الشيخ ثيوفيل بادوي وبعض أقواله

الشيخ ثيوفيل بادوي وبعض أقواله

المتقدّم في الكهنة بيصاريون سوراسكو

نقلتها إلى العربية أسرة التراث الأرثوذكسي

في أيامنا هذه، إذ تدعونا ملذات العالم ومتاعبه إلى الابتعاد عن إيماننا وأخلاقنا الأرثوذكسية، من المفيد لنا أن نذكر الشهداء والمعترفين من أجل الإيمان. في الآونة الأخيرة، قبل أقل من 100 عام، كانوا على استعداد لقبول الموت بدلاً من اتخاذ مثل هذه الخطوة. أحد هؤلاء المعترفين بالمسيح كان الروماني الشيخ الأرشمندريت ثيوفيل بادوي الذي رقد في 17 تموز 2017. وُلد الأب تيوفيل (بادوي) في 11 أيلول 1925 ودخل الدير في 20 شباط 1944، وصار راهباً في 30 آذار 1947. رُسِم في 14 تموز من العام نفسه. في عام 1968، بعد أن عَبَر بالفعل بمدرسة المعاناة – سبع سنوات من المنفى من الدير بموجب مرسوم 1951 الشيطاني [1]، سيم كاهناً متبتلاً ـ

أنا في دير سامباتا دي سوس. وقد جئت لرؤية الاب ثيوفيل (برايان) الذي كان خارجاً قليلاً. فقررت أن أتجوّل حول البحيرة خلف الدير. رأيت مجموعةً من الرهبان يستريحون هناك. في وسطهم، كما لو كانوا يحرسونه، وقف راهب شيخ، قصير القامة ذو لحية رمادية رقيقة. وإذ كنتُ فضولياً بطبيعتي ومتشوّقاً إلى الكلام قصدتهم: “الله معكم! من أين أنتم أيها الآباء؟”ـ

أجاب أحد الشبان منهم: “ألله معك! نحن من دير سلانيك من أرجاس”ـ

فقلتُ لهم: “أعرف أحد الآباء هناك، الأب ثيوفيل بادوي”ـ

فجأة التفت إلي الشيخ وقال بكل جدية: “مَن؟! هذا اللص؟ هذا الوغد؟ لقد هرب من الدير. لم يعد معنا!”ـ

نظرت إليه بحَيرة وبعض الخوف. كيف يمكن أن يكون هذا الأب الذي سمعتُ عنه الكثير من الأشياء الجيدة سيءَ الصيت في سلانيك؟ كان الآخرون صامتين، يخفون ابتساماتهم في لحاهم. ثم رأى أحدهم أنني في حيرة شديدة، فجاء إلي وقال بسعادة: “هذا هو الأب ثيوفيل (بادوي)، رئيس دير سلانيك!”ـ

محادثة مع الشيخ ثيوفيل

– آه يا بني، الشباب يمضي في التجارب والشيخوخة في الأسقام. ضعف صوتي. كل شيء ضعيف. بقيت بعين واحدة وسن واحدة. ولكن ماذا يمكنك أن تفعل؟ علينا المضي قدماً. هذا ما اعتاد الشيخ فيتيميون قوله. حتى لو كنت خريج جميع مدارس هذا العالم، حتى أعلى المدارس، فلن تكون واحدة منها مفيدة لي مثل مدرسة المعاناة. طُردتُ من الدير في 15 كانون الثاني 1961. كنت في السادسة والثلاثين من عمري. مكثت في سلانيك مع الشيخ فيتيميون (كنا نناديه يوبانو) فيما الأب يوسف من قرية كوربي والأب نيقوديم والأب جبرائيل  كانوا في السجن. لقد نجوت من السجن بأعجوبة. حفظني الله، وإلا لما تمكنت من تحقيق ذلك. أنا ببساطة كنت لأموت. هذا ما كان الأمر عليه

كنت أعظ حينها في “جيش الرب”[2]. فعلتُ ذلك بمحبة عظيمة. كنت على استعداد لإحضار جميع الشباب إلى الدير. ثم في 14 تشرين الأول 1960، جاء إلى الإسقيط الرفيق بيربوليسكو، مفتش الشؤون الدينية في مقاطعة أرجيو، وهو أشرّ رجل رأيته في حياتي. قال لي: “أتيتُ لمقابلتِك، لأنك الراهب الوحيد الذي لا أعرفه في كل المقاطعة، لمقابلتك والطلب منك المغادرة.” – “أنا لن أذهب إلى أي مكان، أيها الرفيق. لن أغادر هنا حتى الربيع” – “سوف تغادر ، أعدُك.”ـ

