالتواضع والإلفة مع فكر المسيح يطرح المؤمنون الإنسان العتيق ويلبسون فكر المسيح [30]؛ إنهم يتمسحنون

المسيح، كآدم الجديد وبكر الخليقة الجديدة، جلب إلى العالم نمط حياة جديد بحضوره الحركي وفكره المتواضع. لقج جسّد التواضع في شخصه وعلّمه عن طريق المثال: “تعلّموا مني، فأني وديع ومتواضع القلب”.[31] بمحبة للإنسان لا يُسبر غورها، احتضن في أقنومه كل ما هو بشري وقام وإياه إلى مجد الآب. بهذا يتجدد كل الذين يؤمنون بالمسيح بالروح القدس وينالون السلطان ليصبحوا أبناء الله: “والَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللهِ، أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ. اَلَّذِينَ وُلِدُوا لَيْسَ مِنْ دَمٍ، وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ جَسَدٍ، وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ رَجُل، بَلْ مِنَ اللهِ”.[32]ـ

إن تفعيل هذا السلطان يعتمد على حرية الشخص. إذا لم يسلك شخص قد تجدّد بالروح القدس وفقًا لإرادة الله، مفضّلاً الارتباط بأشياء العالم والاستسلام لحياة الجسد، فيكون هو أو هي متناسياً لله ومماتاً روحياً. يشكل نسيان الله أكبر تهديد للأقنوم البشري ويؤدي إلى الموت الروحي. كتب القديس نيكولاس كاباسيلاس: “إن طغيان النسيان عظيم”. ما من هوى آخر يطيح بالإنسان بشكل منتظم وسهل مثل هذا.[33]

لا تأتي معرفة الله نتيجة أيّ بحث معرفي أو استفسار فكري. إنها ثمرة التجديد الروحي والدخول إلى الخليقة الجديدة التي أعلنها المسيح. معرفة الله هي ثمرة محبة الله للإنسان ومحبة الإنسان لله. لا يستطيع المرء أن يعرف الله دون أن يحبه، خاصة وأن الله هو نفسه محبة[34]. هذا هو السبب في أن الله يبادر إلى تعريف البشرية بنفسه ويكون أول من يظهر محبته تجاهها.[35] كلما عرف الإنسان الله ومحبته، ازدادت محبته له. وكلما زادت محبة الله زادت معرفته

يتضح بعد ذلك أن محبة الله مرتبطة بمعرفة الله. لنكون أكثر دقة، إن محبة الله هي افتراض مسبق وكذلك نتيجة لمعرفة الله. في تنمية فكر المسيح بتواضع ومحبة، واتّباع خطاه، يسلك المؤمنون طريق معرفة الله. بهذه الطريقة، يتحقق الإنسان كمخلوق “على صورة الله ومثاله”

إن تفكيك الإنسان القديم وظهور الجديد يتمّ بفضل نعمة الله وتعاون الإنسان. وهذا التعاون ليس سهلاً ولا يقتصر على فترة وجيزة. بل إنه يتطلب سعياً كبيرًا وجهاداً صعبًا طوال فترة حياة الإنسان. المسيحيون مدعوون لفحص أنفسهم باستمرار، والاعتراف بخطاياهم وضعفهم، وللتعبير عن شخص الإنسان الكامل أي المسيح، وأن يجاهدوا باستمرار للتمثّل به وحفظ وصاياه

إن الجهاد الروحي للمسيحي هو، في التحليل الأخير، صراع معرفة الله (theognosia). تتجلى هذه الحقيقة بجلاء في أعمال القديس غريغوريوس اللاهوتي، وخاصة في قصائده ورسائله. إنه صراع البقاء في الشركة مع المسيح. جهاد الحفاظ على نعمة الروح القدس. صراع رفع ومنع الظلمة التي يجلبها “إلحاد الإنسان بعد المعمودية”[36]. وبهذه الطريقة، معرفة الله تنفي الشر في آنٍ واحد: “لأن هذه المعرفة تصير تطهيرًا”.[37]ـ

