الأب خاريطُن

الأب خاريطُن

نقلها إلى العربية الأب أثناسيوس بركات

 

كان الزمان فصح سنة 1894، بالضبط، في اليوم الذي يسبق عيد البشارة. كان هناك الكثيرُ من الثلج وجليد خفيف. أما على ضفتي النهر فالجليد كان قد بدأ بالذوبان.
كان أحد الملاّكين الشباب، ويدعى بالاييف، قد سلك احد المنحدرات ليقوم بزياراته الاعتيادية ثاني يوم عيد الفصح. كان بالاييف يعيش، منذ سنتين، على أرض يملكها على بعد خمسين فَرْسَت (مقياس روسي للمسافات)عن عاصمة المقاطعة. في الصباح التالي، تغير الطقس وبدأت رياح جنوبية بالهبوب. سجَّل ميزانُ الحرارة خمسة عشر درجة مئوية فوق الصفر، وخلال يومين، أو ثلاثة، كان الثلج قد ذاب. كان على بالاييف الوصول بسرعة إلى البيت قبل أن يتكسر الجليد، فعلى بعد خمسة فَرْسَت من المدينة كان نهر عريض عليه أن يقطعَه. لم يكن هناك جسر للعبور، بل بعض ألواح خشبية فوق الجليد للحماية، أو العبّارة التي تتنقّل بعد ذوبان الجليد وجريان الماء. لكن الأعمال أجبرت بالاييف على البقاء في المدينة حتى نهار الإثنين من أسبوع توما.
في مساء أحد توما، أُرسِل أحد الخيالة إلى ضفة النهر لتجهيز الألواح الخشبية للعبور مشياً على الأقدام. في الصباح التالي، اجتاز بالاييف المعبر. كان الجليد يتكسّر على النهر الذي فاضت مياهُه. عرض النهر بين الضفتين كان حوالى العشرين سازن (sazhen وحدة قياس مسافات روسية)، كانت المياه هائجة، فشكَّلت نهرين منفصلين تدفّقا فوق الضفتين المسطّحتين عبْر الحقول. كان العبور مستحيلاً؛ إذ قد يتحرّك الجليد في أيّ لحظة. على الضفة المقابلة، كان هناك مطعم صغير وكان أحدهم يرتدي معطفاً قصيراً ويتمنطق بحبلٍ حول وسطه وقد خرج من المطعم عدة مرات. كان يحمل كيساً على كتفه وفي كلّ مرّة يتوقّف لبرهة ناظراً إلى أعلى النهر وأسفله قبل أن يعود إلى البيت الصغير. فجأةً، سُمعت قرقعة مكتومة. بدا وكأن النهر يرسل تنهدات عنيفة. وبسرعة، ارتفع الجليد كما لو كان يقفز خارج المياه، وغطّى الضفتين الرّطبتين بكتلته الضخمة. لوهلة، بدا كما لو أن هناك صراعاً، ثم بدأ النهر كله بالتحرّك مُصدِراً ضجيجاً. كانت كتلٌ كبيرة من الجليد، تشبه عوّامات ضخمة، قد احتلّت بهدوء وسط النهر. فيما قطعٌ أصغر منها تتململ على الجانبين، وتقفز الواحدة على الأخرى بشكل كُوَم إلى أن تتفرّق آلاف القطع في كل الاتجاهات كحبات الألماس.
مرة أخرى، خرج الرجل من المطعم. هذه المرة، إضافة إلى الكيس على كتفه، كان يحمل سلّةً على ساعده الأيسر وعصاً في يده. مشى إلى حافة الضفة، ثم نظر من حوله، وركض حوالى عشرة سازنات إلى أعلى النهر، وتوقف. نزع قبّعتَه ورسم إشارة الصليب عدة مرات، ثم قفز نحو قطعة جليد متباعدة… صُعِق بالاييف وحبسَ أنفاسه لهذا المشهد الذي لا يُصدَّق. شقّ الرجلُ طريقه، بمساعدة عصاه، نحو الضفة المقابلة، وأخذ يقفز بسرعة من قطعة جليد إلى أخرى، وخلال دقيقتين أو ثلاث، رسا على قطعة كبيرة تطفو بثبات في وسط التيار. أخذ يمشي على الجليد بخطوات واسعة لا خوف فيها، وسرعان ما اقترب من المكان الذي كان يقف فيه بالاييف. أخذ قلب بالاييف يضرب بقوة لفكرة أنه، لبُرهة، كان سيعاين الموت المحتم لذلك الرجل البائس المجنون. قبض بيده على لوح خشبي وركض نزولاً نحو الضفة، إذ قد يحتاج الرجل لمساعدته. عند وصوله إلى مسافة حوالى خمسة عشر سازن من ضفة النهر ناحية بالاييف، قفز الرجل الجَسور على القطع الصغيرة التي احتشدت بقرب الضفة. سُمعت قرقعة مرتفعة، ثم بدأ الهواء يهب. كان الجليد المتوهّج يعكس أشعة الشمس. كان بالاييف منبهراً بما شاهده.