تبيّن لاحقاً أنه على حق. ذات ليلة، اقتحم بيربوليسكو وثلاثة أو أربعة من العاملين الأمنيين[3]. كان الأب بوبوك مخبأ في إحدى الغرف عندي. كان الفقير مريضاً وكنت أعتني به. “أين بوبوك؟” سأل. “ما لك يا سيدي؟ اتركه. انه مريض.” وفجأة وجدوه، آه! ما سمعته أذني … أيّ قذارة ، وأي إساءات قُذفت عليه!ـ

“هل ضربوه؟” – “لا. لم يضربوه. احتجزوه وطردوني من الدير. سألني المحقق: “أين تمضي الآن” – “إلى كوربي” – “ولمَ ليس إلى فلاديستي؟”[4] لم أشأ أن أعود إلى قريتي، إذ كَراهبٍ لا أستطيع أن أعود إلى مسقط رأسي، هذا ما لم يفهموه. “ليس لي أحد أعود إليه في فلاديستي. أهلي توفوا”. فتركوني أمضي إلى كوربي. جعلوني أوقّع على تصريح أطلب فيه رميي بالرصاص إذا وجدوني في الإسقيط

“كم قضيتَ في الإقامة الجبرية في كوربي؟” – “خمس سنوات حتى تشرين الثاني 1966”. – “هل كنت هناك لوحدك؟” – “بالطبع لا! كانوا يدعونني بشكل ثابت إلى الشرطة. وعندما أعود من هناك بالكاد أستطيع الوقوف على رجليّ. كنت أترنح كالسكران. كانوا يعتبرونني قاطع طرق ويسألونني دوماً: “يا قاطع الطريق لماذا لستَ متزوجاً؟” – “اسمع أنت! مَن هم مثلك يتزوجون لكنهم يعيشون بعيداً عن زوجاتهم. ماذا تقول عن ذلك؟” – “أنا أقول أن على المتزوجين أن يحفظوا قوانين الزواج.” – “أعلم ذلك. ومَن ليس متزوجاً عليه احترام قوانين حياة العزوبية” ـ

في مرة أخرى، سألتُ المحقق: “أنت أيضا أقسمت اليمين في الجيش ، أليس كذلك؟” – “نعم فعلت.” – “هكذا إذاً، هل كسرته؟” – “لا أبداً!” – “وأنا قد اتخذتُ أيضًا نذوراً رهبانية. ولا يمكنني كسرها لأي شيء في العالم. هل تتوقع ماذا قال؟ من الأفضل ألا تكسرها. هل يمكنك أن تتخيل؟”ـ

“إذاً حفظتَ نذورك الرهبانية حتى في العالم كمواطن عادي؟”

“لقد أبقيتُها مقدِّسة بعون الله أيها الأب! تعرّضت لإغراءات من خدام الشيطان. كانوا يراقبونني، كل خطوة خطوتها وكل ما فعلته. وبسبب هذا التوتر، لم أستطع النوم طوال تلك السنوات الخمس التي كنت أعيش فيها في كوربي، إلا إذا بعد تناولي حبوبًا. لكن الشيطان قاتلني شخصيًا أيضًا. إذا كان بإمكانك أن تتخيل ما كنت أبدو عليه حينها، جِلداً وعظاماً. كنت لتذرف علي دموع الشفقة. وقد حمل شيطان الشهوة السلاح ضدي في هذه الحالة المؤسفة. صلّيتُ كثيرًا يا ابتي لكي ينقذني الله منها، حتى أن الدموع التي ذرفتها صارت بِركة على الأرض. سألتني الأخت فيتا لماذا أبكي، فقلت إنني أبكي من الشوق إلى الدير. لم أستطع أن أخبرها بالسبب

ثم رأيت أن الأمنيين أسوأ من الشياطين. يمكنك أن تصلي إلى الله وتتخلص من الشياطين، ولكن من الأمنيين… كنت أبكي حتى أفقد الوعي. قالت الأم غابرييلا في وقت لاحق: ’لو كنت تعرف كم مرة صفعت قدسِك!’ ’ماذا تعنين؟’ ’كانت هذه الطريقة الوحيدة لإحيائك.’”ـ

