القديس يوسف الدمشقي (U10 تموز 1860م)

القديس يوسف الدمشقي

(U10 تموز 1860م)

 

هو الأب يوسف بن جرجس موسى بن مهنا الحدّاد1 المعروف، اختصاراً، بإسم الخوري يوسف مهنا الحداد. وهو بيروتي الأصل، دمشقي الموطن، أرثوذكسي المذهب، كما كان يطيب له أن يعرّف عن نفسه أحياناً2. ترك والده بيروت في الربع الأخير من القرن الثامن عشر وجاء فاستقر في دمشق حيث عمل في صناعة النسيج، وحيث تزوّج وأنجب ثلاثة أولاد ذكور هم موسى وابراهيم ويوسف. وهو من أصل عربي غسّاني حوراني، انتقل أجداده الى بلدة الفرزل البقاعية اللبنانية في القرن السادس عشر ومنها الى بسكنتا، في قضاء المتن الشمالي حالياً، فبيروت.

وقد وصفه مترجموه، وهو كاهن، بأنه كان مربوع القامة، معتدل الجسم، أبيض البشرة، مهيب الطلعة، بارز الجبهة، متوقد العينين ذكاء، كثّ اللحية على توسّط في طولها وعرضها، نشر فيها الشيب أسلاكه حتى شابهت أشعة الشمس في الضحى.

ولادته ونشأته

ولد يوسف في دمشق خلال شهر أيار من العام 1793 3 لعائلة فقيرة تقية. تلقى بعض التعليم4 فألمّ باللغة العربية وقليل من اليونانية. انقطع عن  الكتّاب5 بعد حين لأنه لم يكن في طاقة أبيه أن يكمل له تعليمه. صار يعمل في نسج الحرير. ولم يطفىء العوز وشغل اليد شوقه الى العلم والمعرفة. كان لا بدّ له أن يجد حلاً. فكان الحلّ العمل اليدوي في النهار والدرس على النفس في الليل. الحاجة جعلته عصامياً. ولعلّ ميله الى العلم زكّاه فيه أخوه البكر موسى الذي كان أديباً ملمّاً بالعلوم، لا سيما اللغة العربية، واقتنى مكتبة صغيرة6، لكنّه رقد وهو دون الخامسة والعشرين، وقيل إرهاقاً، من كثرة إقباله على المطالعة. وقد أثّر المصاب سلباً في موقف والدي يوسف من شغفه هو أيضاً بالكتب. ومع ذلك بقيت شعلة المعرفة متوقدة في نفسه.

فلما بلغ الرابعة عشرة أخذ بمطالعة كتب أخيه. لكنه شعر بالإحباط لأنه كان لا يفهم ممّا يقرأ إلاّ قليلاً. وعوض أن يثنيه الفشل عن عزمه زاده إصراراً. لسان حاله كان: “ألم يكن مؤلّف هذه الكتب إنساناً مثلي، فلماذا لا أفهم معناها؟! لا بدّ لي من أن أفهم”7.

وتسنّى له أن يدرس على علاّمة عصره الشيخ محمد العطّار الدمشقي فأخذ عنه العربية والمناظرة والمنطق والعلوم العقلية8. لكنه تراجع، من جديد، بعد حين، لأن أجور التعليم وأثمان الكتب أثقلت عليه وعلى والديه، فعاد الى سابق وتيرته: العمل نهاراً والمطالعة ليلاً.

من المهم أن نعرف أن طلب العلم في ذلك الزمان كان متداخلاً مع التقوى وطلب المعرفة الإلهية. ولا ننسى أن من أبرز الكتب الدراسية، آنذاك، كان الكتاب المقدّس.

فعلى التوراة والمزامير والعهد الجديد انكب يوسف في لياليه يقابل النسخة اليونانية على العربية والعربية على اليونانية  حتى أتقن النقل من اليونانية وإليها. ولم يقف تحصيله عند حدّ اللغة لأنه كان قد استظهر أكثر الكتاب المقدّس.

واستمر يوسف يرصد الفرص الدراسية، الواحدة تلو الأخرى، بشوق لا قرار له. فأخذ الإلهيات والتاريخ عن المرحوم جرجس شحادة الصبّاغ4. وبدأ يقبل التلامذة في بيته. ثم أخذ العبرية عن أحد تلامذته اليهود.

كل هذا النشاط الدؤوب أثار مخاوف والديه من جديد فحاولا صرفه عن المطالعة والدرس والتدريس لئلا يصيبه ما أصاب أخاه موسى، فلم يفلحا. أخيراً، بدا لهما أن الحل الوحيد الباقي هو تزويجه، فزفّاه الى فتاة دمشقية تدعى مريم الكرشة، وهو بعد في التاسعة عشرة من عمره (1812). إلاّ أن الزواج لم يكن ليصرفه عن المطالعة فثابر على القراءة بنهم حتى في ليلة عرسه، كما أورد كاتب سيرته.

 

يوسف كاهنا

وفطنت له رعية دمشق بعدما شاع ذكره بين الناس، فرغبوا الى البطريرك سيرافيم (1813 – 1823) أن يجعله راعياً لهم، وكان هو أيضاً يكنّ له اعتباراً طيّباً، فسامه شمّاساً فكاهناً، في خلال أسبوع، وهو في الرابعة والعشرين (1817). كما أعطاه البطريرك مثوديوس (1824 – 1850) لقب مدبر عظيم (ميغاس ايكونوموس) بعدما عهد فيه الغيرة والتقى والعلم والإقدام9.