فجأةً، ومثل القنبلة، انتقلت المغامر من الفوضى على الجليد إلى الضفة. وكما لو أنه يتحدى أحداً، رسم الرجلُ إشارةَ الصليب بسرعة وصرخ: “المسيح قام”! بطريقة هستيرية. وبعد أن خفّ توتّره، اندفع بالاييف نحو الصبي – إذ كان صبياً – وحمله بكلتي يديه وشرع يقبّله على وجهه والدموع تنسكب على وجنتيه، وأعلن مجيباً :”حقاً قام”. كان الصبي تلميذ مدرسة إكليريكية، فتى في حوالى الرابعة عشر من عمره، وكان عائداً إلى المدينةِ بعد انتهاء عطلة الفصح. خشية أن يستمر الجليد في التّكسّر لعدة أيام، قرّر أن يعبر النهر مباشرة قبل أن يبدأ بالتحرك، إذ تكون المياه على الضفتين مغطاةً بتجمعات صغيرة من الجليد.
عندما تحرّر الصبي، في آخر الأمر، من يدي بالاييف، حمل السّلةَ وبدأ بنفض الماء والجليد عن ثيابه. كان حذاؤه، أيضاً مليئاً بكسر الجليد، لكنه تصرّف كما لو أنّ كلّ ما جرى كان اعتيادياً، وكأنّه كان يتأكد، فقط، مما إذا كان قد فَقَدَ أيَّ شيء. كانت السلّة مغطّاةً بقماشة بيضاء ومربوطةً بحبل. قام بتفقُّدها بكل عناية، لكن كلّ شيء كان في مكانه. تلمَّس جيوبه وسُترتَه بكلتي يديه، ثم رتّب وضع الحبل الذي كان الكيس بواسطته معلّقاً على ظهره. وبعد أن اطمأن إلى كل شيء، تطلَّع نحو بالاييف.
“يا صديقي، ألم يُصِبكَ الجزع حين عبورك النهر؟ كيف كانت لك الجرأة على مواجهة خطر كهذا؟ الجليد في غاية الرقّة، كان من الممكن أن يتداعى في أيّ لحظة…”
أجاب الصبي بكل جدّية: “ولمَ الخوف؟ كنت أعلم أنني سأعبره، وإلا لما كنت باشرتُ بذلك”.
فسأله بالاييف، مندهشاً من هدوئه الملفِت للنظر: “لماذا صِحْتَ، عندما وصلتَ إلى الضفّة، قائلاً: <المسيح قام> دون سواها؟”
“وماذا أقول سواها؟ إنه الفصح. نردّد <المسيح قام> لأربعين يوماً حتى الصعود. فعندما يسير المرء في الطريق، عليه أن يرتّل <المسيح قام>… هذا هو اليوم الذي صنعه الرب… إنه يوم القيامة… هناك الكثير من الترانيم الفصحية! على المؤمن أن يُنشد كلَّ ما يعرفه. لقد حفظتُها كلَّها عن ظهر قلب… لقد جعلونا نحفظها في المدرسة ونرتّلها في كنائسنا وبيوتنا وقُرانا عندما نكون حاملين الأيقونات…”
“وأين تسكن؟ ومن أين بدأت المسير؟”
“من كنيسة والدة الإله في مالايا سيزما. أنها تبعد حمسة وسبعين فَرْسَت من هنا. والدي هو الكاهن الذي يخدم هناك”.
بعد هذا، خلع الصبي قبعته وانحنى قائلا: “إلى اللقاء! عليَّ الذهاب…”. كان بالاييف مأخوذاً بشكل غريب بالشاب غير العادي، بحصافته وهدوئه وشعوره الديني. لم يرغب بالتخلي عنه بذات البساطة التي كان لدى الصبي. “سأصطحبكَ، على الأقل، إلى المدينة. فهي لا تبعد أكثر من خمسة فَرْسَت. اخلع عنك الكيس وادخل. سوف تتعب إذا ما مشيتَ الطريق كلَّها، فسرعان ما سنكون في المدينة”.
“شكراً. بوسعي المسير حتى هنالك، فهي الآن ليست بعيدة. لأنني، إذا ما كنت سأذهب معك، فعليّ أن أخلع حذائي”. قال هذا ونظر إلى حذائه الجلدي.