***

أخبر الشيخ ثوفيل: “عند سيامتي، صليتُ إلى الله: ’يا رب نجِّني من الحسد والجشع! هذه تفسد العلاقات الجيدة مع الناس. لم أدّخر أي نقود وكلّ ما قمتُ به فعلته من أجل الدير. اشتريت الكثير من الكتب. هذا هو الإرث الذي أتركه لجنودي. لدي أيضًا 700 شريط كاسيت مع عظات وموسيقى كنسية وتسجيلات لحظات مختلفة من حياتي… الكهنوت هو أرهب شيء على وجه الأرض. عندما يخدم الكاهن تكون الجنة عن اليمين والجحيم عن اليسار. سيعطي الكاهن إجابة عن كل نفس من رعيته، لئلا تهلك أي منها. الكهنوت ليس مهنة بل رسالة إلهية. تتألم روحي عندما أرى الشبّان، كهنة المستقبل، ذاهبين لدراسة اللاهوت دون التفكير في النير الذي يتسخّرون من أجله” ـ

***

ذهب الأب ثيوفيل مرةً بعد 1990 للتسوق في بيتساتي مع مسؤول الضيافة في الدير. أوقفه أحد الأشخاص معلناً بفخر: “أبي ، أنا إنجيلي.”. نظر إليه الشيخ بدهشة وأجاب: “أنا أعرف أربعة إنجيليين فقط. فمن أين أتيت أنت؟” أذهَلَ هذا الرد غير المتوقع “الإنجيلي” وفيما كان الأب مبتعدًا، كان “الإنجيلي” لا يزال واقفاً هناك، لا يتحرّك من مكانه كما لو كان مزروعاً في تلك البقعة متابعًا الشيخ بعينيه حتى اختفى وسط الحشد

***

كثيراً ما سمعته يقول: “المراقص، دور العبادة الدهرية، أسواق نهاية الأسبوع،  كلها أفواه الجحيم. من يشترِ ويبِع يوم الأحد بدلاً من الذهاب إلى القداس الإلهي لن يجني ربحًا – فقط الضرر! هذا ما يقوله الآباء القديسون، وأؤمن بأنه صحيح!”

***

من أقوال الاب ثيوفيل أيضًا: “كان لدي الكثير من الرغبات في الحياة التي صليت من أجلها إلى الله، لكي يحققها إذا كانت ترضيه. أردت حقًا بناء كنيسة، لأننا سنحتفل بها هناك في الحياة وبعد الموت، طالما أن الكنيسة موجودة. حيثما يُقام القداس الإلهي يوميًا، تفيض بركات كثيرة من الله. كما تعلم، يقول آباء الكنيسة أن أعظم عمل صالح يمكنك القيام به في يوم واحد هو الذهاب إلى القداس الإلهي. وأشعر بالفرح عندما أرى ثلاث كنائس أقيمت وأرى أن الدورة اليومية من الخدم الإلهية يُحتفَل بها هناك وفقًا للترتيب الرهباني، مع القداس الإلهي… عندما زرتُ الأرض المقدسة أول مرة، رأيتُ كم كانت الخدم الإلهية في الليل رائعة ومفعَمة بالسلام. يقول الآباء القديسون أن صلاة الليل من ذهب، لأن الذهن لا ينزعج من الأفكار كما في النهار… إن تشتت الذهن في الصلاة يؤدي إلى برودة النفس، فلا تنال الروح نفسَ القدر من المنفعة كما عندما يكون العقل مجمّعاً في الصلاة وذرف الدموع… بعد عودتي من القدس، جمعت “الجنود” للتشاور معهم حول كيفية القيام بالخِدَم الليلية. لذلك بدأنا نقيم صلاة نصف الليل والسحرية في منتصف الليل. منذ ذلك الحين رأيت نعمة الله، فالجماعة قد نمت عددًا، وأرجو أنها نمَت أيضًا روحياً وماديًا”ـ

[1] صدر في 1959 قانون في رومانيا قضى بأن يعود كل الرهبان الذين لم يبلغوا عمر التقاعد إلى العالم، فيما تمّ تجميع الشيوخ في عدد من الأديار التي تمّ تحويلها إلى دور عجزة

 [2] جيش الرب (Oastea Domnului) كان تياراً نصف رهباني للإحياء الروحي في الشعب. لعب دوراً مهماً في تثبيت الأرثوذكسية في رومانيا منذ إنشائه في 1923. تعرّض للاضطهاد على يد السلطات الملحِدة بين 1948 و 1991

[3] الأمنيون هم العاملون في جهاز أمن الدولة في رومانيا (Securitate) الذي كان متسلطاً بين 1948 و1991.

[4] كوربي هي القرية الأقرب إلى الدير وفلاديستي هي مسقط رأس الشيخ ثيوفيل

* Source: “The World of Monks” (Lumea Monahilor), vol. 1, no. 1, July 2007