إهتمّ يوسف بالوعظ في الكنيسة المعروفة بالمريمية10 سنوات طويلة، فأبدع. اعتبره البعض يوحنا ذهبي الفم ثانياً7، وتحدّث نعمان قساطلي في “الروضة الغناء…” عن كونه “واعظاً مفلقاً”11. وذكر أمين ظاهر خير الله في “الأرج الزاكي…” في نهاية القرن التاسع عشر (1899)، أي بعد رقاد يوسف بتسع وثلاثين سنة، أن الشيوخ الدماشقة كانوا ما يزالون يردّدون بعضاً من مواعظه. وقد بقي صداها يتردّد في اوائل القرن العشرين، فعرّف عنه حبيب أفندي الزيّات، الملكي الكاثوليكي، بأنه “المشهور بين أبناء العرب الأرثوذكسيين في ذلك الوقت بعلمه ووعظه”12.

امتاز يوسف، في وعظه، بقوّة الحجّة والجواب الدامغ المقنع. وكان -بكلمات عيسى اسكندر المعلوف13 -ذا صوت خفيف “يسمع من بعيد والناس يصغون الى سماع كلامه بكل لذّة وشوق ويتأثّرون منه ويأتمون14 بنصائحه… ويحفظون وصاياه…”.

وكان، الى الوعظ، دؤوباً في مؤاساة البؤساء وتسلية الحزانى ومعاضدة الفقراء وتقوية المرضى13. ولمّا تفشى الهواء الأصفر في دمشق سنة 1848، أظهر الأب يوسف غيرة كبيرة في خدمة المرضى، غير مبال بإمكان التقاط المرض، هو نفسه، متكلاً على الله في كل حال، ومهتماً بدفن الموتى وتعزية الحزانى. فعل ذلك كله وأكثر بهمّة لا تعرف الكلل فيما فقد أحد أولاده، مهنا، مضروباً بالوباء. وقد زادت غيرته وصلابته وحنانه في آن من احترام الدمشقيين له أيّما احترام، ورأوا فيه صورة القائل “…مكتئبين في كل شيء لكن غير متضايقين، متحيّرين لكن غير يائسين… مطروحين لكن غير هالكين، حاملين في الجسد كل حين إماتة الرب يسوع لكي تظهر حياة يسوع أيضاً في جسدنا” (2 كورنثوس 4 :8 – 10).

وسعى الخوري يوسف، فيما سعى، الى صرف الشعب المؤمن عن الكثير من العادات الشائعة، مما لا يتفق واستقامة الرأي، فأثّر كلامه في النفوس ونجح في تغيير الكثير من عادات الخطبة والعرس والمأتم15.

وكما اهتمّ ببناء النفوس اهتمّ أيضاً ببناء الهياكل الحجرية فسعى في العام 1845م الى تجديد كنيسة القديس نيقولاوس16 المتاخمة للكنيسة المريمية فجرى ترميمها بإتقان، لكنها احترقت في أحداث 1860 10.

المدرسة البطريركية

لا نعرف بالتدقيق من أنشأ ومتى نشأت المدرسة البطريركية في دمشق. الثابت أنها اقترنت في القرن التاسع عشر باسم الأب يوسف حتى صارت تعرف بمدرسته.

انتقل الخوري يوسف الى المدرسة البطريركية سنة 1836 فضم اليها التلامذة الذين كان يقوم بتعليمهم في بيته17. ولم يلبث أن طوّرها فعمد الى توسيعها وجعل عليها وكلاء، واهتم بـ”النظارة” فيها، كما عيّن للمعلمين رواتب محدّدة. وما لبث أن اجتذب طلاب العلم من أرجاء سورية ولبنان.

كان الهمّ الأول للأب يوسف تثقيف عقول الناشئة من أبناء الرعية الأرثوذكسية “وترشيحهم للكهنوت واقتبال درجاته ليخدموا الرعية خدمة نافعة”18. نفقات التعليم في المدرسة كان يغطيها المؤمنون والبطريركية19.

وكان طبيعياً، ضمن رؤية الأب يوسف للأمور، أن يتضاعف الاهتمام بدراسة اللاهوت في المدرسة. ففي العام 1852، في زمن البطريرك ايروثيوس (1850 – 1885)، بادر الخوري يوسف الى افتتاح فرع عال للعلوم اللاهوتية، وفي نيته أن يجعله في مستوى أكاديمي رفيع يضاهي المعاهد اللاهوتية في العالم الأرثوذكسي20. وقد انتظم في هذا المعهد اثنا عشر تلميذاً أصبحوا كلهم من أحبار الكنيسة الأنطاكية. لكن موت الشهادة في السنة 1860 قطع عليه إرساء الحلم على قواعد ثابتة راسخة توفر للمعهد ديمومته.

هذا وقد نفخ الخوري يوسف في تلامذته “روح سلام ونجاح لا مثيل لامتدادها – في نظر العارفين – الا لكبار القدّيسين حتى إن تلك الروح المقدسة تجاوزت تلامذته وخريجيه الى جميع المتقربين منهم والمتخرجين عليهم والمعاشرين لهم. وهؤلاء نقلوها الى من اتصل بهم حتى كانت بمثابة سلسلة مرتبطة الحلقات. فذاعت تعاليمه وأثمرت تربيته صلاحاً”21.

الى ذلك يذكر أن الأب يوسف كان أحد الذين علّموا في مدرسة البلمند الاكليريكية في وقت من الأوقات22، بين العامين 1833 و 1840 .

خصال رجل الله

أولى ميزات الخوري والمعلم يوسف أنه كان فقيراً. بعض المصادر يذهب الى حدّ القول أن خدمته للكنيسة كانت “بدون عوض”23 أحد العلماء الروس المطلعين19 قال عنه انه لم يكن له دخل البتة لانصرافه الى خدمة المدرسة، لكن نفقاته كان يحصّلها أولاده من شغل أيديهم24.