“حسناً” قال بالاييف، “انزعه، ودعنا نذهب”. جلس الغلام على اللوح الخشبي وخلع الكيس عنه، وفكّ سيور حذائه الجلدية وبدّل الحذاء. ثم صعد كلاهما إلى العربة وانطلقا.
“وماذا لديك في السلّة؟”، سأل بالاييف. “خمسون بيضة فصح ملوّنة”، أجاب الصبي بنبرة جدّية، وثلاث بيروشكيات (كعكات روسيّة)، هذا يكفيني لعشرة أيام. وهناك ثياب داخلية في الكيس. لن نستطيع الذهاب إلى بيوتنا حتى وقت تحضير العَلَف- إنهم يسمحون لنا، دائماً، بالذهاب إلى كيريك وأوليتا”.
“ولماذا يسمح لك ذووك بأن تمشي كلّ هذه الطريق؟ قد يصيبك أي شيء، كأن تغرق أو أن يؤذيَك رجل شرير”.
“ماذا يمكن أن يصيبني؟” قالها الولد بثقة. “أن أغرق؟ بربك، لا! الله يحفظُني سالماً. ماذا يستطيع شخص شرير أن يفعل لي؟ سأهرب منه”. فسأله بالاييف بشكل استفزازي: “ولكن، إن لم يحفظْك الله، وبدأتَ بالغرق بما يخالف مشيئته لسبب ما…”. لم يُجب الغلام، بل حدّق فيه بعينين جعلتاه يشعر ببالغ الخجل.
فسأله بالاييف ليُخفيَ الحرج الذي اعتراه: “وعندما تُنهي دراستك، ماذا ستفعل؟”.
فقال الصبي: “سأصبح كاهناً”، ونظر إلى بالاييف بنظرة مختلفة تماماً، وعلت وجهَه ابتسامةٌ يصعب فهمها. “وسأذكركَ… عندما يأتي الفصح، سأهتف لك بعقلي قائلاً<المسيح قام>. وأنت، عندما تسمع <المسيح قام> للمرة الأولى في يوم الفصح، سرعان ما سوف تفكّر بي وتقول في فكرك: <حقّاً قام> ، أيها الأب خاريطن! إذ سأكون، حينها، قد أصبحتُ الأب خاريطن”.
ترك الصبي انطباعاً قوياً لدى بالاييف. ففكّر في نفسه: “إنه كالنبي، يستطيع أن يرى المستقبل، إذ أنه يعرف ما سيحدث له. إنه ينظر مباشرة في نفسك فتشعر أنه يشدّكَ إليه”.
أحس بالاييف بغاية الدفء، مما جعله يأسف لفراقه. وصلا إلى المدينة، فطلب منه الولد أن يوقف الأحصنة. أشار بيده: “طريقي من هنا. والآن، وداعاً. شكراً لك. المسيح قام!”
“المسيح قام”، أجاب بالاييف، وقبّل الأبَّ خاريطن المستقبلي، أما الصبي فتوارى في الأزقة بين البيوت.
مرّت أربعون سنة. مرِض محافظُ المدينة بالاييف، الذي كان يقضي الشتاء في سان بطرسبرغ، وذلك عندما كان يقوم بزيارته الرسمية في أول أيام عيد الفصح، فعاد إلى البيت وسقط طريح الفراش. أرسل له الطبيبُ بطلب الدواء، وحذّر ذويه قائلاً: “حتى الآن، ليس هناك ما يدعو للقلق. لكن، من المحتمل أن يُصاب بجلطة. إن كان مؤمنأ، فعليكم أن ترسلوا بطلب الكاهن. أمضى أحدُ أقربائه ساعة ونصف في البحث عن كاهن، لكن هذا الأخير كان في جولته الفصحية على أبناء الرعية. في غضون ذلك، ساءت حالة المريض. وعلى الرغم من عدم إصابته بالجلطة، إلا أنه لم يعد قادراً على الكلام. اجتمع الأهل حول سرير الرجل المحتضِر، لكن نظره كان مسمّراً على الباب وهو يحاول أن يتفوّه بشيء ما.
شعر الجميع باقتراب سكرات الموت، إلا أن الكاهن لم يكن قد وصل بعد. وأخيراً، فَتَح الخادمُ البابَ ودخل كاهنٌ نحيل أشيب الشعر يضع البطرشيل حول عنقه، وتوجّه بسرعة نحو المريض وهو يعلن بتهليل: <المسيح قام>. في تلك اللحظة، وكما لو أن شرارة كهربائية اجتاحت جسمَ المريض، نهض بالاييف وأجاب بصوت واضح: “حقاً قام، أيها الأب خاريطن”. وتعانق الكاهن وربُّ البيت والدموع تنهمر على وجنتيهما.

Published
Categorized as قصة

Leave a comment