في التقشف وطول الأناة

في التقشف وطول الأناة

عظة للقديس سمعان اللاهوتي الحديث

ترجمة الأب أنطوان ملكي

إخوتي وآبائي

بما أنني دائماً ضعيف في الروح والجسد من خلال سقوطي وإهمالي بالإرادة والمزاج، كان الأفضل لي أن أحفظ الصمت وأنظر فقط إلى أعمالي إلى أن أتمكن من تجاوز أخطائي ووضعها تحت سيطرة الأفكار الحسنة0 أتمنى لو كان لي أن أستمتع كلياً بسلام الروح وأن أخرج من انشغال الفكر بالتراب والأرض وأدخل ميناء راحتنا المباركة! لكنكم اخترتموني رئيساً لشركتكم المقدسة وهكذا عليّ أن أحض محبتكم لأن خلاص أخّوتكم يعطيني التعزية0 بالرغم من أني ضعيف الروح، لكنكم سوف تكونون مخلصين بصلوات مَن هو أبي وأبيكم0 لهذا، ومع أني غير قادر على فتح فمي وبالكاد أقدر على كتابة موعظتي وتوجيه تذكير لأخوتكم، فأنا أناشد محبتكم جدياً كخدام حقيقيين للمسيح بأن تصلوا من أجلي في حالتي البائسة هذه كيما أنا أيضاً أحصل على الخلاص معكم وأعد معكم في مسيري على طريق وصايا الله0

لهذا أنا أنصحكم وأتوسل إليكم في المسيح يسوع أن تنتبهوا لأنفسكم0  فليفكر كل منكم بحكم رزين” لا يرتأي فوق ما ينبغي أن يرتأي”[1]0 لا تنظروا إلى حياتي المهملة المخبلة إنما اتبعوا خطوات سيدنا ومخلصنا يسوع المسيح الذي سوف نقدم له حساباً عن أنفسنا كالقاضي العادل المعصوم0 إمنحوني هذا السبب للإفتخار. فبالرغم من أني لوحدي ماضٍ إلى الهاوية لتهاوني، لكني أنقذتكم من الفخاخ بالصراخ عالياً. وبالرغم من أنه عليّ أن أتفجع وأندب إهمالي لكي أجد اكتفاءً برؤيتكم تحلقون عالياً فوق فخاخ الشيطان0 لهذا يا  أحبائي، احفظوا بدون خطأ وصايا الله فتخلصوا كالغزال من الشرك وكالعصفور من فخ الصيادين0

الوصية الأولى هي محبة الله من كل القلب والثانية هي محبة الآخرين كما أحب الله العالم[2]0 المحبة الأصيلة تُعرف بهذه العلامات: لا تنتفخ، لا تطلب ما لنفسها ولا تحسد[3] الأخوة لكنها تندفع لفعل الخير0 أن لا تتفاخر[4]، ولا تتذمر[5] ولا تجادل على أي شيء سواء كان كبيراً أو صغيراً. المحبة تتلافى الشبع ليس فقط من المأكولات المختلفة إنما أيضاً من الماء إذا أمكن خاصة في هذه الأيام من الصوم0 لأن الذي يندم بصدق واجتهاد الآن يحصل من العلاء على غفران كل الإساءات التي صنعها خلال السنة كما هو مذكور في الكتاب0 تعلمون أن التوبة المتوهجة المصحوبة بالدموع التي تنبع من عمق القلب سوف تذيب وتحرق قذارة الخطيئة كالنار وتطهر النفس التي تنجست0 وفوق هذا، فالندامة من خلال افتقاد الروح القدس تمنح سيلاً عارماً من النور للروح فتمتلىء به رحمة وأعمالاً صالحة[6]0 لهذا أيها الأخوة والآباء أصلي لكي نستعمل الصيام في هذا الأسبوع الثالث من الصوم وفي الأسابيع التي تتبع بزيادتنا كل يوم حماساً إلى حماس واندفاعاً إلى اندفاع حتى نصل متألقين بالجسد والنفس معاً إلى أحد الفصح0