في كل حال، لم يكن المال ليغريه البتة.

من أخباره أنه بعدما ذاع صيت مدرسته رغب اليه البطريرك الأورشليمي كيرللس الثاني (1845 – 1872) أن يدرّس العربية في مدرسة المصلبة الإكليريكية غربي القدس، فاعتذر، فعرض عليه راتباً شهرياً مغرياً، خمساً وعشرين ليرة25، بالإضافة الى المسكن وايراد البطرشيل وتعويضات أخرى، فأبى رغم حاجته الى المال. قال مشيراً الى رعيته في دمشق: “إني دعيت لخدمة هذه الرعية دون سواها والذي دعاني يكفيني”26.

وكان، الى ذلك، حسن العبادة، حار الإيمان، صبوراً صبراً عظيماً19، صالحاً جداً، وديعاً، هادئاً27، متواضعاً، شفوقاً، دمثاً، يكره الكلام عن نفسه ويمجّ الافتخار حتى يخجل من مادحيه28 ولا يعرف بما يجيبهم.

وكان حكيماً حليماً في رعايته يتحدّث بلغة الحكماء والعلماء فيفحمهم ويتكلم بلغة البسطاء فيقنعهم. من أخباره أن بعض الساذجين تركوا الكنيسة مرة لأمر تافه، فأشار اليه البطريرك مثوديوس أن يذهب في إثرهم ويسترجعهم. فلما أتى اليهم لم يبد أي استياء من عملهم، بل لاطفهم وعرض عليهم بعض الأيقونات الصغيرة التي كانت بحوزته فلمس قلوبهم وعاد واياهم الى الكنيسة خجلين نادمين29.

كعلاّمة كان أستاذ المعلمين30 وكوكب الشرق والعلاّمة العامل31. وقد شهد أهل زمانه من غير كنيسته أنه من أكبر علماء النصارى البارعين في وقته32. “لم يكن أحد يقارنه في عصره، في الطائفة الأرثوذكسية، من أبناء العرب، في علمه ومعارفه إلاّ جرجي اليان”33.

وكرجل كنيسة اعتبر لاهوتياً كبيراً وفخر الأرثوذكسية والشهيد في الكهنة وأنموذج التقوى والفضيلة31.

هكذا ارتسمت ملامح الخوري يوسف الدمشقي في زمانه: واحداً من رجال الله.

مكتبته ونتاجه

لا نعرف شيئاً عن مكتبة الخوري يوسف عندما استشهد لأنها احترقت في أحداث 1860 أو نهبت وضاعت. ابن أخيه، يوسف ابراهيم الحداد، قال إن مجموع ما كان لديه من الكتب والمخطوطات، في حدود العام 1840 34، كان 1827، أو ربما 2827 مجلّداً.

أما عمله الكتابي فكان، فيما يبدو، غزيراً. قابل المزامير والسواعي والقنداق والرسائل على أصلها اليوناني فدقّق فيها وضبطها. ونقل الى العربية كتاب التعليم المسيحي لفيلاريت، مطران موسكو. نسخ الكثير من المخطوطات وقابل فيما بين النسخ فجاءت مضبوطة مصححة “كالدراهم المصكوكة جيداً لا زيوف فيها ولا بهارج”35. من ذلك تفسير أيام الخليقة الستة وما خلق فيها منذ القديم للقدّيس باسيليوس الكبير، وهو من تعريب الشمّاس عبدالله بن الفضل الأنطاكي، وثلاثون ميمراً للقدّيس غريغوريوس اللاهوتي. وقد اعتاد أن ينهي مخطوطاته بأقوال كهذه: قد نقل هذا الكتاب عن نسخة قديمة وقوبل عليها بالتمام. وكان يمهرها بختمه ويوقعها، وبذلك يجيز التي تطبع أو تنسخ منها. المطابع الأرثوذكسية، آنذاك، كمطبعة القدّيس جاورجيوس في بيروت ومطبعة القبر المقدّس في القدس والمطابع العربية في روسيا وسواها كانت كلها تعتمد عليه لتصليح مطبوعاتها ومقابلتها على الأصل. كان ختمه ختم الثقة في مجال اللاهوت والأدب والثقافة. وقد اعتاد أن يشترك في النقل من العربية الى اليونانية ومن اليونانية الى العربية مع يني بابادوبولوس. وله أيضاً مساهمته في تنقيح النسخة العربية للكتاب المقدّس، وهي المعروفة بطبعة لندن. كان فارس الشدياق يعرض عمله الذي كان يقوم به بالتعاون مع المستشرق الإنكليزي لي، على الخوري يوسف فيقابله على الأصل العبراني أو اليوناني ويبدي رأيه بشأنه.

وقد أظهر الخوري يوسف، في عمله الكتابي، جلداً فائقاً وتنقيباً واسعاً وأمانة ودقة، وقد كان يشكو دائماً من التحريف الذي كانت تتعرّض له منقّحاته في المطابع.

لا نعرف إذا كان الخوري يوسف قد ترك مؤلفات، غير بعض المقالات هنا وهناك. ربما لم يتسنّ له، أو لم يحسب نفسه مستحقاً لمجاراة الآباء في نتاجهم، بل اكتفى بنقل ما كتبوه، عاملاً عمل الفاحص المدقّق ليقدّم لأبناء الإيمان وما ادّخره لهم تراثهم سليماً، مضبوطاً، لا زيغ فيه ولا عيب ولا فساد.