إن القوة المحفّزة لخوض الجهاد هي محبة المسيح. هذه المحبة تحافظ أيضًا على البعد الشخصي لجهاد المسيحيين الروحي. غالبًا ما ينطلق القديس غريغوريوس في حوار شخصي مع الله؛ يتصارع معه، ويعبّر عن محبته وامتنانه غير المنفصلين. إنه يرى المسيح على أنه خاص به، كنور له: “مسيحي”، “المسيح نوري”[38] ولكنه يعبّر أيضًا عن معاناته: “سأتحدث بكلمة قاسية ، لكنني سأتحدث”[39]. “لقد خدعتُ المسيح … لقد صرت متكبرًا.”[40] أخيرًا، يعبّر عن مرارته، عندما يشعر بأنه مهجور بلا حول ولا قوة وسط مصاعبه: “لقد تلاشى الخير، والشرّ في العراء؛ نبحر في الظلام ولا نور في أي مكان. المسيح نائم!”[41]ـ

إن جهاد الارتقاء نحو الله ومعرفته مستحيل على الجنس البشري بدون نعمة الروح القدس. إن كان لا أحد يعرف أشياء الإنسان، كما يكتب الرسول بولس، إلا روح الإنسان الموجودة في الداخل، فلا أحد يعرف أشياء الله بدرجة أكبر، باستثناء روح الله الذي يبحث في كل مكان، حتى الجزء الأعمق في الله.[42] وعلى أي حال، حتى “أشياء الإنسان” ليست معروفة تمامًا لروح الإنسان. في التحليل الأخير، إذن، روح الله وحده يعرف ما يفعله الإنسان وأمور الله. وبهذا الروح فقط يمكن للإنسان أن يكتسب معرفة الذات الحقيقية ومعرفة الله الحقيقية

أخيرًا، يجب أن نلاحظ أن معرفة الذات، كما معرفة الخليقة بشكل عام، مرتبطة بشكل إيجابي وسلبي بمعرفة الله. بشكل إيجابي، بمعنى أن معرفة الذات، كما هو الحال مع معرفة الخليقة، توجّهنا إلى معرفة الله. ولكن أيضًا بشكل سلبي، بمعنى أن معرفة الذات ومعرفة الخليقة تقودنا إلى إدراك أنه لا ينبغي الخلط بين الإنسان والعالم المخلوق وبين الله

في الختام ، يمكننا القول أن معرفة الذات تقدم لنا أمرَين مهمين للغاية:

أ) تحقيق عطية الله العظيمة لنا

ب) الإحساس بحالة مرضنا الروحي مع جحودنا تجاه خالقنا

كل ما هو موجود في الله ينعكس بطريقة ما في البشر المخلوقين أيضًا، لأن صورته هي التي تُصوَّر في كيانهم. ولكن أيضًا كل ما في الإنسان يعود لله لأنه خالق الإنسان

عندما يحوز هذا على التقدير، يعيش الإنسان ضمن حدوده الخاصة، ويكون عند نقطة البداية الصحيحة من أجل معرفة الله ونفسه بشكل أصيل. من ناحية أخرى، بإبقاء المسيح أمامه وفحص ذاته من جهة علاقته به، يرى المسيحي بؤسه، مما يدفعه إلى الجهاد بقوة أكبر وتصحيح نفسه، حتى يستجيب لدعوته السامية وفقًا لذلك

إن عظمة الإنسان وبؤسه، وقوته وضعفه، ومعرفته وجهله، على الرغم من التناقض المتبادل، هي في الواقع تساعد على الطريق نحو نفس الهدف: التواضع. والتواضع ، الذي يجعل كل إنسان يتقبل نعمة الله، يصبح نقطة انطلاق نحو معرفة الله

* أستاذ شرف في كلية اللاهوت، جامعة أرستوتاليس، تسالونيكي، اليونان

[1] Xenophon, Memorabilia 1,1,11-12

[2] See Xenophon, op.cit. 4,2,26 following

[3] See John 14:6

[4] Gregory the Theologian, Oration 38,12, PG 36,324D

[5] Deut. 15,9. See Gregory Theologian, Works 2,1,78, PG 37,1425A. Cf. Basil the Great, On ‘Being Careful’, PG 31,197-218

[6] Gregory the Theologian, Oration 32, 21, PG 36, 200A

[7] Oration 14,32, PG 35,900D

[8] Gal. 4:9

[9] See Gregory the Theologian, Oration 38,13, PG 36,325BC

[10] See Letter 101, PG 32,177D

[11] See Gregory Palamas, Oration 53,25, published by S. Oikonomou, Athens, 1861, p.162

[12] See Gregory the Theologian, Oration 14,23, PG 35,888A

[13] See Oration 38,11, PG 36,324A

[41] Letter 76: To Gregory of Nyssa