كما ترون، لقد قطعنا بمعونة الله بحر هذا الأسبوع الثاني من الصوم بشجاعة وإرادة قوية0 أنا أشهد بأنكم لم تقصّروا في الحصول على بركات الصوم، إنما قضيتم الليالي في ترتيل المزامير بانتباه واحتفظتم بتقشف نشيط. تابعوا ذلك مقتنعين بالمغريات والذبذبات الموضوعة أمامكم0 أنا أعرف أن بعضكم يجلس حتى أمام هذه الوجبات البسيطة ويحسب نفسه غير مستحق للمشاركة فيها بقلب منكسر وروح منسحقة[7]0 وفوق هذا، عندما انتبهتم إلى أنفسكم وإلى عملكم اليدوي مكثتم في الصمت المتواضع بنفوس ملأى بدموع الندامة والصلاة والتضرع والجهاد الروحي وحني الركب0 لقد تغيرتم بشكل مدهش رائع واكتسيتم المنظر الأكثر نسكاً وجمالاً0

أما الآن، بما أننا سوف نجرد أنفسنا للجهاد الأخير في الصوم، أنا أتوسل إليكم بأن نكافح في هذا الأسبوع المقدس من الصوم الشريف لنحفظ العيار نفسه لمجهودنا كما في الأسابيع التي مرت0 نحتاج إلى اعتدال وحماس عظيمين حتى لا نقضي أيامنا مثل أولئك الذين في العالم0 أنتم تعرفون كيف يعتبرون أنهم عبروا الصوم المقدس عند انتهاء الأسبوع الأول0 إنهم لا يتخيلون ذلك فقط بل يقولونه لبعضهم وللآخرين0 ولكن يجب أن نحترس جداً من أن نتخيل ونحكي لبعضنا كما يفعلون ونبدو كأننا أنكرنا نذرنا0 بالنسبة لنا، نحن الذين هجروا العالم وصُلبوا له وكرسوا كلياً لله، لم يعطَ لنا فقط هذا الموسم لقانون التقشف إنما حياتنا كلها0 في هذه الحياة نرى إلزامية التقيد بالتقشف بدون عذر0 ألسنا ملزمين بأن نفعل هذا كل الوقت؟ ألم ننذر الجوع والعطش والعري[8] وتحمّل كل الأشياء بفرح؟ ألا ينبغي بنا أن نفعل هذا بشكل خاص في موسم الجهاد الصيامي؟ إن كنا لا ننوي أن نصنع ذلك كل أيام حياتنا، وبالمقابل فضلنا الضحك والكلام التافه والعبث والمجادلة، فكيف نتميز عن غير المؤمنين والوثنيين؟ بالحقيقة بلا شيء. فإن كان البحث والجري وراء الخبز والخمر واللباس يجعلنا كالوثنيين[9]، فإن هذا التصرف الذي ذكرت أولاً سوف يساوينا بهم، وهو أسوأ وأكثر خطيئة من هذه الأشياء الأخيرة؟ ألن يصح فينا قول النبي”قيس بالبهائم التي لا عقل لها وشبه بها”[10]0

يا أخوة، فلنطع الله الذي يعلن لنا كل يوم من خلال رسوله بأننا “إن أكلنا لا نزيد وإن لم نأكل لا ننقص”[11]0 وهو أيضاً يقول” لا تهتموا قائلين ماذا نأكل أو ماذا نشرب أو ماذا نلبس000 لكن أطلبوا أولاً ملكوت الله وبره وهذه كلها تزاد لكم”[12]0 ولكن لتمنعوا أياً كان من القول “إذا تأخر في العطاء وأنا ليس لديّ شيء لآكل ماذا أفعل؟” وهو يقول: “انظروا إلى طيور السماء إنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن وأبوكم السماوي يقوتها”[13]0 هو أيضاً يقول: “يا قليلي الإيمان ألستم أفضل من عصافير كثيرة؟”[14]0 وحتى لا تتذمروا بجبن من أجل الأكل والشراب هو يصرخ عالياً إلينا “طوبى للجياع والعطاش إلى البر لأنهم يشبعون”[15]0