الخوري يوسف والروم الكاثوليك

مشكلة التعاطي مع الروم الملكيين الكاثوليك – وهم الذين كانوا بالأمس36 من ضمن الكنيسة الأرثوذكسية – كانت احدى أصعب وآلم المشكلات التي واجهت أبناء الإيمان القويم في أيام الخوري يوسف. وقد انصبّ السعي، آنذاك، من قريب أو بعيد، على استعادة المنشقين. البعض نهج، في سبيل ذلك، نهج الإكراه والضغط السياسي والإداري، والبعض الآخر اعتمد التفاهم والإقناع.

الخوري يوسف مهنا الحدّاد كان من الفريق الثاني37.

كان يكره العنف ولا يوافق على الاتصال بالدولة العثمانية لضرب الروم الكاثوليك38 والتضييق عليهم. هذا لا يليق ولا يجدي. يكرس الفرقة ولا يعيد اللحمة.

لا نعرف مقدار نجاح الخوري يوسف في سعيه، في هذا الاتجاه. لكن ما جرى في السنة 1857 وما تبعه دلّ على أن رؤيته للأمور كانت أدقّ من رؤية غيره وأوفق وأجدى. ففي تلك السنة، حاول بطريرك الروم الكاثوليك، اقليموس أو اكليمنضوس، فرض التقويم الغربي على كنيسته فامتنع الكثيرون وشعروا بالغربة وبدأ بعضهم يشقّ طريق العودة الى الكنيسة الأرثوذكسية الأم39. وقد اجتمع من هؤلاء فريق بزعامة شبلي أيّوب الدمشقي ورفاقه أمثال جرجس العنحوري ويوحنا فريج وموسى البحري وسركيس دبّانة وبطرس الجاهل. هؤلاء اتصلوا بالخوري يوسف فاحتضنهم وشدّدهم واجتهد في تنوير اتباعهم، ثلاث سنوات متتالية. كما قدّم لكتاب وضعه شبلي وضمّنه احتجاجات هذا الفريق. اسم الكتاب كان “تنزيه الشريعة المسيحية عن الآراء الفلكية“، طبع بمطبعة القبر المقدّس سنة 1858 . وقد أخذ حجم هذا الفريق في الازدياد حتى قيل إنه لولا استشهاد الخوري يوسف، في مذبحة 1860، لنجح في استرداد البقية الباقية من الروم الكاثوليك، في دمشق، الى الإيمان القويم37.

الخوري يوسف ودعاة البروتستانتية

وكانت للخوري يوسف اكثر من مواجهة مع دعاة البروتستانتية، أبرزها في حاصبيا وراشيا، ثم في دمشق بالذات.

ففي حاصبيا لقي المرسلون البروتستانت الأميركيون40 نجاحاً من خلال مدرستهم التي أقاموها هناك. وقد انضم اليهم مئة وخمسون شخصاً. إثر ذلك حصل خلاف حاد بين هؤلاء، ومعظمهم من الروم الأرثوذكس، وبقية الروم في حاصبيا وراشيا وتوابعهما. فأوفد البطريرك مثوديوس41 الخوري يوسف الى هناك، حيث أقام بضعة أشهر، وتمكّن من رد بعض القطيع الشارد الى الحظيرة، كما أفحم المرسلين الأميركيين في أكثر من مناسبة، ونجح في ايقافهم عند حدّهم37.

أما في دمشق فقد سعى الخوري يوسف بالرعاية والوعظ والإرشاد الى توعية شعبه وتنبيهه وتحصينه ضد البدع والهرطقات الرائجة آنذاك.

ومما يروى عنه بشأن التعامل مع المرسلين الأجانب، أن مرسلاً انكليزياً، اسمه جريم، لعلّه كبيرهم، كان يلتقي الخوري يوسف ويباحثه في مسائل الكتاب المقدّس42. وفطن يوسف الى أن جريم هذا بدأ يطرح عليه أسئلة ثم يحرّف أجوبته عليها، فطلب أن تكون اسئلة المرسلين خطية. وبعدما بعثوا اليه بعدة اسئلة لم يجبهم، فظنوا انهم أفحموه. فجاؤوا اليه في الأسبوع الأول من الصوم الكبير، مرّة، فأجابهم على كل أسئلتهم، واحدة فواحدة، بتدقيق واقناع حتى عادوا متعجبين من دقة بحثه وكثرة علمه وزادت منزلته في عيونهم. ويقال إنهم أقلعوا، مذ ذاك، عن حملاتهم، وصاروا من أصدقائه، يسرّون بزيارته ويسألونه لا كمحاججين بل كمستفسرين37.

رجل النهضة الأول

لا شك أن الخوري يوسف مهنا الحدّاد كان رجل النهضة الأول في الكنيسة الانطاكية، في القرن التاسع عشر.

فأنطاكية، يومذاك، كانت في حال شقية. انشقاق الروم الملكيين الكاثوليك أدّى الى مضاعفات خطيرة على كافة الصعد، لا سيما الرعائي منها. المرسلون البروتستانت نشطوا في كل اتجاه، فيما سادت الكنيسة حالة من الوهن والضياع مقرونة بالفقر والجهل. الرعية كانت في واد والرعاة في واد آخر. البطاركة منذ السنة 1724 كانوا غرباء عن البلاد ومعاناة شعبها. وقعت انطاكية تحت الوصاية أكثر من ذي قبل بحجة إمكان سقوطها في الكثلكة. الكرسي القسطنطيني والكرسي الأورشليمي تقاسما، باسم الأرثوذكسية، تحديد مسارها وتعيين أحبارها. لا كهنة قادرين ولا رعاية تذكر. هكذا ارتسمت صورة انطاكية: سفينة تكدّها الأمواج وتهدّدها بالتفكّك والغرق…

وسط هذه الأخطار والتحديات نبت الخوري يوسف فرعاً جديداً غيوراً على ما لله وكنيسة المسيح في هذه الديار…

فانطلقت النهضة…

سيرة الخوري يوسف، غيرته، تقواه، فقره، شغفه بالمعرفة، ومن ثم عمله الرعائي الدؤوب، وعظه وارشاده، ترجماته ومقالاته، مدرسته وسهره، كل هذا وغيره خلق مناخاً نهوضياً حرّك النفوس من حوله، بعث الروح من جديد وشحذ الهمم. جيل جديد بدأ يتبرعم، فكر جديد، توجّه جديد. أخذت العظام اليابسة تتقارب، كل عظم الى عظمه، وبدأ الروح يدخل فيها (حزقيال 37).

أكثر من خمسين شخصاً من أبرز رجال الكنيسة الناهضة درسوا عليه وغاروا غيرته. البطريرك ملاتيوس الدوماني (U 1906)، أول بطريرك محلي منذ السنة 1724، كان من تلاميذه، وكذلك السيد غفرائيل شاتيلا، مطران بيروت ولبنان (U1901)، والسيد جراسيموس يارد (U 1899)، مطران زحلة وصيدنايا ومعلولا، علاّمة عصره، وما لا يقل عن عشرة مطارنة آخرين وعدد كبير من الكهنة، بينهم الإرشمندريت أثناسيوس قصير (U 1863) مؤسس مدرسة البلمند الاكليريكية والخوري اسبيريدون صرّوف (U 1858) مدير مدرسة المصلبة في القدس ومصحّح مطبوعات القبر المقدّس، والايكونوموس يوحنا الدوماني (U 1904)، منشىء المطبعة العربية في دمشق. وبين الأسماء أيضاً ديمتري شحادة الصبّاغ، أحد أبرز أركان النهضة، ومخايل كليلة، مدير المدارس البطريركية في دمشق والدكتور ميخائيل مشاقة (U1888).

إذن ما كان الخوري يوسف يرجوه تحقّق، بعضه في أيامه وبعضه بعد مماته، ولطالما ردّد “لقد زرعت في كرمة المسيح الحقيقية في دمشق، وأنا بانتظار الحصاد”.

كل هذا وغيره يفسّر قولة السيّد غفرائيل شاتيلا، مطران بيروت، أن كواكب دمشق ثلاثة: بولس الرسول ويوحنا الدمشقي ويوسف مهنا الحداد.

بقي أن يكلّل خادم المسيح حياته بخاتمة في مستوى غيرته وحبه الكبير يمجّد الله بها فكان استشهاده.

استشهاده43

بدأت مجزرة العام 1860، في دمشق، في اليوم التاسع من شهر تموز. يومها لجأ عدد كبير من المؤمنين الى الكنيسة المريمية، بعدما سدّت دونهم منافذ الهرب، وكان بينهم من قدم من قرى حاصبيا وراشيا، حيث كانت المذبحة قد وقعت وأودت بحياة الكثيرين، وكذلك من قرى الغوطة الغربية والشرقية وجبل الشيخ.

وكان الخوري يوسف يحتفظ في بيته بالذخيرة المقدّسة، كما كانت عادة كهنة دمشق، آنئذ، فأخذها في عبّه، وخرج باتجاه المريمية فوق سطوح البيوت، من بيت الى بيت، الى أن انتهى اليها. وقد أمضى بقية ذلك النهار والليل بطوله يشدّد المؤمنين ويشجعهم على مواجهة المصير اذا كان لا بدّ منه وأن لا يخافوا من الذين يقتلون الجسد لأن النفس لا يقدرون أن يقتلوها، وأن أكاليل المجد قد أعدت للذين بالإيمان بالرب يسوع المسيح أسلموا أمرهم لله. وكان يروي لهم قصص الشهداء الأبرار ويدعوهم الى التمثّل بهم.

ثم في صباح اليوم التالي، الثلاثاء، العاشر من شهر تموز، حصلت على المريمية هجمة شرسة وأخذ المهاجمون بالسلب والنهب والقتل والحرق، فسقط العديدون شهداء، وتمكّن آخرون من الخروج الى الأزقّة والطرقات. وكان من بين هؤلاء الخوري يوسف. كان متستراً بعباءة وسار بضع مئات من الأمتار الى أن وصل الى الناحية المعروفة بمأذنة الشحم. هناك عرفه أحد المهاجمين وكان من العلماء، وقد سبق ليوسف أن أفحمه في جدال فأضمر له الشر. هذا لمّا وقع نظره عليه صاح بمن كانوا معه: “هذا إمام النصارى. اذا قتلناه قتلنا معه كل النصارى!”. وإذ صاح الرجل بهذا الكلام أدرك الخوري يوسف أن ساعته قد دنت، فأخرج لتوه الذخيرة الإلهية من صدره وابتلعها. وإذا بالمهاجمين ينقضون عليه بالفؤوس والرصاص وكأنهم حطّابون حتى شوّهوه تشويهاً فظيعاً. ثم ربطوه من رجله وصاروا يطوفون به في الأزقة والحارات مسحوباً على الأرض الى أن هشّموه تهشيماً.

هكذا قضى الخوري يوسف مهنا الحدّاد شهيداً للمسيح44. شهد له بأتعابه وأسهاره، وشهد له بدمه وأوجاعه. اشترك في آلامه وتشبّه بموته (فيليبي 3 :10) فحقّ له أن يتكلّل بمجده ويحلّ في أخداره. وقد صار لنا مثالاً يحتذى وبركة تقتنى وشفيعاً حاراً لدى ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح، له المجد الى الأبد آمين.

فبصلوات أبينا الشهيد في الكهنة، يوسف الدمشقي ورفقته، أيها الرب يسوع المسيح، إلهنا، ارحمنا وخلّصنا، آمين.