لهذا إذا كنت تصدق المسيح وتعترف أن لا غش فيه، فعندما تكون جائعاً أو عطشاناً وليس لديك شيء لتأكل وتشرب وتسأل وكيل المؤونة أن يعطيك خبزاً أو خمراً أو شيئاً للأكل ولا يعطيك، ربما لأنه مشغول، فكّر واسترجع كلمات السيد وقل  لنفسك: “أنا جائع وعطشان لكني أنتظر الرب بصبر[16] وهو سوف يتصرف بحسب ضعفي ولن يتخلى عني”0 كن إذاً صبوراً يا أخي وسوف يكون لك مكافأة كبرى من الله0 اصنع الشيء نفسه مع كل التجارب التي تلاقيها0 بهذه الطريقة تصبح موضع احترام في هذه الحياة الحاضرة، وفي الحياة الآتية تُعَد بين الشهداء0 كم من الأخوة بالمسيح يتوقون إلى بعض الماء البارد وهم مطروحون في الزاوية يشكرون الله بدل الانتقال إلى الغضب وترديد التجديف؟ أما نحن فلنا بنعمة المسيح مؤونة لا تنضب لكل حاجاتنا المادية، ولنا الكثير فوق ذلك، كله من خلال عطاياه السخية0 فإذا كان أحدنا لا يملك شيئاً ويتمادى أكثر إلى التجديف فأي غفران يستحق؟ وأنا أعرف أنني بقولي هذه الأشياء أدين نفسي وكلماتي سوف تدينني سريعاً، ولكني أصلي لأن تكون لكم للتذكير0

إذاً فكروا بفائدة أيام الصوم التي مرت، كيف قضيتموها وكم هو عظيم حماسكم0 أتوسل إليكم، جاهدوا لإنهاء الصوم كله بهذه الطريقة نفسها0 على كل منكم أن يفتكر بسيرتكم الحسنة، بعظمة ورعكم وتواضعكم وحماستكم واهتمامكم بالقوانين الطقسية وعملكم اليدوي0 أيضاً أحضّكم أن لا تنسوا الصوم الذي يذبح الأهواء، والتقشف الذي يطهر، ولا تنسوا أن تتصرفوا بالطريقة نفسها0 حتى لو أنه كثيراً ما يتغير الأكل وأنتم تتعزون بذلك احفظوا عزمكم غير متزعزع وقانونكم ثابتاً0 فإذا أكلتم أكثر من العادة اعملوا بحماس أكثر في أعمال الرب لتمنعوا الراحة من أن تكون فرصة للكسل والضرر بدلاً من الشكر والفائدة0 أيضاً يا إخوتي كونوا معتدلين رزينين0 كما أخبرتكم اتبعوا ما صنعتم الأسبوع الفائت واحفظوا الأسبوع الذي يبدأ بدون أكل سمك ولتكن سيرتكم بخوف الله0 لا تنبذوا مهماتكم وأعمالكم اليدوية لتمشوا بدون هدف وبتبذير وتعرضوا أنفسكم لشيطان الضجر0 ولكن إذا وجد أحدكم أخاه واقفاً أو جالساً عند مروره به فليصنع له سجدة بحماس ويكمل طريقه فقد يعود الأخ العاطل عن العمل إلى رشده ويستحي بنفسه ويرجع إلى عمله0 وهكذا إذا تصرف كل منكم بهذه الطريقة فينجو من دينونة البطالة والكلام التافه0

ألم تسمعوا ماذا روى الرجل المبارك زوسيما[17] عن أولئك الرجال الذين كانوا معه في نفس الدير بتدبير الله، كيف تركوا الدير وقضوا الصوم كله في البرية؟ لم يلتقِ أحدهم الآخر وإذا التقى الآخر صدفة كان يهرب منه ويتلافاه0 لم يحتملوا أن يكون الواحد مع أي من الآخرين0 وبالشكل نفسه عندما عادوا إلى الدير لم يسأل أحدهم الآخر عمّا رأى أو صنع في البرية بل كل منهم يتصرف كأنهم غرباء ومنفيين ورجال من لغات مختلفة0 برأيي، لم يصنعوا ذلك إلا لأنهم تبعوا بصراحة قانون عدم التكلم بما هو تافه0 إذا كان أولئك الرجال تمكنوا من قضاء هذه الأيام أو هذه السنوات بدون التحدث أبداً أحدهم مع الآخر، ماذا عنا نحن الذين لا نبتعد عن المحادثات والكلام الباطل لأيام قليلة؟ ولماذا أحكي عن أيام؟ لا يمكننا احتواء أنفسنا لساعة واحدة0 ماذا نفعل يا إخوتي إذا أتى الرب ديّان العالم كله فجأة ووجدنا في هذه الحالة، وهو من يطلب منا حساباً عن كل كلمة باطلة في يوم الدين؟ الجسد يشتهي هذا الروح[18] بشهواته وحرارته ويشن حرباً شرسة ضد النفس0 البطن يريد المأكولات المختلفة لأنه صُنع لهذا الهدف0 إن لم نضبط عادة اللسان، التي هي مهمة خفيفة وسهلة، كيف لنا أن نكبح هذه الأهواء الكبيرة القوية المتسلطة على طبيعتنا حتى على الشهوة واللذة؟