ــــــــــــــــــــ

الحواشي

ـــــــــــ

(1)      هكذا كتب نسبته بخط يده في خاتمة احدى مخطوطاته. انظر الحاشية (2) من مجلة النعمة – عدد حزيران 1910 – ص 16 .

(2)      أنظر مجلة النعمة – عدد تموز 1910 – ص 80 .

(3)      مصادر أخرى تجعل ولادته في نحو السنة 1780 (أنظر “الروضة الغنّاء في دمشق الفيحاء” لنعمان أفندي قساطلي 1879) أو في السنة 1791 (أنظر “الأرج الزاكي في تهانىء غبطة البطريرك الأنطاكي…” لأمين ضاهر خير الله 1899).

(4)      تلقى الأب يوسف التعليم أول ما تلقاه على المعلم جرجس بن صروف (سيرافيم) بن اليان الحموي الذي كان ضليعاً بالعربية وآدابها واليونانية والتركية والذي تولى التعليم في المدرسة البطريركية في دمشق ثم أصبح كاتباً للبطريرك أنثيموس (1792 – 1812). وقد خلفه المعلم جرجس شحاده الصبّاغ الدمشقي. “الآسية مسيرة قرن ونصف” اعداد جوزيف زيتون. أيلول 1991 . ص 52 .

(5)      موضع التعليم كما كان يعرف في الماضي، وهو عبارة عن غرفة يجتمع فيها التلامذة الى معلم يلقنهم ما تيسّر له.

(6)      النعمة 1910 – حزيران – ص 16 .

(7)      من سيرة حياته كما وضعها يوسف، إبن أخيه ابراهيم، عام 1884 .

(8)      من المفيد أن نذكر هنا أن من رفاق يوسف في التحصيل العلمي، في هذه الحقبة، الخوري نقولا السبط الدمشقي الذي صار طبيباً واستشهد، هو أيضاً، في مذبحة 1860 (النعمة 1910 – حزيران – ص 18).

(9)      النعمة 1910 – حزيران – ص 21 .

(10)    جاء في كتاب “الروضة الغنّاء في دمشق الفيحاء” لنعمان أفندي قساطلي (بيروت 1879) أن الكنيسة المريمية قديمة العهد يظن أن أسسها موضوعة منذ أيام أركاديوس قيصر (395 – 408)، وقد كانت عظيمة. فلما فتح المسلمون دمشق كانت من القسم الذي استولى عليه خالد بن الوليد بالسيف، فأخذها المسلمون وأهملوها فخربت. ولمّا تولى الخلافة الوليد بن عبد الملك الأموي (705 – 715) كانت تلاصق الجامع الأموي كنيسة على إسم القدّيس يوحنا، فأخذها من النصارى وألحقها بالجامع. ولما تولى الخلافة عمر بن عبد العزيز (717 – 720) استدعى النصارى اليه وعوّض عليهم، في مقابل ما أخذه الوليد منهم، بالكنيسة المريمية، فعمّروها وجعلوها عظيمة. وقد بقيت هكذا الى 27 رمضان من سنة 658 هجرية عندما قام المسلمون على النصارى وأخربوها. ثم بعد مدّة، استأذن النصارى وأعادوا بناءها من جديد كما كانت. بعد ذلك، في السنة 1400 للميلاد خربها تيمورلنك، ثم استعيدت. وكانت مبنية من حجارة كبيرة في غاية المتانة، لها أقبية كبيرة تحت الأرض قتل فيها سنة 1860م عدد وافر من الذين التجأوا اليها. وكانت تقسم الى كنيستين، الأولى على إسم السيدة وبها ايقونة جميلة يسمّونها المسكوبية والثانية كنيسة مار نقولا. وسنة 1860 احترقت الكنيسة المريمية وخربت خراباً تاماً. وسنة 1861 شرعوا في تجديدها وعملوها كنيسة واحدة يبلغ طولها نحو سبعين ذراعاً وعرضها نحو أربعين. وقد اعتنوا ببنائها فأتت من أجلّ كنائس سوريا ومصر (ص 101 – 102).

الى هذا يذكر أنه كانت في جوار الكنيسة المريمية حتى القرن التاسع عشر كنيسة صغيرة على اسم القديسين الشهيدين قبريانوس ويوستينة كانت قبل احتراقها عام 1860 خربة وهيكلها مسقوف وفيها ايقونسطاس بديع ويقام فيها القداس مرة في السنة في عيدها. هذه أيضاً ضمّت الى المريمية لمّا جرى توسيعها.

(11)    أفلق الواعظ أي أتى بالأمور العجيبة.

(12)    مجلة المشرق. السنة الخامسة. العدد 2 . أول كانون الأول 1902 . ص 1012 .

(13)    النعمة 1910 – حزيران – ص 23  .

(14)    أتم بنصائحه أي أقام فيها وأخذ بها.

(15)    نفس المصدر ص 20 .

(16)    ذكرها الدكتور أسد رستم في تاريخه “كنيسة مدينة الله انطاكية العظمى” الجزء الثالث ص 57، فقال إن فيها، في السنة 1660، جرى طبخ الميرون المقدس في زمن البطريرك مكاريوس الثالث ابن الزعيم، ثم في زمن البطريرك سلفسترس الأول 1766 (ص151). وقد قال إنها كانت تحت الأرض وكان يدفن فيها البطاركة والمطارنة والكهنة (ص 160).

(17)    يفيد جوزيف زيتون في كتاب “الآسية” (انظر الحاشية4)، نقلاً عن الوثائق البطريركية، أن المدرسة، في الأساس، كانت “على شاكلة الكتّاب، وهي عبارة عن غرفة كبيرة مقسومة بساتر قماشي. فكان [الخوري يوسف] وزميله يني بابادوبولوس يقومان بالتدريس في هاتين الغرفتين، فاختص هو بتدريس العربية والرياضيات والعلوم الروحية ومبادىء اليونانية، بالإضافة الى الخط، بينما اختص يني بتدريس اليونانية وآدابها، وكان يتعلم، بنفس الوقت، من الخوري يوسف العربية” ص 54 .

(18)    النعمة 1910 – حزيران – ص 19 .

(19)    ينقل عيسى اسكندر المعلوف عن أحد العلماء الروس قوله عن الأب يوسف: “…هو الذي حرّك البطريرك مثوديوس لفتح مدرسة للشعب في دمشق، بل هو الذي كان سبب انشائها وثباتها بطوافه على بيوت المسيحيين وتحريضه إيّاهم لإرسال أبنائهم إليها. وهو ذاته الآن يدرّس نخبة من الشبان اللغة العربية والكتاب المقدّس والمنطق والبيان… أما المدرسة فقسمان أحدهما ابتدائي يدرّس القراءة والكتابة على الطريقة القديمة وفيه ثلاثة أساتذة من العرب. والثاني لغوي تدرّس فيه اللغات العربية والتركية واليونانية… وفيها الآن ثلاث مائة تلميذ. ورواتب الأساتذة يدفع بعضها المسيحيون والآخر البطريركية” (النعمة 1910 -تموز -ص 76 – 77).

(20)    كمعهد خالكي التابع للكرسي القسطنطيني وأثينا وبطرسبرج وموسكو (أنظر “الآسية” ص 55 نقلاً عن الوثائق البطريركية).

(21)    النعمة 1910 – تموز – ص 83.

(22)    “كنيسة مدينة الله انطاكية العظمى” لأسد رستم. الجزء الثالث. ص 190.

(23)    النعمة – حزيران 1910 – ص 19 .

(24)    ولده فضل الله، حسب عيسى اسكندر المعلوف، كان عماد البيت في تجارته وأخلاقه23. اتجر بالبضائع الدمشقية مع شقيقه جرجي في الاسكندرية فأسسا محلاً واسعاً اشتهر بحسن ادارته ( “الخوري يوسف مهنا الحدّاد” لجوزيف زيتون، أمين الوثائق البطريركية، مقالة مخطوطة).

(25)    حسب تقرير القنصل الانكليزي بدمشق كانت أجرة المعلم ليرة واحدة في الأسبوع.

(26)    النعمة – حزيران 1910 – ص 21 .

(27)    بشهادة تلميذه المرحوم الخوري اسبيريدون صرّوف الدمشقي (النعمة 1910 – تموز – ص77).

(28)    النعمة – حزيران – ص 23 .

(29)    نفس المصدر ص 22 .

(30)    “نخبة الآداب لتنوير الفتيان والشباب“. ترجمه المعلم ايواني بابادوبولوس. 1867 . ص 2 .

(31)    النعمة – تموز 1910 – ص 75 .

(32)    نفس المصدر ص 76 .

(33)    أنظر الحاشية 26 . وبشأن جرجي إليان، راجع الحاشية 4 .

(34)    تاريخ انتقاله الى بيت جديد.

(35)      النعمة 1910 – تموز – ص 80 .

(36)    قبل السنة 1724، سنة انضوائهم تحت راية الكنيسة اللاتينية.

(37)    “الخوري يوسف مهنا الحدّاد” لجوزيف زيتون.

(38)    حادثتان يشار إليهما بصورة أخص: حادثة حلب في السنة 1819، أيام البطريرك سيرافيم (1813 – 1823)، ومشكلة القلاليس، حتى السنة 1847، أيام البطريرك مثوديوس (1823 – 1850). فأما حادثة حلب فإن جراسيموس، مطران حلب، سعى، من خلال اتصاله بالسلطة العثمانية، الى إجبار كهنة الروم الكاثوليك على ارتداء لباس العامة وتقييدهم في مسائل الجنانيز والعمادات والأكاليل. وقد أعقب ذلك جدل طويل فخصام وقتال أسفر عن إعدام اثني عشر شخصاً من الروم الكاثوليك بأمر الدولة واستقالة المطران جراسيموس وانتقاله الى صيدا (“مشهد العيان بحوادث سورية ولبنان” لمخائيل مشاقة).

أما مشكلة القلاليس ففيها أن البطريرك سيرافيم، ثم البطريرك مثوديوس، سعيا إلى منع كهنة الروم الكاثوليك من لبس حلّة كهنة الروم الأرثوذكس. وبقي الأمر سجالاً، ومرمر النفوس، الى أن صدرت ارادة سلطانية من قبل السلطان عبد المجيد، في السنة 1847، فرضت على المطارنة والكهنة والرهبان الملكيين الكاثوليك لبس “قلنسوة مسدسة الزوايا بلون البنفسج” وأوجبت أن يكون لون اللاطية فوقها البنفسجي أيضاً. (“تاريخ انطاكية” لأسد رستم. الجزء الثالث. ص 184 – 185).

(39)    جاء في المصدر عينه – ص 214 – أنه “في أوائل السنة 1857 دعا اكليمنضوس، بطريرك الروم الكاثوليك، الى الحساب الغربي فقبل البعض بذلك وامتنع البعض الآخر. وكان على رأس الممتنعين أساقفة بيروت وزحلة وبعلبك وصيدا والخوري يوحنا حبيب والخوري غبريال جباره. واشتدّ الخلاف فعقد الأساقفة مجمعاً في عين الذوق، فوق زحلة، وأمّ الآستانة الكاهنان يوحنا حبيب وغبريال جباره، فوصلاها في أيار سنة 1859 واتصلا بمجمع البطاركة المنعقد فيها آنئذ وفاوضا باسم أنصارهما في سورية ومصر وعادا الى حضن الكنيسة بقرار من مجمع البطاركة…”.