إذاً يا أخوة لنبدأ من اليوم بالجري بكل قوانا ونرمي وراءنا كل الشهوات التي تتحكم بنا، حتى نحلق كنسور ذوي جوانح ذهبية ونصل إلى فصح السيد حيث دخل المسيح ربنا كسابق لنا[19]0 إذا وافقتم فسوف يكون قانوناً بيننا أنه إذا وجد اثنان تاركين نفسيهما للبطالة والأحاديث في ما عدا السبوت والآحاد فلن يكون لهما شيء ليأكلاه في ذلك اليوم إلا الخبز الناشف والملح والماء البارد وذلك وقوفاً عند آخر الطاولة. بهذا القانون فإنكم تحفظون أنفسكم بلا ملامة لجهة الكلام البطال والجدال0 وهكذا تخدمون الله الذي من أجله جعلتم حارساً للفم وباباً حصيناً على الشفتين[20]0 بهذا العمل، أنتم تريحونني وتملأون نفسي الفقيرة بالبهجة أنا أباكم غير المستحق0 سوف تنشئون لأنفسكم مكسباً غير قليل إذ ترشدون أنفسكم بقاعدة جيدة وعادة محترمة من أجل محبة المسيح0 وبالنتيجة فسوف تستحقون الاحترام والتقدير من كل الناس0 من خلالكم سوف يتمجد الله لأنكم سوف تظهرون مقلدين لحياة القديسين في هذا الجيل وهؤلاء بنظري ليسوا موجودين بيسر في أيامنا هذه لا في البلاد التي نعيش فيها ولا بين الرهبان والأديرة التي نسمع عنها0

هكذا أتوسل إلى محبتكم يا آبائي القديسين وخدام المسيح، لا تتجاهلوا كلام أبيكم غير المستحق ولا تتركوا أقوالي تظهر كالهباء الصرف0 بالرغم من أني ضعيف ومليء بعشرات الآلاف من الأخطاء انتبهوا وتحققوا من أني لم أعظكم أي نصيحة من خارج وصايا الله والكتاب المقدس0 إذاً اصنعوا بداية حسنة0 شجعوني قليلاً حتى أستعيد قوتي بصلواتكم المقدسة وأرفع رأسي وأنظف وجهي وأغسل عيني وأستيقظ من التهاون والنوم العميق0 بمقابل المنافع التي اكتسبتموها مني أنا خادمكم غير المستحق اسمحوا لي أن أطلب محبتكم بقدر ما أستطيع وليس بقدر ما أستحق بهذه الكلمات التي أنطق بها بنعمة الرب، إذا فُتح فمي الدنس0 بالفعل يا إخوتي، أنا أصلي ألا تتجاهلوا طلبي بل كما منحتموني أن أتكلم بحضرتكم امنحوني إرادتكم0 بقدر ما تقطعونها تحيون حياة الشهداء ورياضيي المسيح0 أنا من جهتي سوف أقدّم من اليوم وصاعداً نفسي وجسدي أيضاً كميت طوعياً من أجلكم0 وأصلي أن يكون هذا كغذاء لي على طريقي إلى الحياة المقبلة في المسيح يسوع ربنا له المجد والعزة مع الآب والروح القدس الآن وكل آنٍ وإلى دهر الداهرين آمين0

 

 


[1] روم 3:12

[2] يو 16:3

[3] اكو 2:13

[4] اكو 4:13

[5] اكو 10:10

[6] يع 17:3

[7] مز 34: 19

[8] اكو4: 11

[9] متى 6: 31 ، لو 12: 29

[10] مز 48: 20

[11] اكو 8:8

[12] متى 6:31 و 33

[13] متى 6:26

[14] متى 10:31

[15] متى 5:6

[16] مز 40:1

[17] كاتب سيرة القديسة مريم المصرية.

[18] غلا 5: 17

[19] عب 6:20

[20] مز 141: 3

Leave a comment