(40)    في المصدر عينه أن المرسلين الأميركيين اقتصروا في بادىء أمرهم على التعليم الابتدائي وتوزيع الانجيل. ثم بدأوا يضمّون مسيحيين شرقيين من الروم والموارنة والأرمن فتكونت بذلك نواة لطائفة انجيلية في بيروت (1827). وتابعوا أعمالهم التبشيرية فتسرّبت تعاليمهم الى القرى. وفي السنة 1832 أمر مطارنة اللاذقية وطرابلس وصور وصيدا بإحراق المطبوعات البروتستانتية فتم ذلك في احتفالات علنية في دور الكنائس (ص 192).

(41)    زار البطريرك مثوديوس ناحية حاصبيا شخصياً، لخطورة الوضع. (رستم- ص 193).

(42)    النعمة – تموز 1910 – ص 78 .

(43)    رواية استشهاد الخوري يوسف بتفاصيلها مستقاة من سيرة حياته كما وضعها يوسف، ابن أخيه ابراهيم، سنة 1884 بناء لطلب الطيّب الذكر ديمتري شحادة الصبّاغ. وهي محفوظة في المكتبة البطريركية بدمشق ويعرّف عنها بـ “الوثيقة 264”. تجدر الاشارة الى أن كاتب السيرة إنما ينقل، على حد قوله، ما سمعه من والده أو ما عرفه شخصياً عن الشهيد حيث إنه كان متتلمذاً عليه وملازماً له في أكثر الأوقات، مدّة حياته في المدرسة والى يوم الحادثة.

(44)    في الثامن من شهر تشرين الاول عام 1993 اتخذ المجمع الانطاكي المقدّس المنعقد في دير سيّدة البلمند البطريركي القرار التالي:

”           إن الكنيسة الانطاكية التي عاشت بقداسة القدّيسين وشهدت لها ترى اليوم نفسها عطشى الى ان تتجدّد بهم وهي تعي نفسها “محاطة بسحابة كثيفة من الشهود” (عب1:12).

إن كنيسة انطاكية تحسّ نفسها مشدودة الى واحد من هؤلاء الشهود الخوري يوسف مهنّا الحدّاد الذي وعظ وعلّم وأشاع نور معرفة اللاهوت وكان فقيرا، عميق الإيمان، صبورا، وديعا، متواضعا، شفوقا، دمثا وكلّل حياته بمجد الشهادة في دمشق في العاشر من تمّوز السنة 1860 فجاء بذل دمه نطق الروح فيه (راجع متى 10 :20، مرقس 13 :10). وإذ نحن تأمّلنا سيرته و “هالة مجد الله” عليه (رؤ 21 :11) “حسن لدى الروح القدس ولدينا” (أع 15 :8) ان نعلن قداسة الخوري يوسف مهنّا الحدّاد وحدّدنا تاريخ العاشر من تمّوز من كلّ سنة ذكرى “للقدّيس الشهيد في الكهنة يوسف الدمشقي ورفقته” “.

هذا وكان قد صدر كتيّب تضمّن سيرة القديس وخدمة ليتورجية كاملة له جعلنا بعضها في متن هذا الكتاب. وقد قدّم غبطة أبينا السيّد أغناطيوس الرابع (هزيم) للسيرة بكلمة هذا نصّها:

“عجيب هو الله في قدّيسيه”

والتعداد في الكنيسة تعداد قدّيسيها. في أوساط الكنيسة المقدّسة قول كثير على قول وكلمة سخية على كلمة وغيرة أين منها غيرة ايليا النبي. لكن الكنيسة في قداستها وبالتالي في قدّيسيها، ففيهم يتمجد الله ويتمجد الرب يسوع المسيح. صفة القداسة المحبة. لأن الله محبة. ومجرد القول ليس المحبة، ومجرد الكلمة ليس المحبة. وأكثر ما يكون كلاهما تعبيرا عن المحبة لا المحبة بالذات. في المسيح فقط، في الكلمة المتجسد وحده “صار القول فعلا” وأمسى التعبير واحدا مع المعبّر عنه واللفظ صار وجوداً.

والقديس الخوري يوسف مهنا الحداد الذي نطلب شفاعاته يحصى اليوم مع القدّيسين. فقد كهن للرب لا لسواه. علّم فلم يعلّم عن ذاته. كتب فلم يقل من هو بل أخبر بالسيّد السيّد الذي تنحني امامه كل ركبة في السماء وعلى الأرض. متزوج لكن زواجه في الكنيسة ومن اجلها. كان الكاهن هو وزوجته واولاده، وكاهن الشعب أخاً وأباً ومرشداً، عاملاً دون هوادة: هو كان لله ولكنيسته ولم تكن الكنيسة له. وهبها كل شيء ولم “يستوهبها” أي شيء، لا لنفسه، ولا لامرأته، ولا لأولاده ولا لسواهم. الا انه كان في كل شيء للكنيسة الحية وللشعب الذي يرعاه.

القديس الخوري يوسف لم يخلّف على الأرض إلا جسداً مقطعاً تغذى بالقربان ليصبح هو قربانا.

يا قديس الله صلّ من اجلنا نحن الخطأة واشفع بنا.

دير مار الياس شويا 17/8/1993

U أغناطيوس الرابع

بطريرك انطاكية وسائر المشرق

)عن القديسون المنسيّون في التراث الأنطاكي للأرشمندريت توما بيطار(

Leave a comment